هذه وقفات مع سورة الكهف ، وهي من القصص المكية التي تعالج الدعوة النبوية وعناد الكفار أمام هذه الدعوة رغم الحجج البينة والآيات الباهرة الدالة على صدق النبي ﷺ وصدق ما جاء به من عند ربه.
والسورة تبدأ بمقدمة طويلة بعض الشيء تبين المرحلة التي فيها الصراع بين الحق والباطل، وتذكر ببعض القواعد والكليات المتعلقة بالدعوة، والخلق وحكمة خلقهم الداعية لاختلافهم وتباين ردودهم على الحق الواضح الذي يأتيهم من ربهم، وبعد المقدمة يأتي متن السورة الذي يحوي أربع قصص يفصل بينها ببعض التعقيبات بل قد تكون في ثناياها، وكلها دال على نوع من أنواع الابتلاء ونوع من أنواع التعاطي مع هذا الابتلاء. وكل قصة مكونة من طرفين على الأقل: فأصحاب الكهف المؤمنون يقابلهم قومهم الكافرون، وصاحبا الجنتين مؤمن وكافر، وموسى والخضر عالمان مختلفي العلم، وذو القرنين قائد يلقى مقودين مختلفين يفرق بينهم بحسب ما يليق بكل منهم.
ثم تأتي خاتمة تؤكد المعاني العامة للسورة وتوجه لبعض الخلاصات الضروري الانتباه لها.
مقدمة السورة
تبدأ سورة الكهف بحمد الله الذي أنزل على نبيه ﷺ كتابا مستقيما لا عوج فيه، ليؤكد على انقسام الناس إلى مؤمن مبشر وكافر منذر.
وهذا المدخل الجميل الملخص لطريقة تعامل الناس مع الوحي كان المدخل المناسب لتسلية النبي ﷺ عما يلاقي من مشقة التكذيب وآلام الإعراض، حتى كأنه يهلك نفسه أسفا على قوم قد سبق القدر بعدم إيمان بعضهم، وهو غير مكلف بهدايتهم، وإنما تكليفه البلاغ وقد أحسن فيه وأجاد { فَتَوَلَّ عَنۡهُمۡ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٖ } [الذاريات: 54] .
يلي ذلك تذكير بأن الحياة كلها خلقت للابتلاء، والنعم التي تصرف المتعنتين عن الخالق خلقت عمدا لحكمة الابتلاء، والاختبار، والامتحان، ومآل المبتلى والمتبلى به العدم والفناء ويستلزم ذلك لا محالة العودة إلى الله لمجازاة المحسن ومعاقبة المسيء، حتى لا يقع عبث لا يليق بحكمة الخالق جل جلاله.
متن السورة
بعد المقدمة الموجزة يأتي متن السورة، وهو متألف من خمس قصص أربع منها لم ترد في غير هذه السورة، وهي قصص أصحاب الكهف وصاحبي الجنتين، والخضر وموسى، وذي القرنين، والخامسة جاءت في سور أخرى، وهي قصة الشيطان لعنة الله عليه، وآدم عليه السلام التي هي مبدأ الصراع في الدنيا، وأصل الأصول في منشأ أولياء الله وأولياء الشيطان من بني آدم.
وفي ثنايا كل قصة لفتات، وبعد بعضها تعقيبات، وبين الأوليين والأخريين تعقيب طويل يبين بعض العبر والعظات المهمة.
قصة أصحاب الكهف
ماهي قصة أصحاب الكهف ؟
تثمل قصة أصحاب الكهف دور المؤمن العاجز الذي امتلأ قلبه بالإيمان، وعقله باليقين، فلم يعد في شك من دينه، ولا في مرية من أمره، وصادف صدودا من قومه، وعنتا منهم، وإكراها له على الدين الباطل رغم وضوح البينات عليه.
وهؤلاء القوم ذكر الله من شأنهم أمرين مهمين:
الأول: اختلاف الناس الكبير فيهم عددا ولبثا، وغير ذلك، { سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٞ رَّابِعُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ وَيَقُولُونَ خَمۡسَةٞ سَادِسُهُمۡ كَلۡبُهُمۡ رَجۡمَۢا بِٱلۡغَيۡبِۖ وَيَقُولُونَ سَبۡعَةٞ وَثَامِنُهُمۡ كَلۡبُهُمۡۚ قُل رَّبِّيٓ أَعۡلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعۡلَمُهُمۡ إِلَّا قَلِيلٞۗ }.
الثاني: اقتصار القرآن على المهم المفيد، والعبرة الضرورية من قصتهم للاقتداء وقد طوى من قصصهم ما سوى ذلك، بل نهى رسوله ﷺ أن يستزيد من خبرهم عما جاءه، أو أن يأخذ من علمهم عن أحد من الناس، {فَلَا تُمَارِ فِيهِمۡ إِلَّا مِرَآءٗ ظَٰهِرٗا وَلَا تَسۡتَفۡتِ فِيهِم مِّنۡهُمۡ أَحَدٗا } [الكهف: 22]. {قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُواْۖ } [الكهف: 26]
وهذا شأن القرآن مع كل القصص يأتي منها بالمفيد والعبرة ويطوي ما سوى ذلك، فلا يبينه ولا يفصل فيه في الغالب الأعم.
لذلك جاء من قصصهم في هذه السورة ما يلي:
أولا: أنهم مؤمنون بالله واليوم الآخر أقوياء الإيمان صادقوا التوجه { إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى } [الكهف: 13].
ثانيا: أنهم استعانوا بربهم واعتمدوا عليه وبذلوا ما في وسعهم في سبيل الحفاظ على عقيدتهم ودينهم { إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡيَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا } [الكهف: 10] .
ثالثا: أن اعتمادهم على الله وإيمانهم به وتوكلهم عليه، وأخذهم بالأسباب المتاحة ثبتهم الله به، ومنع أعداءهم من فتنهم بسببه { وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا} [الكهف: 14]
رابعا: أن الصورة كانت لديهم في غاية الوضوح، فهم في غاية التمسك بمعتقدهم، وفي غاية الإدراك لما فيه قومهم من التخبط والبعد عن الحق رغم براهين الحق الواضحة، وغياب أي برهان على الباطل المدعى{ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا * هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا } [الكهف: 14-15].
خامسا: أنهم بعد المفاصلة العقدية([1]) اعتزلوا قومهم حين عجزوا عن مواجهتهم لقلة العدد والعدة وانعدام الحيلة رغبة فيما عند الله وطلبا لثوابه ومرضاته { وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا } [الكهف: 16].
وفي هذا تلميح للمسلمين إلى ضرورة الهجرة حين العجز عن التأثير في المجتمع المكي، فرغم آلامها وما فيها من مخاوف ومفارقة للأوطان والأهل ففيها رحمة من الله وفضل وتوفيق، كما فيها ألطاف لا تعد يشير لها ما لقيه أصحاب الكهف من إكرام الله لهم في كهفهم ب:
- صرف الشمس عنهم { وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ} [الكهف: 17]
- توسيع المكان لهم {وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ} [الكهف: 17]
- تقليبهم حتى لا تأكلهم التراب { وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ } [الكهف: 18]
- حفظهم بكلبهم الذي يحسبه القادم حارسا لهم { وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ } [الكهف: 18]
- بث الرعب في نفس القادم إليهم لو قدم لتوهمه يقظتهم { لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا } [الكهف: 18].
