يمثل القرن الثالث عشر الهجري منعطفًا خطيرًا في التاريخ الإسلامي؛ فدولة الخلافة العثمانية قد دبَّ في أوصالها التعب، وحل بها الوهن، وأصبحت كيانًا ضخمًا ضعيف البنية، كليل البصر، تتناوشه سهام الأعداء من كل جانب، وتُقتطع أجزاء غالية من أرضه، وتُغلُّ يده في ممارسة حكمه، وتُعرض عليه معاهدات جائرة تحدُّ من نفوذه وسلطانه، ولم تنسَ الدول الأوروبية ما كانت عليه الدولة العثمانية من قوة وجاه، وما قامت به من فتوح في قلب أوروبا، وظل حقدها الأسود يعمل في قلبها حتى وجدت فرصتها، فنفّست عما فيه من ضغينة وكراهية، ولم تكن هناك فرصة أسنح من حالة الضعف التي عليها الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر الهجري.
وفي وسط هذه الأجواء الحالكة تداعت صيحات المصلحين للخروج من هذا النفق المظلم، والتطلع إلى بشائر الصباح، وكانت تركيا ومصر وتونس ملتقى تلك الصيحات التي تصارع الفناء والضياع، وتدعو إلى اليقظة وإصلاح التعليم، والمطالبة بالشورى ومقاومة الاستبداد.
وكانت قد أقيمت في مصر تجربة إصلاحية قام بهامحمد علي، غير أن معاهدة لندن في سنة (1256هـ= 1840م) وَأَدَتْها، غير أن آثار تلك الحركة الإصلاحية دفعت بمصر خطوات قليلة إلى الإمام، بفضل بعض مفكريها ومصلحيها مثل: علي مبارك، ورفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده، وشهدت تونس في هذه الفترة نهضة مماثلة، في عهد الباي أحمد (1253 ـ 1276هـ = 1837ـ1859م)، وكان معجبًا بمحمد علي ومتأثرًا به؛ فبدأ بإصلاح الجيش وبنائه على النمط الفرنسي مثلما فعل، وسار خلفاؤه من بعده على هذا النهج، وكان لخير الدين التونسي يد في حركة الإصلاح التي شهدتها البلاد.
المولد والنشأة
لا يُعرف الكثير عن حياة خير الدين التونسي سوى أنه كان مملوكًا تركيًا، تربى في بيت “تجسين باي” نقيب الأشراف في إستانبول، ثم بيع في سنة (1255هـ= 1839م) إلى “أحمد باي تونس”، فانتقل إليها، وتلقى في قصر “الباي” تعليمًا دينيًا وعسكريًا، وأتقن عددًا من اللغات؛ كالتركية والفارسية والإنجليزية والفرنسية، ثم انتظم في سلك جند الخيالة، وترقى بسرعة بفضل مواهبه وقدراته، وقد مكنه ذلك من الاتصال بالبعثة الفرنسية التي استقدمها “الباي حاكم تونس” لمساعدته في تنظيم جيشه وتطويره، وتوثيق صلته بأساتذة مدرسة “باردو” الفرنسية وتلاميذها، وكانت المدرسة قد أُنشئت سنة (1256هـ= 1840م) ورعت أول تجربة تونسية لتحديث التعليم، وترجمة الكتب الأجنبية إلى العربية.
تدرجه في المناصب الرسمية
سافر خير الدين التونسي إلى باريس سنة (1269هـ =1853م) بتكليف من “أحمد الباي” لمقاضاة ملتزم الضرائب السابق “محمود بن عياد” الذي اختلس أموال الدولة، وفَرَّ بها إلى فرنسا، وحصل على الجنسية الفرنسية، وقد طالت إقامته هناك حتى بلغت أربع سنوات نجح في أثنائها في استعادة 24 مليون برنك وردها إلى خزانة الدولة، ثم رجع إلى تونس حين عُيِّن في (جمادى الأولى 1273هـ= يناير 1857م) وزيرًا للبحر لـ”محمد الباي” الذي خلف ابن عمه “الباي” السابق بعد وفاته في (16 من رمضان 1271هـ =31 من مايو 1855م).
