للشهادة في الإسلام مقام عالٍ، ومنزلة رفيعة في النفوس، كيف لا، وقد قال -صلى الله عليه وآله وسلم: “رأس الأمر وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد”([1]).

فليس أعظم من أن يضحي الإنسان بنفسه التي بين جنبيه، تلك النفس التي هو ضنين بها على الموت والقتل، بله الجرح أو الإيذاء البدني أو المعنوي، فيبذلها صاحبها عن طواعية واختيار في سبيل الله -تعالى.

فإذا باع العبد اشترى الرب، فنعمت التجارة، ونعم البيع، ونعم الأجر والربح، ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 111].

فإذا كان الإنسان في أصل خلقته شحيحًا في إنفاق المال ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]، فبذله نفسَه ومهجة روحه فيه من التضحية والبذل ما لا يقدر عليه إلا الشجعان الأقوياء.

ولذا كان الأجر عظيمًا، والدرجة رفيعة من رب العالمين -سبحانه.

قال -صلى الله عليه وآله وسلم: “لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ”([2]).

وأن تنشأ ناشئة من أبناء الحركات الإسلامية على الرغبة في الشهادة، وطلب الموت في سبيل الله، فهذا شيء لا غضاضة فيه.

ولكن أن يكون طلب الشهادة هو غاية الغايات، ومنتهى الإرادات، فهذا تصور يحتاج إلى تصحيح.

الشهادة ليست مجازر يُساق إليها الإنسان دون ثمن، ولكنها ضريبة قد يدفعها الإنسان في سبيل تحقيق الاستخلاف في الأرض، وتعبيد الخلق لله

فالأصل في وجود الإنسان في الأرض هو عمارتها، قال -تعالى: ﴿وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾ [هود: 61].

وقوله: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها﴾، أي: “خَلَقَكم لعمارتها”([3]).

“وَمَعْنَى الإِعْمَارِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الأَرْضَ عَامِرَةً بِالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالزَّرْعِ؛ لأَنَّ ذَلِكَ يُعَدُّ تَعْمِيرًا لِلأَرْضِ، حَتَّى سُمِّيَ الْحَرْثُ عِمَارَةً؛ لأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ عَمْرُ الأَرْضِ”([4]).

وهذا مبني على مبدأ الاستخلاف، الذي صدّره ربنا -تعالى- في مفتتح القرآن الكريم بقوله للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: 30].

“فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض، وتطلق فيها يده، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين، والتحليل والتركيب، والتحوير والتبديل، وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات، وكنوز وخامات، وتسخير هذا كله -بإذن الله- في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه”([5]).

فالشهادة ليست مجازر يُساق إليها الإنسان دون ثمن، ولكنها ضريبة قد يدفعها الإنسان في سبيل تحقيق الاستخلاف في الأرض، وتعبيد الخلق لله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الله.

وطلب الشهادة ليس يأسًا من واقع مرير، وانسداد في الآفاق، فتكون الشهادة طلبًا للتخلص من هذه الحياة البائسة.

إن أول ما يطلبه المسلم في جهاده هو طلب النصر من الله، فليس الغرض من الجهاد الاستشهاد، بل رفع راية الإسلام، وجعل كلمة الله هي العليا، وهي الحاكمة.

والقائد المحنك هو الذي يحافظ على جنوده، ولا يرميهم في التهلكة، وقد “كتب عمر بن الخطاب: أن لا تستعملوا البراء بن مالك على جيش من جيوش المسلمين؛ فإنه مهلكة من المهالك، يقدم بهم”([6]).

وقد كان ألم المسلمين عظيمًا يوم الجسر، ذلك اليوم الذي استشهد فيه الآلاف من المسلمين؛ حيث عبر أبو عبيد الثقفي بجيشه الفرات لملاقاة جيش الفرس، فكان المسلمون بين جيش عرمرم والنهر من خلفهم، فدارت الدائرة على المسلمين.

وقد اعتبر المحللون عبور قائد المسلمين للضفة الأخرى للنهر خطأً وقع فيه، ودفع بسببه حياته وحياة آلاف المسلمين ثمنًا لهذا الخطأ.

فالأصل هو الحياة في سبيل الله، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس مع رسول الله -- إذ طلع علينا شاب من الثنية، فلما رأيناه بأبصارنا قلنا: لو أن هذا الشاب جعل شبابه ونشاطه وقوته في سبيل الله؟

قال: فسمع مقالتنا رسول الله -.

قال: “وما سبيل الله إلا من قتل؟!

من سعى على والديه ففي سبيل الله.

ومن سعى على عياله ففي سبيل الله.

ومن سعى على نفسه ليعفها ففي سبيل الله.

ومن سعى على التكاثر فهو في سبيل الشيطان”([7]).

ولذلك لم يحصر الشهادة في الجهاد في سبيل الله -تعالى، بل وسّع معنى الشهادة ليشمل أعدادًا أكبر من المسلمين،  فعن عبادة بن الصامت، أن النبي -- قال: “ما تعدون الشهيد فيكم؟”.

قالوا: الذي يقاتل فيقتل في سبيل الله -تعالى.

فقال رسول الله -: “إن شهداء أمتي إذًا لقليل.

القتيل في سبيل الله -تبارك وتعالى- شهيد، والمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والمرأة تموت بِجُمْعٍ شهيد”، يعني: النفساء([8]).

إذن فالشهادة عظيمة وعاقبتها ثواب جزيل، لكني -أحسب- أن القيام بحق الاستخلاف في الأرض بتعبيد الخلق، وإعلاء كلمة الحق، ومدافعة الباطل، وإقامة دولة الحق أعظم عند الله -تعالى.


([1]) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده، ح(22069) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد منقطع”.

([2]) أخرجه الترمذي في “فضائل الجهاد”، باب: “فِي ثَوَابِ الشَّهِيدِ”، ح(1663) من حديث المقدام بن معديكرب -رضي الله عنه، وقَالَ أَبُو عِيسَى: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ”، وقد صححه الألباني في “صحيح سنن الترمذي”.

([3]) تفسير القرطبي، (9/56).

([4]) تفسير التحرير والتنوير، (12/108).

([5]) تفسير الظلال، (1/56).

([6]) طبقات ابن سعد، (7/16).

([7]) أخرجه البيهقي في “السنن الكبرى”، (9/25)، وقد ذكره في “السلسلة الصحيحة”، (5/272).

([8]) أخرجه أحمد في “مسنده”، ح(22737)، وقد قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “حديث صحيح، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكنه منقطع بين عبادة بن نسي وبين عبادة بن الصامت”.