- بقاؤهم هذه الفترة الطويلة والقرون المتعددة دون موت ولا تغير { وَلَبِثُواْ فِي كَهۡفِهِمۡ ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا }
- ما ألهمهم الله من التركيز على العمل والبعد عن الجدل؛ لذلك حين قاموا تساءلوا بينهم كم لبثوا وسرعان ما خلصوا إلى النتيجة { وَكَذَٰلِكَ بَعَثۡنَٰهُمۡ لِيَتَسَآءَلُواْ بَيۡنَهُمۡۚ قَالَ قَآئِلٞ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُواْ لَبِثۡنَا يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۚ قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا * إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا } [الكهف: 19-20] .
وهذه العملية العجيبة تظهر في هذا التوجيه الذي وجه به هؤلاء رسولهم للسوق، والتي يمكن أن نشير منها إلى بعض ما يظهر مثل:
1- وحدة المنهج، وتتمثل في :
- الرؤية الإيمانية الموحدة، {رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا } [الكهف: 14].
- القراءة الموحدة للمخالفين، { هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا } [الكهف: 15].
- والقراءة الموحدة للحل المناسب { وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا } [الكهف: 16].
- القراءة الموحدة للمخاوف: { إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا } [الكهف: 20].
2- جماعية هؤلاء واتحاد قلوبهم وصدورهم عن رأي واحد {فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ} [الكهف: 16] {فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم} [الكهف: 19].
3- تساويهم في المهام واستعدادهم للتكاليف، وثقة بعضهم في بعض {فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ} [الكهف: 19]، فهم سواسية؛ كل مستعد للتكليف، وكل يثق في الآخر “يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم”.
4- البذل المالي {فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ} [الكهف: 19]، فرغم كونهم في الكهف، فقد بذلوا المال، وخرج من ملك الأفراد إلى ملك الجماعة، ولم يعد في ذمة أحد، بل هو موجود حاضر مبذول، مجهز للمهمات والدواهي الداهيات.
5- تفويض المكلفين بمهمات بحسب ما يليق بطبيعة المهمة { فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ وَلۡيَتَلَطَّفۡ وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} [الكهف: 19] وهذا التفويض يشمل:
أ- نوع الطعام المطلوب ﵟفَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا} [الكهف: 19]
ب- طبيعة الطعام المطلوب { فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا } [الكهف: 19] والزكاء يحتمل الطهارة، وهي المتبادر، ويحتمل ما هو أوسع منهما من طيب وجمال وصلاحية.
ج- التفويض في المقدار، بحسب الظروف والأثمان والأحوال ﵟفَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ} [الكهف: 19] .
د- التفويض في طريقة التحفظ المناسبة ويشمل التلطف التلطف في المبس والحركة، والمعاملة، وتحسس الأخبار، والانتباه للمداخل والمخارج، وهو معنى موجز في كلمة واحدة يشمل ما لا يعلم عدده إلا الله من الأساليب الاحتياطية التي تدخل كلها في معنى التلطف.
هـ- ويتأكد معنى التلطف بقولهم: { وَلَا يُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا} [الكهف: 19] وهو تعبير جميل، فمبدأ الثقة يقتضي اليقين أن ذلك الرسول إلى السوق أيا كان من هؤلاء لن يخبر أحدا عن هؤلاء المؤمنين المختفين، لكن المشكلة قد تقع من الإشعار دون الإخبار، ومن يدرس قصة الهجرة، وما كان فيها من تمويه في تغيير الجهة، والاختفاء قريبا من مكة، وتنويع الزوار بين النساء والرجال والصباح والمساء ومحو الآثار بالغنم، والاستعانة بالدليل، وبالعين على قريش، من تأمل ذلك يدرك معنى النهي عن الإشعار هنا، دون النهي عن الإعلام، فليس ذلك مطروحا لما فيه من الخيانة، بينما الإشعار مطروح لما فيه من إهمال وسيلة من وسائل التخفي والتمويه([2]).
6- تحديد نوع المخاوف، فهؤلاء ليسوا خائفين على مصالحهم الدنيوية وإنما يخافون على الدين والفتنة فيه لذلك قالوا: { إِنَّهُمۡ إِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ يَرۡجُمُوكُمۡ أَوۡ يُعِيدُوكُمۡ فِي مِلَّتِهِمۡ وَلَن تُفۡلِحُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا } [الكهف: 19-20]، فهم يخافون من الرجم وما يستلزمه من هلاك الموحدين، ونهاية المؤمنين في هذا البلد، كما يخافون من الفتنة في الدين تحت التعذيب، ولذلك فرقوا بين الأمرين فلم يعلقوا على الأول، وعلقوا على الثاني فوت الفلاح الأبدي.
فكان حالهم هذا داخلا في أخذ الحيطة والحذر، وليس بخوف مانع من العمل، فلا يمنع الانطلاقة والحركة والدخول إلى مكان العدو، وأخذ الحاجات منه لكن مع التلطف والتحفظ التام([3]).
سادسا: أن الله أعثر عليهم الناس ليعلم العاثرون عليهم حقيقة البعث وإمكانه، فمن حفظ أجساد هؤلاء وهم أحياء ومنع عنهم جريان قوانين الكون التي خلق وقدر، حتى لم يؤذهم الجوع، ولم يهلكهم العطش، ولم تأكل الشمس أجسادهم، ولم يظهر عليهم قبل يقظتهم أحدا يعتدي عليهم، فمن فعل هذا فهو قادر على بعث الخلق بعد الموت { وَكَذَٰلِكَ أَعۡثَرۡنَا عَلَيۡهِمۡ لِيَعۡلَمُوٓاْ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيۡبَ فِيهَآ } [الكهف: 21] . والمسلم يستفيد من هذا اليقين على قدرة الله على حفظ أجساد الشهداء من أن تأكلها الأرض، فكما حفظ هؤلاء يحفظ أولئك.
سابعا: حكم الله على هؤلاء المؤمنين بالولاية التامة لهم، فليس لهم من دونه ولي، ولم يتخذوا من دونه آلهة، ولا واسطة، فتولى الله أمرهم ولم يكلهم إلى قانون الأسباب، ولا إلى قانون التدافع، وإنما حفظهم حتى حان وقت وفاتهم فتوفاهم وجعلهم آية لمن شاهدوا أمرهم وعبرة باقية إلى يوم الدين.
فصلتهم بالله قوية دائمة، وذكرهم له مستمر، ولجؤهم إليه دائم { رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةٗ وَهَيِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدٗا } ، {رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا } [الكهف: 14]، { فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا } [الكهف: 15] { وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا } [الكهف: 16] { قَالُواْ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ} [الكهف: 19]، وهذا الذكر الدائم لله، والكينونة المستمرة معه هو الذي أكسبهم فضل الله عليهم، وأمدهم بالخلود، وجعلهم عبرة للأولياء والمقربين السالكين طريق الأنبياء والمرسلين.