وكان خير الدين محبًا للإصلاح مناصرًا له؛ فأيد “محمد الباي” حين أصدر “عهد الأمان” الذي ضمن لجميع سكان تونس المساواة في الحقوق، ووقف إلى جانب “الصادق باي” الذي خلف أخاه “محمد الباي” حين أصدر الدستور في (17 من رجب 1277هـ= 29 من يناير 1861م) وأنشئ بمقتضاه مجلس استشاري مكوَّن من ستين عضوًا، سُمي “المجلس الأكبر”، وعُيِّنَ “خير الدين” رئيسًا له.
الاستقالة من منصبه
نشب خلاف بين “خير الدين” وبين الوزير “مصطفى الخزندار” على الرغم من صلة النسب التي جمعت بينهما؛ فقد كان “خير الدين” زوجًا لابنة الوزير الكبير، وكان سبب الخلاف رفض “خير الدين” لممارسات الوزير المالية حول أمر الاستدانة من المُرَابين الأوروبيين، فآثر الاستقالة من منصبيه في آخر (جمادى الأولى 1279هـ =23 من نوفمبر 1862م).
ولم تمنعه الاستقالة من القيام بالسفر إلى أوروبا وإستانبول، كما كان يحضر اجتماعات المجلس الخاص الذي كان “الباي” يستشيره في بعض الأمور، ثم عاش في شبه عزلة عن الحياة العامة في الفترة ما بين (1282هـ –1286هـ= 1865م –1869)، مبتعدًا عن السياسة ومنصرفًا إلى الدراسة والتأمل، وكان من أثر ذلك تأليفه كتابه “أقوم المسالك في معرفة الممالك”، وقد طبعه بالمطبعة الرسمية في تونس (1284هـ=1868م).
العودة إلى الوزارة
وكان من نتيجة انتهاج تونس لسياسة متخبطة أن تدهورت أحوالها المالية، وآلت إلى الإفلاس، وفرض الدائنون الأوروبيون سنة (1286 هـ= 1869م) لجنة مراقبة مالية، واختير “خير الدين” رئيسًا لها، ثم أُسند إليه منصب الوزير المباشر سنة (1288هـ=1871م)، وبعد عامين تولى منصب الوزير الأكبر خلفًا لمصطفى خزندار الذي ثبت اختلاسه لبعض الأموال الديون، وذلك في (شعبان 1290هـ= أكتوبر 1877م)، ودامت فترة وزارته الكبرى نحو أربعة أعوام، نهض خلالها بمسؤوليته، ونهض بالبلاد، وبعث فيها روحًا جديدة وثَّابة، وأصلح كثيرًا من شؤونها.
إصلاحات خير الدين التونسي
شملت الإصلاحات التي قام بها “خير الدين التونسي” ميادين الإدارة والتعليم والاقتصاد؛ فألغى الضرائب السابقة التي تراكمت على الناس وصارت ديونًا تُثقل كاهلهم، وشجع الناس على زراعة الزيتون والنخيل بإلغاء الضرائب على الأراضي الزراعية لمدة عشرين عامًا، وأعاد تنظيم الضرائب على الاستيراد والتصدير، فحدد ضريبة الاسيتيراد بـ (5%) فقط، وخفف ضريبة التصدير، وألغى الحملات العسكرية التي كانت تتكلف أموالا باهظة لجمع الضرائب من القبائل الرُّحَّل التي اعتادت ألا تدفع الضرائب المفروضة عليها إلا عَنوة، وعمل على النهوض بالتعليم ونشر الوعي بين الناس؛ فأنشأ “المدرسة الصادقية” نسبة إلى “الباي محمد الصادق” الحاكم حينئذ بتونس، وقد شملت برامج التعليم بها العلوم الحديثة، واللغات الأجنبية إلى جانب اللغة العربية وعلوم الدين. وفي الوقت نفسه استعان برجال من العلماء في إعادة تنظيم الدراسة والتعليم بجامع الزيتونة، وأنشأ مكتبة جديدة تحت اسم المكتبة “العبدلية” على نمط المكتبات الحديثة، وشجع الطباعة، واستقدم بعض المصريين واللبنانيين للعمل فيهما، وطوَّر الصحافة، وأدخل فنونًا جديدة بها.
