الجفاف الذي يضرب أوروبا، في موجة لم تشهدها منذ فترة طويلة، وأدى إلى هروب المياه من بحيرات وأنهار عتيقة؛ ليس هو الجفاف الوحيد الذي أصاب عالمنا، ولعله أراد أن يلفت أنظارنا إلى هذه الأنواع الأخرى من “الجفافات”، والتي لا تقل خطورة!

إن أزمتنا الحضارية يمكن أن نراها موجزةً من خلال “الجفاف”، وما يَعنيه من رمزية شديدة الكثافة..!

فالجفاف مرتبط بالماء، الذي هو أصل الحياة؛ {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30).. ما يعني غيابَ الخضرة: رمز الراحة النفسية، وعلامة الحياة النابضة.. وغيابَ الزرع: قوت الإنسان.. كما يعني حضورَ التصحر: بما فيه من صلادة وقسوة.. وحضورَ تشققات الأرض: مؤشِّرةً إلى تشقاقات المجتمعات، وتصدعِ الإنسان المعاصر.. ألم أقل لكم: إن الجفاف له رمزية شديدة الكثافة!

وأما أنواع الجفاف الأخرى التي أصابتنا، فمنها: جفاف العقول.. جفاف العلاقات والمشاعر.. جفاف السياسات.. جفاف حتى في الخطاب الديني..!

جفاف العقول

المتأمل في ما يحوطنا من مشكلات تستنزف طاقاتنا، وتهدد إنسانيتنا، وتجعل الحياة البشرية في مهب الريح، وفي مكمن الخطر.. لا بد أن يخلص من ذلك إلى أن ثمة خللاً في طريقة تعاطينا مع ما يواجهنا من تحديات!

لقد عقمت العقول أن تجد حلولاً مبدعة، وأن تفتح لنفسها “ممرات آمنة”! وبعضنا ركن عقله جانبًا واكتفى بتنفيذ ما يُملى عليه، أو ما يزيَّن له.. ولا يتعب نفسَه حتى في التفكير في ذلك لينظر صوابه من خطئه! وبعضنا استسلم للطرق المعروفة من قبل، وكأنه يخشى الخروج عن المسار، ولا يدرك أن الخروج عن المألوف كثيرًا ما يكون فيه الحل والإبداع؛ فإن من يسلك الطرق ذاتها عليه ألا يتوقع نتائج مغايرة لما حدث من قبل!

وبعضنا راح يسفِّه عمل العقل من الأساس، ويصطنع تناقضًا بين العقل والشرع، وكأنّ الشرع يخاطب أبداننا لا عقول فيها، ويريد “حركة ميكانيكنة” لا إبداع فيها ولا اجتهاد..

صحيح أن ثمة فريقًا أساء استخدام العقل وسلك به دروبًا ليس مؤهَّلاً للسير فيها، مما أوجد ردَّ فعلٍ معاكسًا يخشى من إعمال العقل ويتوجس خيفة من أصحاب الدعوة إلى التفكير.. لكن: متى كان سوء الاستخدام حجةً على أصل الفكرة!

إن فداحة المشكلات التي تواجهها الإنسانية المعاصرة تتطلب إبداعًا في التفكير، وإعمالاً للعقل على نحو يسلك دروبًا جديدة غير مطروقة.. فالعقل نور من الأنوار التي منحها الله تعالى للإنسان، وعليه أن يعرف كيف يستخدمه ويفعِّله، حتى لا يشتط ولا يتوه.

جفاف العلاقات والمشاعر

“الإنسان مدني بطبعه”؛ هذه حقيقة مقررة في الفكر والواقع مذ زمن بعيد.. ولا تطيب حياة الإنسان إلا بالمؤانسة مع غيره.. و”الزوجية” سنة من سنن الله تعالى في الكون وفي الاجتماع البشري: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49).

والمجتمعات لا تستغني عن دفء التواصل والتفاعل، ولا عن قيم التراحم والتعاطف؛ مهما بلغت قدرة الفرد فيها نماءً وثروةً واكتفاءً.. فليس بالمادة وحدها يحيا الإنسان!

وما أصاب علاقتِنا الإنسانية من تفكك وتشرذم و”جفاف”.. على مستوى الأسرة، والصداقة، والجوار، وزمالة العمل، وغير ذلك.. لا بد أن يستنهض الجهود للتفكير في أسباب ذلك، وفي طرق معالجته..