فواصل القصة
فصلت القصة بعدة فواصل تبين بعض العبر التي فيها، وترشد لبعض القضايا التي تهم المسلم في مثل هذه القصص.
- وأول هذه الفواصل: {نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ } [الكهف: 13] ، وشتان بين ما يقصه الله بالحق، وليثبت المؤمنين، وليتخذ عبرة وقدوة، وبين الأحاكي التاريخية التي يكثر فيها القيل والقال، ويصعب فيها التوفيق بين المتضارب من الروايات.
- وثانيها: { إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى * وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ } [الكهف: 13-14] ، وهذا فضل عظيم من الله، فقد بذل هؤلاء ما بوسعهم وهو الإيمان والقيام به، فزادهم الله هدى، ولا شك أنه هو واهب الإيمان، وربط على قلوبهم في قومتهم، فلا يخوفون غير الله، ولا يعبدون غير الله، ولا يبحثون عن غرض غير رضوان الله. وهذا الفضل الزائد على بذل العبد يشير إليه الحديث الذي أخبر به النبي ﷺ أن الله عز وجل قال: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة»([4])
- وثالث الفواصل قول الله تعالى: { مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا } [الكهف: 17]، وفيه إشارة إلى أن الله هدى هؤلاء الفتية على حداثة سنهم، وأضل قومهم، فالهداية منه وحده، فلا يهلك داعية نفسه بالحسرة على قوم لم يؤمنوا.
- الرابع: { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ } [الكهف: 23-24]، فنهي النبي ﷺ عن إطلاق وعد دون التعليق على المشيئة أدب جم يتناسب مع سياق القصة، فالذي وضع قوانين الطبيعة وعطلها مع أصحاب الكهف قادر على تعطيلها مع أي كان، فمهما كانت الأسباب متوفرة، والدواعي قائمة والنية صادقة، ينبغي التبرك بالتعليق بالمشيئة أدبا مع ذي الجلال، وبغض النظر عن سبب النزول، فقد علمنا النبي ﷺ هذا الأدب، وأشار إلى أن الله أدب به الأنبياء من قبله فحرم سليمان عليه السلام من أي ولد ولد من الأولاد الذين رغب في الحصول عليهم وأخذ بالأسباب ولم يعلق على المشيئة([5]).
- الخامس: { وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، وفيه إشارة لداوم مراقبة الله، وتأكيد على أنه لا حل لنسيان الذكر وتركه إلا تجديده، وإحداث عهد به، سواء تعلق الأمر بالاستثناء في اليمين، وفي الوعود، أو بالتعليق على المشيئة، أو بغير ذلك، فكما عاش هؤلاء الفتية مع الله، ورقدوا على ذكره واستيقظوا على ذكره فاذكر ربك على كل حال. كما فيه إشارة إلى أن من علاج النسيان ذكر الله تعالى، وهو أمر غير مستبعد، فالنسيان من الشيطان، وذكر الله طارد للشيطان.
- السادس: { وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا 24} [الكهف: 24]، وفي هذه الجملة إجمالا الاستهداء بالله في كل حال، سواء كان عند نسيان التعليق على المشيئة أو عند البحث عن الآيات الدالة على صدق النبوة، أو في غير ذلك، ولعل فيها تنبيها للنبي ﷺ أن الله قد يعطيه من سبل التمكين والحفاظ على الدين خيرا مما أعطى لأصحاب الكهف الذين سألوا الله أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا، فإذا اقتدى بهم المقتدون لا ينبغي أن يقصر طموحهم على ما كان فيه أولئك، بل ينبغي أن يتعلق بواسع رحمة الله، وبحسن الظن به، واليقين بسعة رحمته وفضله، وأنه لا يعجزه شيء.
ورغم أن النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم هجروا الأهل والأوطان حفاظا على التوحيد كما وقع لأصحاب الكهف فقد وسع الله عليهم ما لم يوسع على أصحاب الكهف، ومكن لهم ما لم يمكن لأولئك.
ويعد هذه القصة يأتي التعليق عليها ليؤكد على مجموعة من المعاني متعلقة بالفترة التي كانت تمر بها الدعوة في ذلك الزمان من أزمنتها، ومن أبرز هذه التعليقات:
1- ضرورة تبليغ الدين للناس دون مجاملة ولا محاباة { وَٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَۖ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِۦ مُلۡتَحَدٗا } [الكهف: 27].
2- الصبر على العبادة والبلاغ، والكينونة مع الصادقين { وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا } [الكهف: 28].
وفي هذا الآية وقفات من المهم الإشارة إليها مجملة، وهي:
- أن للعبادة الحقيقية([6]) وقت، ولا يمكن للإنسان أن يتسمر عابدا مدى الدهر العبادة الأصلية، لأن المنبت “لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى”([7])؛ لذلك قال الله تعالى: ﵟوَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ ﵞ [الكهف: 28].
- ضرورة الإخلاص، فالعابد المخلط غير جدير بالكينونة معه، ولا بالجلوس إليه، والنبي ﷺ يطلعه الله على ما شاء من غيبه، والمؤمنون يقاربون ويسددون، ويأخذون بالظواهر والله يتولى السرائر لذلك قال الله تعالى: ﵟيُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ} [الكهف: 28].
- أن العبادة تقطع للحاجات الدنيوية، ولا ينبغي أن يقطعها غير حاجة مهمة، فما زاد على الحاجة فهو من اللهو وزينة الحياة الدنيا المنهي عن التعرض لها { وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ } [الكهف: 28]، وما كان كذلك كان من السرف المنهي عنه .
- خطورة الصف المقابل للمتقين، وهم الغافلون، ﵟوَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا } [الكهف: 28] وقد نبه على الغافلين بأبرز ميزات الغفلة، وهي:
- ترك ذكر الله{ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا} [الكهف: 28] وعلم أن من عشي عن ذكر الرحمن احتوته الشياطين واجتالته { وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ * وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ } [الزخرف: 36-37]، ويستلزم ذلك لا محالة:
- اتباع الهوى، {وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ} [الكهف: 28] فاتباع الهوى رأس مظاهر احتواء الشيطان على الإنسان، سواء كان في العادة أو في العبادة، أو في ترتيب الأولويات، فكل ذلك من اتباع الهوى متى حرف عن الحق، بل إن من اتباع الهوى التبتل والانقطاع للعبادة المنهي عنه شرعا([8])، فمن فعل ذلك فهو متبع هوى، كما أن من ترك العبادة متبع هوى كذلك، ويتسلزم اتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله واجتيال الشيطان للعبد:
- ضياع الأمر، وانفراط العقد، وتشعب الأمور، والإفراط في أمور والتفريط في أخر، والطغيان ومجاوزة الحد، وكلما يحيل إليه المعنى القرآني العام المجمل في وكان أمره فرطا ﵟوَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} [الكهف: 28].
3- تحمل نتائج البلاغ وما يترتب عليها من كفر البعض وطغيانه، فمرده إلى الله، ونتيجته السلبية على الكافر وليست على المبلغ عليه الصلاة والسلام { وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجۡرَ مَنۡ أَحۡسَنَ عَمَلًا * أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأَنۡهَٰرُ يُحَلَّوۡنَ فِيهَا مِنۡ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٖ وَيَلۡبَسُونَ ثِيَابًا خُضۡرٗا مِّن سُندُسٖ وَإِسۡتَبۡرَقٖ مُّتَّكِـِٔينَ فِيهَا عَلَى ٱلۡأَرَآئِكِۚ نِعۡمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتۡ مُرۡتَفَقٗا } [الكهف: 29-31].
قصة أصحاب الجنتين
ماهي قصة أصحاب الجنتين ؟
هذه القصة من قصص المال، وهي شبيهة بقصة قارون الورادة في سورة القصص، وتقوم هذه القصة بين رجلين أحدهما مؤمن والثاني كافر، والأول أقل رزقا من الثاني في الماديات، لكنه أوفر منه رزقا في الإيمان والثقة بما عند الله.
وقد تميز صاحب الجنتين بوفرة المال والولد، ونجاح الأسباب، { وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلٗا رَّجُلَيۡنِ جَعَلۡنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيۡنِ مِنۡ أَعۡنَٰبٖ وَحَفَفۡنَٰهُمَا بِنَخۡلٖ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُمَا زَرۡعٗا 32 كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَيۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَٰلَهُمَا نَهَرٗا * وَكَانَ لَهُۥ ثَمَرٞ } [الكهف: 32-34] وبدل أن يرده هذا لربه أبعده منه فكانت النعم التي يفترض أن تعين على العبادة صارفة عنها، فتحلى هذا الرجل بصفاة رذيلة منها:
- التكبر على خلق الله:{ فَقَالَ لِصَٰحِبِهِۦ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا } [الكهف: 34]
- الظلم والطغيان: { وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ} [الكهف: 35]
- استشعار النعمة وعدم معرفة مصدرها {أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا } [الكهف: 34].
- توقع بقاء النعم وعدم زوالها { مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِۦٓ أَبَدٗا } [الكهف: 35]
- الكفر بالله تعالى وتكذيب لقائه، وظن الخير عند لقائه على فرض صحته { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةٗ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيۡرٗا مِّنۡهَا مُنقَلَبٗا } [الكهف: 36].
وهذه الميزات كلها في كفار مكة المخاطبين الأولين بهذا القرآن، وغالبا ما تكون في كل عتل جواظ مستكبر، ولذلك نعى الله عليهم هذا فقال: { أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ } [المؤمنون: 55-56].
كان المؤمن على خلاف هذا الرجل الكافر:
- متحليا بحلية الإيمان { لَّٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّي وَلَآ أُشۡرِكُ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا } [الكهف: 38]
- راضيا عن الله في أقداره ﵟإِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا * فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ } [الكهف: 39-40]
- داعيا الخلق إلى الإيمان مسنكرا كفرهم: { قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلٗا } [الكهف: 37]
- مرشدا إياهم إلى أسباب بقاء النعم ودوامها وهي بعد الإيمان إدراك أنها من الله وشكره عليها وحمده عليها: ﵟوَلَوۡلَآ إِذۡ دَخَلۡتَ جَنَّتَكَ قُلۡتَ مَا شَآءَ ٱللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِٱللَّهِۚ } [الكهف: 39]
- عارفا بمصادر النعم وأسباب زوالها من كفر وعدم شكر وتكبر على الخلق ورؤية للفضل عليهم { إِن تَرَنِ أَنَا۠ أَقَلَّ مِنكَ مَالٗا وَوَلَدٗا * فَعَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يُؤۡتِيَنِ خَيۡرٗا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرۡسِلَ عَلَيۡهَا حُسۡبَانٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فَتُصۡبِحَ صَعِيدٗا زَلَقًا * أَوۡ يُصۡبِحَ مَآؤُهَا غَوۡرٗا فَلَن تَسۡتَطِيعَ لَهُۥ طَلَبٗا } [الكهف: 39-41]
- مدركا أسباب بقائها؛ إذ بضدها تتبين الأشياء.
وجاء القدر فأهلك جنة الكافر { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِۦ فَأَصۡبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيۡهِ عَلَىٰ مَآ أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي لَمۡ أُشۡرِكۡ بِرَبِّيٓ أَحَدٗا } [الكهف: 42].
وهلاك جنة الكافر ينبئ عن خسارة مضاعفة؛
- فهو خاسر تملؤه الحسرة والندم لكفره بالله، وعدم شكره على نعمه.
- وهو خاسر لأنه لا أجر له على ما خسر، ولا ثواب له على ما هلك من ماله بخلاف المؤمن الذي يثاب على المصائب التي تنزل به.
- لم يجد نصرة من النفر الذي كان يعتز به حين قال: { أَنَا۠ أَكۡثَرُ مِنكَ مَالٗا وَأَعَزُّ نَفَرٗا } [الكهف: 34]، وحين غاب النصير أدرك الحقيقة { وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ فِئَةٞ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا } [الكهف: 43]، فليس هو بقادر على الانتصار من أقدار الله، ولا فئته التي تكبر بها بنافعة ولا ناصرة، وكذلك فئة الكافرين المتكبرين لا تنفع ولا تدفع في الحوادث، فقد كان قارون عليه اللعنة ذات فئة تطبل له وتغتبط من حاله وتقول: { يَٰلَيۡتَ لَنَا مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٖ} [القصص: 79] ، فلما هلك أدرك هو ومن حوله الوهم الذي كانوا فيه: { فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ * وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ } [القصص: 81-82].
وختم الله القصة بقوله: { هُنَالِكَ ٱلۡوَلَٰيَةُ لِلَّهِ ٱلۡحَقِّۚ هُوَ خَيۡرٞ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ عُقۡبٗا } [الكهف: 44]، فحين يحل العذاب يدرك من لا يؤمنون بالغيب أن الولاية لله أفضل، سواء قرأناها بالكسر فكانت بمعنى الملك؛ إذ ملك البشر مجاز، والملك الحق لله جل جلاله، أو قرأناها بالفتح، فأولياء الله أفضل حالا عند المصائب، كما هم أفضل حالا عند النعم، وقد قال ﷺ: “عجبا لأمر المؤمن. إن أمره كله خير. وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن. إن أصابته سراء شكر. فكان خيرا له. وإن أصابته ضراء صبر. فكان خيرا له”([9]).
والله خير وأبقى لمن تعلق به، وما عنده خير وأبقى، وثوابه خير وأبقى للمصابين، وعاقبة الصبر محمودة، وعاقبة الإيمان محمودة، وعاقبة الشكر محمودة، ومقابلاتها بالعكس لا محالة.