افتقدنا هذا الدفء في التواصل الذي يكون رفيقًا ومؤنسًا للمرء في أزماته وحالات ضيقه؛ بحيث يجد يدًا تربت على كتفه، وكلمةً حانية تمسح عنه الألم وتنير له الطريق، بل ويجد الدعم المادي إن احتاجه.. أليست هكذا تكون الحياة، ولا معنى لها دون ذلك!

حتى القدرة على التفاهم والنقاش، والالتزام بأدب الخلاف، وإدارة حوار جاد حول القضايا.. صار ذلك كله عزيز المنال! وصارت “الشخصنة” و”الذاتية” سيدة الموقف وموجِّهة مسار النقاش!

ومع غياب دفء العلاقات، حلَّ محلَّه الصراع، والتنافس غير الشريف، والتنازع الموغل في الشقاق، والخصومة غير المتحرّجة في وسيلة، وغير المقصِّرة في مكر!

لقد أصبح الإنسان المعاصر غريبًا ليس فقط في عالمه أو في محيطه، بل ربما داخل أسرته الصغيرة أيضًا!

جفاف السياسات

إن الصراع الذي بات عنوانًا على المشهد العالمي، بل والإقليمي والمحلي، حتى لا تكاد تخلو دولة من نزاع مع جيرانها، أو في داخلها.. لهو خير دليل على ما أصاب العقلَ السياسي المعاصر من جمود، وما وقع فيه من أزمة!

لقد صارت الدول رهينة لسياسات قاصرة، ترى في التنوع تضادًا بدلاً من التكامل، وفي الثروات فرصة للاستنزاف بدلاً من التنمية؛ ولم تعد مصلحة الإنسان- من حيث هو إنسان- هي المحدِّد الرئيس، ولا الموجِّه المصوِّب.. تمت مصادرة القرار لصالح فئات بيدها القوة والنفوذ، ولا تبالي في سبيل مصالحها الشخصية أن تجرف الإنسان في طريقها، أو تشعل الحرائق من بعدها!

ولا تكاد تخبو أزمة دولية حتى تنشب أخرى.. وكأن عالمنا لا يجد حياته ومتنفسه إلا في الصراع والشقاق.. وأصبح هذا الوضع البئيس له منظِّروه ومفكروه، وتروِّج له كتابات موجَّهة في الغالب، ومن الصعب أن تكون نابعة من ضمير يقظ أو تفكير حر!

فإلى متى تظل القسمة بين شمال وجنوب، وشرق وغرب.. ومتى تَضيق الفجوة بين دول عالمنا؛ هذه الفجوة التي يراد لها أن تتسع وتمتلئ بلهيب الحرائق!

جفاف الخطاب الديني

و”الخطاب الديني” هو الآخر لا يُستنثى من أزمة الجفاف! بعد أن فقد القدرة على تطوير آلياته ومراجعة بعض مضامينه، وعلى الإنحياز للإنسان في مواجهة من يريد سحقَ إنسانيته، أو حَرْفَ فطرته، أو من يغلبه على أمره ويبخسه حقوقه!

“الدين” أنزله الله تعالى هدايةً تحفظ الإنسان من الزيغ والضلال، ومنهجًا يُسعده في الدنيا والآخرة، وطاقةً تدفعه لعمارة الأرض والتمتع بما أحل الله من الطيبات، وضمانةً تقرر للإنسان حقوقه وتمنعه من أن يعتدي على غيره أو يسكت على اعتداء غيره عليه..

وأيّ فهم للدين سوى ذلك؛ من تسويغ انحراف، أو تبرير غبن، أو ترويج عزلة؛ إنما هو فهم خاطئ يجعل الدين في مواجهة الإنسان لا عونًا له، ويسيء للدين بقدر ما يسيء للإنسان!

ومن المهم أن يعي الخطاب الديني حقيقة الرسالة المنوطة به، وأن يدرك ثقلها وشرفها ومكانتها؛ حتى يبذل في سبيل القيام بها قصارى جهده، ولا يدّخر وسعًا، أو يقصِّر في وسيلة، أو يركن لقديم من القول لم يعد تكراره مفيدًا..

و”الدين”، من حيث هو دين، غير عاجز عن معالجة هموم الإنسان ومواكبة تطلعاته.. بقي على “أهل الدين” أن يدركوا ذلك، وأن يكون على مستوى “الحقيقية الدينية”..

نسأل الله تعالى ألا يَطول جفافُ عالمنا في مختلف تشققاته، وأن يَهبنا ماءً عَذْبًا فُرَاتًا يروي ظمأ الأرواح والعقول..!