ودار الجزاء خير وأبقى ولذلك قال الله تعالى تعقيبا على قصة قارون الشبيهة بهذه القصة: { تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ } [القصص: 83].
وفي هذه القصة من الفوائد:
- ضرورة الإيمان بالله واستحضاره على كل حال
- ضرورة شكر النعم حفاظا عليها وأداءا لحقها
- ضرورة الصبر عند النقم والامتحان
- ضرورة إدراك أن الحياة امتحان بالخير وبالشر، وصاحب الامتحان إما ناجح أو فاشل، وهذا أصل موضوع السورة.
- حرص المؤمن على صلاح غيره مهما ظهر منه من كفر وطغيان.
- أن “العين حق”([10])، وأنها تؤثر في المعين -بقدر الله-([11]) ولو كان المرء نفسه أو ماله؛ لأن الكافر جاءه البلاء بعد اغتباطه النعمة([12])، وأرشده المؤمن إلى التبريك وذكر الله([13]).
- أن بصيرة المؤمن النافذة قد توافق القدر وهو يهدد الكفار بأيام الله دون أن يكون في ذلك تسور منه على سورد الغيب أو سوء أدب مع ربه، بل هو نظر بنور الله، وقد قال ﷺ: “إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره”([14]).
وتعقيبا على هذه القصة ذكر القرآن:
- أن مآل جنة هذا الرجل هو مآل الدنيا كلها، { وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ فَأَصۡبَحَ هَشِيمٗا تَذۡرُوهُ ٱلرِّيَٰحُۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ مُّقۡتَدِرًا } [الكهف: 45].
- أن المال والبنين من زينة الحياة الدنيا، ولا يقربان بذواتهما([15]) من الله { ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَٱلۡبَٰقِيَٰتُ ٱلصَّٰلِحَٰتُ خَيۡرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابٗا وَخَيۡرٌ أَمَلٗا } [الكهف: 46]، وإنما الذي يقرب من الله العمل الصالح الباقي([16]) الذي لا يهلك كما يهلك المال، ولا تنقطع الصلة به كما تنقطع الصلة بالولد عند اختلاف الدين يوم القيامة.
- ثم ذكر القرآن نهاية الدنيا تشبيها لها بنهاية الجنة التي فنت، والنهايات الجزئية دائما تشبه بها النهاية الكلية، لشهود الأولى، والدلالة به على ما غاب من الثانية، { وَيَوۡمَ نُسَيِّرُ ٱلۡجِبَالَ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ بَارِزَةٗ } [الكهف: 47] وهو مدخل لما بعد الفناء وهو الجزاء اللازم بعد البعث{ وَحَشَرۡنَٰهُمۡ فَلَمۡ نُغَادِرۡ مِنۡهُمۡ أَحَدٗا * وَعُرِضُواْ عَلَىٰ رَبِّكَ صَفّٗا لَّقَدۡ جِئۡتُمُونَا كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةِۭۚ بَلۡ زَعَمۡتُمۡ أَلَّن نَّجۡعَلَ لَكُم مَّوۡعِدٗا } [الكهف: 47-48] ، وكان مدخل تحسر صاحب الجنتين على كفره مناسبا لذكر تحسر الكفار على أعمالهم المحصية المعدودة ، { وَوُضِعَ ٱلۡكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلۡمُجۡرِمِينَ مُشۡفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيۡلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلۡكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحۡصَىٰهَاۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرٗاۗ وَلَا يَظۡلِمُ رَبُّكَ أَحَدٗا } [الكهف: 49]. كما ناسب شعوره بقلة الناصرين ذكر شعور الكفار بالخذلان يوم القيامة ﵟوَيَوۡمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآءِيَ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ فَدَعَوۡهُمۡ فَلَمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَهُمۡ وَجَعَلۡنَا بَيۡنَهُم مَّوۡبِقٗا * وَرَءَا ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمۡ يَجِدُواْ عَنۡهَا مَصۡرِفٗا } [الكهف: 52-53]
- وذكر القرآن قصة إبليس وآدم مختصرة ليشير إلى خطورة الاستنصار بالشيطان واتخاذه وليا، وهو العدو حقيقة { وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّٰلِمِينَ بَدَلٗا * مَّآ أَشۡهَدتُّهُمۡ خَلۡقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَا خَلۡقَ أَنفُسِهِمۡ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلۡمُضِلِّينَ عَضُدٗا } [الكهف: 50-51].
- ثم ختمت التعاليق على هذه القصص بـ:
- التذكير بكثرة الأمثلة في القرآن، وكثرة جدل الكفار رغم وضوح البراهين ﵟوَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ﵞ [الكهف: 54]. ﵟوَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلۡبَٰطِلِ لِيُدۡحِضُواْ بِهِ ٱلۡحَقَّۖ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنذِرُواْ هُزُوٗا ﵞ [الكهف: 56].
- التذكير بما جاء في مقدمة السورة عن مهام الرسل من بشارة ونذارة { وَمَا نُرۡسِلُ ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَۚ} [الكهف: 56]
- ضرورة الاعتبار بها وبمصارع الهالكين قبل الهلاك، {وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤۡمِنُوٓاْ إِذۡ جَآءَهُمُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّهُمۡ إِلَّآ أَن تَأۡتِيَهُمۡ سُنَّةُ ٱلۡأَوَّلِينَ أَوۡ يَأۡتِيَهُمُ ٱلۡعَذَابُ قُبُلٗا } [الكهف: 55]. {وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا } [الكهف: 59]
- التأكيد على خطورة الكفر والإعراض، وما يترتب عليه من صرف الله للمكذب عن الإيمان رغم الحجج الباهرة: {وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِۦ فَأَعۡرَضَ عَنۡهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتۡ يَدَاهُۚ إِنَّا جَعَلۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ أَكِنَّةً أَن يَفۡقَهُوهُ وَفِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٗاۖ وَإِن تَدۡعُهُمۡ إِلَى ٱلۡهُدَىٰ فَلَن يَهۡتَدُوٓاْ إِذًا أَبَدٗا * وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا } [الكهف: 57-58].
- التذكير بحلم الله وعفوه وتأخيره للعذاب عن المكذبين رغم استحقاقهم له: {وَرَبُّكَ ٱلۡغَفُورُ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلۡعَذَابَۚ بَل لَّهُم مَّوۡعِدٞ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِۦ مَوۡئِلٗا * وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰٓ أَهۡلَكۡنَٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدٗا } [الكهف: 58-59]
قصة موسى والخضر
هذه القصة من القصص الفريدة في القرآن، فلا يكاد يوجد لها فيه نظير، وهي قصة تمثل العلم وطلبه في أبهى صوره، فقد ورد أن موسى عليه السلام سئل عن أعلم أهل الأرض، ولم يكن يعلم بأعلم منه، فأخبر بما يرى من ذلك فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأرشده إلى الخضر ليتعلم منه([17]).
وتقوم هذه القصة على عدة دعائم:
الأولى: الرحلة في طلب العلم، فقد خرج موسى عازما على طلب العلم غير آبه بالصعاب مستعدا لما يلقى من المشاق في سبيل ذلك: { وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَىٰهُ لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا } [الكهف: 60].
وقد تحمل في هذه الرحلة أنواعا من المشاق جعلها العلماء أصلا للرحلة في طلب العلم، منها:
- الاغتراب عن الأهل والوطن.
- الصبر على التعب والجوع.
- الأدب مع المعلم.
- طاعة المعلم.
الثانية: التعامل مع الأمارات، { لَآ أَبۡرَحُ حَتَّىٰٓ أَبۡلُغَ مَجۡمَعَ ٱلۡبَحۡرَيۡنِ أَوۡ أَمۡضِيَ حُقُبٗا } [الكهف: 60]. وهو أدب إلهي علمه الله لأنبيائه، فموسى أعطي علامتين: مكانية هي الوصول لمجمع البحرين، وزمانية هي حياة الحوت، وقد نضيف إليهما ثالثة وهي الشعور بالتعب؛ إذ لم يتعب قبل تجاوز المكان الذي أمر به، وإذا علم أن الأنبياء المسددين بالوحي يتعاملون مع الأمارات، ويتعبدون بها فينبغي أن يهون ذلك على المسلم المجتهد التعامل مع الأمارات في القضايا الشرعية، وأن يهون على المتعبد التعامل مع الأمارات في القبلة ودخول الوقت ونحو ذلك… وقد علمنا أن نوحا عليه السلام جعلت له علامة على الوقت المناسب للرحيل عن قومه { فَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِ أَنِ ٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسۡلُكۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ مِنۡهُمۡۖ وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ } [المؤمنون: 27].
الثالثة: القبول بشرط التعليم، وهو عدم السؤال، فقد اشترط الخضر على موسى أن لا يسأله عن شيء من تصرفاته وأعماله، وقبل موسى الشرط، وأكد الصبر عليه { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا * وَكَيۡفَ تَصۡبِرُ عَلَىٰ مَا لَمۡ تُحِطۡ بِهِۦ خُبۡرٗا * قَالَ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ صَابِرٗا وَلَآ أَعۡصِي لَكَ أَمۡرٗا * قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا } [الكهف: 67-70].
الرابعة: التقيد بالمعارف السابقة: فرغم أن موسى عليه السلام قبل بشرط الخضر، فإنه ظل على أصله في العمل بما علم، ويظهر ذلك في:
- استنكاره لخرق السفينة: وكان موسى حين الاستنكار ناسيا للشرط، فاستغرب من مقابلة الإحسان بالإساءة، فقد خرق الخضر سفينة قوم مساكين حملوهم بغير نول، وهذا شيء يستغرب فعلا، فلما ذكره الخضر بالشرط تذكر وطلب العفو والتيسير { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا رَكِبَا فِي ٱلسَّفِينَةِ خَرَقَهَاۖ قَالَ أَخَرَقۡتَهَا لِتُغۡرِقَ أَهۡلَهَا لَقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـًٔا إِمۡرٗا * قَالَ أَلَمۡ أَقُلۡ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا * قَالَ لَا تُؤَاخِذۡنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرۡهِقۡنِي مِنۡ أَمۡرِي عُسۡرٗا } [الكهف: 71-73].
- استنكاره لقتل النفس بغير حق: { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَا لَقِيَا غُلَٰمٗا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا زَكِيَّةَۢ بِغَيۡرِ نَفۡسٖ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَيۡـٔٗا نُّكۡرٗا } [الكهف: 74] ولم تكن هذه من موسى نسيانا، وإنما كان ذاكرا الشرط، لكن مستوى المنكر الذي رأى دفعه لعدم الصمت عنه، وعد القدرة على تحمله، فذكره الخضر بالشرط { قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا } [الكهف: 75]، فرد موسى عليه بقوله: {قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَيۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَٰحِبۡنِيۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّي عُذۡرٗا } [الكهف: 76] ، وكأن موسى يقول للخضر: ما دام الأمر يصل هذا الحد فإن فعلت ما يستدعي سؤالا فمعناه أني لا أستطيع صحبتك؟
- اقتراح طلب الأجرة على العمل للقوم اللئام: { فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا } [الكهف: 77]، وكان اقتراح موسى عمليا، فهؤلاء اللئام لم يقروا الضيفين، فكان من المناسب تأجيل خدمتهم حتى يعطوا مقابلها، ولكن الخضر جعل الاقتراح سبب نهاية الدورة التعليمية المجملة، وبداية تفسير ما أجمل في أولها فـ: { قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيۡنِي وَبَيۡنِكَۚ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأۡوِيلِ مَا لَمۡ تَسۡتَطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرًا * أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا * وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا * فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا * وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا } [الكهف: 78-82].
الخامسة: ما يظهر أنه منكر قد لا يكون كذلك: فكل ما قام به الخضر مفهوم عند موسى سهل قريب حين شرح رغم بعده قبل الشرح، والقضايا الثلاث التي وقعت للخضر كلها وقعت في حياة موسى من قبل؛
- فموسى هو الذي ألقي في اليم طفلا صغيرا لمصلحة راجحة خففت مستوى المخاطرة به فحفظه الله من كل سوء.
- وموسى هو الذي قتل نفسا لم يؤذن له بقتلها لسبب راجح هو دفع الظلم عن رجل من قومه.
- وموسى هو الذي سقى من غير نول، وهو أحوج ما يكون للمقابل.
فمثل هذه الأمور لا تخفى عليه لكن الله حين يحجب الذهن عن فهم شيء لا يفهم.
السادسة: كان موسى موجها للخضر للتعليم منه، ومن المعلوم أن من زكاه الله تعالى لنتعلم منه معناه أنه زكي وأنه لن يفعل إلا خيرا، وهذا لم يمنع موسى من إنكار ما وصل علمه إلى ضرورة إنكاره، فكان في هذا تشريعا لمن أنكر ما هو منكر حسب علمه، وفيه بيان عذر من فعل ما ساغ له فعله، وإن كان ظاهره الإنكار عند من لم يدرك سببه ودافعه ووجه جوازه، وهذا من تعليم الله لنا أدب الخلاف وسعة الصدر للمخالف رغم التمسك بالأصول.
السابعة: ما قام به الخضر اعتذر عنه كله بقوله: {وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ} [الكهف: 82]، وما دام غير صادر منه، فلا إنكار عليه فيه، بل هو مأمور بما فعل، كما موسى مأمور بما فعل أخذ للعلم عن الخضر.
الثامنة: سعة علم الله الذي علم الخضر وعلم موسى بعض منه، وهو علم واسع لا يحيط به المخلوقون.
التاسعة: نسبية القدرات البشرية، فرغم موسى من أولي العزم من الرسل، وقد نوى الصبر على الخضر حتى يتعلم منه فلم يستطع، لتباين المعارف، والحمد لله على سقوط التكليف بما لا يطاق.
العاشرة: في هذه القصة لطيفة، فإنها والتي قبلها وردت بين قصص سئل عنها، فقد سأل الكفار عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقصت عليهم قصصهم، وذكرت بينها قصة أصحاب الجنتين، قصة الخضر وموسى، وكأن القرآن ينبه إلى أن ما سئل عنه هناك ما هو أهم منه، فالعلم قبل القول والعمل، وقصة موسى والخضر تمثل جانب العلم في الحياة والسؤال عنه كان أولى، وقصة صاحب الجنتين تمثل جانب المال، والمال قوام الملك فالسؤال عن المال وامتحانه كان أولى من السؤال عن الملك الذي هو فرع عن المال.
وكأن القرآن أراد أن يعاتب السائلين فيقول:
- إن السؤال عن الروح سؤال عما لا يدرك، ومثل له بعلم الخضر فهو علم لم ينتفع به موسى قبل أن يبين له ويشرح، وكذلك الروح لن تعرف حقيقتها قبل أن يبينها الله للناس ويشرحها لهم في الوقت الذي يشاء إطلاعهم على علمه فيه سواء كان في الدنيا أو في الآخرة.
- وإن السؤال عن أصحاب الكهف وهم شباب مؤمنون معذورون بالضعف والعجز وهم أفراد قلة كان أولى منه السؤال عن الدعوات الناجحة والصراعات الكبيرة الدائمة بين الحق والباطل التي العبرة منها أكبر وأعظم.
- وإن السؤال عن ذي القرنين وهو ملك وجد الأسباب لملكه كان الأولى منه الانتباه لفتنة المال المستمرة في الحياة، والتي لا تنقطع ولا تنقضي وتبقى مشاهدة دوما.
وفي هذه القصة من العبر من غير ما سبق:
- خطورة الادعاء حتى على العلماء الكبار.
- أن العلم البشري نسبي {وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ } [يوسف: 76]
- أن من الخلاف ما هو شكلي ةليس حوهريا رغم التباين الظاهر.
- أن العلم يحتاج جهدا وحركة وبذلا وكدا وتعبا([18])
- أن من العلم ما هو تدريبي عملي، لا يكتفى فيه بالنظري.
- أن من التعليم ما لا بد فيه من جهد بدني إضافي، فقد تكرر الانطلاق من موسى والخضر قبل كل دورة تعليم، وكانت الخاتمة بالجوع وسوء معاملة أهل القرية لهم.
- أن النفع قد يأتي فيما ظاهره الضر، والعبرة بالنية والقصد لا بالظاهر، فخرق السفينة صلاح لحال أهله المساكين، ومنع لها من الملك الغاصب للسفن الصالحة، وإن كان ظاهره الفساد، وقتل الصبي صلاح لحال والديه، وراحة لهما من كفره اللاحق وطغيانه المخوف وإن كان ظاهره الفساد ويستلزم معرفة هذا الرضا عن أقدار الله مهما كانت { وَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيۡـٔٗا وَهُوَ شَرّٞ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ } [البقرة: 216].
- أن الأدب مع الله لازم لكل إنسان على كل حال مهما بلغ، فهذا موسى يعاتب على عدم رد العلم إلى الله، وهذا الخضر يحدث عما لم يفعله عن أمره، وفي تفاصيله يرده إلى الله، وما كان منه من نقص ينسبه إلى نفسه ﵟفَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا } [الكهف: 79]،، وما كان من كمال رده إلى ربه:{ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا 81 } [الكهف: 81]، { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ} [الكهف: 82].
- أن صلاح الآباء ينفع الأولاد بإذن الله؛ فقد حفظ الله لليتمين كنزهما بفضله الذي منه صلاح والدهما، بل ينفع الصلاح الآباء والأبناء والحواشي { جَنَّٰتُ عَدۡنٖ يَدۡخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۖ } [الرعد: 23]، { رَبَّنَا وَأَدۡخِلۡهُمۡ جَنَّٰتِ عَدۡنٍ ٱلَّتِي وَعَدتَّهُمۡ وَمَن صَلَحَ مِنۡ ءَابَآئِهِمۡ وَأَزۡوَٰجِهِمۡ وَذُرِّيَّٰتِهِمۡۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ } [غافر: 8]، مع أن النفع الدنيوي لا يستلزم النفع الأخروي، فقد ينتفع الطالح في الدنيا ببركة الصالح ذكرا أو مالا أو جاها، ثم توبق الطالح ذنوبه في الآخرة، وما بنو إسرائيل منا ببعيد؛ فلهم في الدنيا ذكر حسن بسبب صلاح آبائهم، وللكافرين منهم يوم القيامة العذاب الشديد. وعلى كل فللعلاقة بالصالحين منافع لا تنتهي ويكفيهم أنهم “هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”([19]).
- أن من شأن طالب العلم الحرص على التزكية ومعاملة المحسيئين بالإحسان، والصبر على أذاهم، فلم يسجل القرآن تعليقا سلبيا للخضر المعلم في هذه القصة على من لم يضيفوهما.
ولم يعقب القرآن على هذه القصة خلافا لسابقاتها، ولم يفصل بينها وبين لاحقتها بتعقيب؛ لأن الحكمة فيها مما يعرف بالاستنباط والتوفيق، ولا تدركه العقول المجردة، ولا البصائر المظلمة التي لا تستنير بالوحي ولا تنتفع به، فالعبرة من القصة يكفي فيها ما جاء في القصة، ومن لم يعتبر بها، ولم يمتلئ قلبه من الإيمان بمنزلها، واليقين بسعة علمه، وعظمة ملكه، لن تنفعه المواعظ ولا الأقوال مهما كانت.
قصة ذي القرنين
ذو القرنين صالح شبيه بسليمان عليه السلام في صلاحه، كما أن ذا الجنتين شبيه بقارون في فساده، فقد آتاه الله المكل والمال، وأعطاه أسباب الحركة في أرجاء الأرض، فاتجه فيها غربا وشرقا حتى بلغ منتهى ما يمكن أن يصل إليه، وفي كل ذلك نجد له موقفا يؤكد مجموعة من القيم الإيمانية، والسياسية المتفرعة عنها.
الرحلة الأولى
ففي رحلته الأولى وجد قوما سئل عن طريقة التعامل معهم فقال: { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوۡفَ نُعَذِّبُهُۥ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِۦ فَيُعَذِّبُهُۥ عَذَابٗا نُّكۡرٗا * وَأَمَّا مَنۡ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحٗا فَلَهُۥ جَزَآءً ٱلۡحُسۡنَىٰۖ وَسَنَقُولُ لَهُۥ مِنۡ أَمۡرِنَا يُسۡرٗا } [الكهف: 87-88]، وهذا المنهج هو الطبيعي لمن كلف التعامل مع البشر من منطق التمكين والإمامة، فهو يعاقب الظالم الذي ثبت ظلمه وطغيانه، وعناده وجبروته، وعقابه له مقدمة لعقاب الله له الأشد والأنكى، ويعامل المؤمن الصالح المحسن بالظاهر ويكل سريرته إلى الله تعال.
الرحلة الثانية
وفي هذه الرحلة وجد قوما لا ستر لهم دون الشمس، والظاهر القريب أنهم لا لباس لهم يقيهم الشمس، وإن احتمل ذلك ما اكتشف حديثا من ثقب في الأوزون في تلك الجهة.
الرحلة الثالثة
وكانت هذه الرحلة لمنطقة أشار إليها القرآن ولم يتحدد مكانها، كما لم نعرف مكان سابقتيها على وجه الدقة، وقد وجد في هذه الرحلة قوما جهلة لا يعرفون البشر، ما يصعب التواصل معهم إذ{ لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا } [الكهف: 93]، ومن الطبيعي حين يظهر الجهل أن يظهر الاستبداد والظلم إلى جنبه؛ لذلك شكا هؤلاء إلى ذي القرنين الظلم الواقع عليهم من يأجوج ومأجوج، وعرضوا عليه المال على أن يحميهم من هؤلاء الظلمة بسد؛ فكان رد ذي القرنين رد الملك العادل الواعي بمسؤولياته العفيف عما في أيدي رعاياه { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيۡرٞ } [الكهف: 95]، وهو تقريبا نفس رد سليمان على الهدايا { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٖ فَمَآ ءَاتَىٰنِۦَ ٱللَّهُ خَيۡرٞ مِّمَّآ ءَاتَىٰكُمۚ بَلۡ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمۡ تَفۡرَحُونَ } [النمل: 36].
طلب ذو القرنين الأدوات الكافية لصناعة السد، من زبر الحديد، حتى بلغ المجموع منها سد الفجوة المقصودة، أوقد النار فيه حتى ذاب، فأفرغ عليه من القطر، فلم يستطع الظلمة نقبه لصلابته، ولا تسوره لطوله، وأخبر المظلومين أن هذا السد من رحمة الله، وأن له أجلا ينتهي إليه لا محالة { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجۡعَلۡ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ رَدۡمًا * ءَاتُونِي زُبَرَ ٱلۡحَدِيدِۖ حَتَّىٰٓ إِذَا سَاوَىٰ بَيۡنَ ٱلصَّدَفَيۡنِ قَالَ ٱنفُخُواْۖ حَتَّىٰٓ إِذَا جَعَلَهُۥ نَارٗا قَالَ ءَاتُونِيٓ أُفۡرِغۡ عَلَيۡهِ قِطۡرٗا * فَمَا ٱسۡطَٰعُوٓاْ أَن يَظۡهَرُوهُ وَمَا ٱسۡتَطَٰعُواْ لَهُۥ نَقۡبٗا * قَالَ هَٰذَا رَحۡمَةٞ مِّن رَّبِّيۖ فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ رَبِّي جَعَلَهُۥ دَكَّآءَۖ وَكَانَ وَعۡدُ رَبِّي حَقّٗا } [الكهف: 95-98].
وفي قصة ذي القرنين من العبر ما يمكن أن نشير إلى أبرزه في النقاط التالية:
- الملك يحتاج إحاطة من الملك ومتابعة لأحوال الرعية وما يستلزمه ذلك من أسفار ونحوها.
- الملك العادل لا بد له من ميزان يفرق فيه بين الحق والباطل والمحسن والمسيء…
- الملك يحتاج موارد كثيرة، وكلما جمعت من حلها ووضعت في محلها خدمت الملك، وإلا هدتمته.
- الملك الصالح يحتاج عفة فما في أيدي رعيته.
- الجهل يسبب الاستضعاف فالظلم فالهرج والمرج، ونتائج ذلك من ضعف النفس، والقابلية للاستعباد جلية لكل ذي بصيرة في التاريخ والعبر. وبالمقابل العلم يحمي من كثير من تلك الشرور، وأول العلم العلم بالله وبدينه وشرعه ثم العلم بما ينفع بعد ذلك.
- الأصل في الدولة أن تخدم الناس في شتى جوانب الحياة بدون مقابل ما دامت قادرة على ذلك؟
- ينبغي أن يفترض للأعمال والمنشئات تاريخ يعاد ترميمها عنده، لأن لكل شيء من هذه الدنيا أمدا، والأعمال مهما كان نجاها لها أجل، طال أو قصر ومهما طال، فالدنيا مآلها النهاية.
التعقيب على القصة
ربط القرآن نهاية القصة بنهاية الدنيا وخروج يأجوج ومأجوج؛ وما يقع بعد ذلك من فوضى واختلال نظام الحياة، وما يلي ذلك من هلاك، ثم بعث، ثم جزاء، ودخل من ذلك لعقاب المكذبين المعرضين عن الحق المكذبين الرسل، الذين تخاطبهم السورة أول من تخاطب، ناعيا عليهم خسارة حالهم كما خسر صاحب الجنتين، والظالمون من أصحاب ذي القرنين، وفي مقابلهم الصالحون الناجون من المؤمنين، وهذا تأكيد لما ذكر أول السورة وأوسطها من قضية الامتحان والابتلاء.
خاتمة السورة
ختمت السورة بنهاية الدنيا وما فيها من جزاء المحسن على إحسانه، ومعاقبة المسيء على إساءته، وأكدت أن معاني هذا القرآن لا تنفد ولا تنتهي ولا تستقصى، وفي ذلك إشارة للمعتبرين إلى التدبر فيه والتفهم في معانيه. وختمت بما بدأت به من أن الله أنزل على عبده الكتاب ليبشر وينذر، فمن أراد أن يكون من البشرين فليخلص وليتق الشرك خفيه وجليه قليله وكثيره { قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا } [الكهف: 110].
خاتمة
هذه السورة من عظائم سور القرآن الكريم وكلها عظيمة، سن النبي ﷺ قراءتها كل أسبوع، وأمر بقراءة فواتحها على الدجال، وفي ذلك إشارة إلى أن القرآن يومئذ لما يرفع، ولما في فواتحها من إجمال للصراع بين الحق والباطل، وتثبيت للمؤمنين في الفتن بشرح معناها ومآلها، وقد تميزت هذه السروة بقصص تمثل في مجملها الصراع في هذه الحاية الدنيا، فأولى قصصها تمثل صراع أصحاب الدعوات مع الباطل، وفي ثانيها صراع المال وفتنته، وفي ثانيتها صراع العلم والجهل، وما قد يعرض للعلماء من المنغصات كالغرور ونحوه، وفي الثالثة صراع الدولة والملك وما قد يعرض فيه من فتن وإشكالات، وكل ذلك مجمل في مقدمة السورة بقول الله تعالى: { إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا * وَإِنَّا لَجَٰعِلُونَ مَا عَلَيۡهَا صَعِيدٗا جُرُزًا } [الكهف: 7-8].
وقوله في خاتمتها: { أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا * ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا * إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا * خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلٗا } [الكهف: 105-108]
وقد تضمنت هذه السورة العظيمة من حسن المبدأ والمختم وحسن العرض وترابط القصص، واتجاهها في سياق واحد، واستثمار شتى الأساليب لتأكيد المعاني التي جاءت السورة لتأكيدها ما يبهر العقول والألباب.