وأعاد للأوقاف العامة دورها الديني والاجتماعي، وأنشأ لهذا الغرض جمعية الأوقاف، وأسند رئاستها إلى “محمد بيرم الخامس”.
وكان من تصريف القدر أن زاد الخصب في العامين الأولين من وزارته، فساعد ذلك على ازدهار الزراعة والصناعة، والوفاء بالتزامات الديون؛ فعرفت تونس أعوامًا من الطمأنينة والهدوء.
خير الدين الصدر الأعظم
لم يمكث خير الدين كثيرًا في منصبه، على الرغم من ظهور ثمرات إصلاحه، فأعرض عنه “الباي” بتأثير بعض المقربين له، فاضطُر “خير الدين” إلى تقديم استقالته في (10 من رجب 1294هـ = 21 من يوليو 1877م) وعاش في قصره بعيدًا عن المشاركة في الحياة العامة، ثم طلبهالسلطان عبد الحميد للاستفادة من جهوده في الإصلاح، فسافر إلى إستانبول في (ذي القعدة 1295هـ= سبتمبر 1878م) ، وأُسندت إليه رئاسة لجنة تقوم بمراجعة الوضع المالي للدولة العثمانية، ثم لم يلبث أن عيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني “صدرًا أعظم” في (9 من ذي الحجة 1295هـ = 4 من ديسمبر 1878م)، ولم تكن الظروف مواتية للعمل المثمر بعد أن تكالب الأعداء على الدولة، وخرجت من حربها مع روسيا تَئِنُّ من جراحها وهزائمها القاسية، فعمل “خير الدين” في ظروف بالغة الحرج، ونجح في إجلاء الجيوش الروسية، وساهم في خلع الخديوي إسماعيل من ولاية مصر؛ لأن سياسته كانت تؤدي إلى إضعاف ارتباط مصر بالدول العثمانية، وجعلها عرضة للمطامع الأوروبية، وكانت سياسة “خير الدين” التي آمن بها هي توطيد الروابط بين الدولة العثمانية وولاياتها، ولما أخفق “خير الدين” في إقناع السلطان عبد الحميد بإصلاح نظام الحكم قدم استقالته من منصبه في (8 من شعبان 1296هـ =28 من يوليو 1879م)، وبقي على اتصال ببلاط السلطان، وأصبح عضوًا في مجلس الأعيان حتى وافته منيته هناك في (8 من جمادى الآخرة 1307هـ = 30 من يناير 1890م).
أقوم المسالك
أقوم المسالك
ولم يكن “خير الدين” إداريًا عظيمًا ومصلحًا فَذًّا فحسب، وإنما كان مفكرًا إصلاحيًا دوَّن أفكاره في كتابه “أقوم المسالك”، وهو يتألف من مقدمة طويلة، وجزأيْن؛ يحوي الجزء الأول عشرين بابًا، كل باب مخصص لبلد من البلاد الأوروبية، وتضم الأبواب فصولا تتضمن الحديث عن تاريخ البلد، وجغرافيته، وموقعه، ومساحته، وأهم ملوكه، وتنظيماته الإدارية والسياسية والعسكرية.
أما الجزء الثاني فيحتوي على ستة أبواب؛ خمسة منها في جغرافية القارات الخمس، وخصص الباب السادس للبحار.
غير أن أهم ما في كتابه هو مقدمته التي تجاوز الاهتمام بها سائر الكتاب، وأصبحت الإشارة إلى كتاب “أقوم المسالك” تعني الإشارة إلى المقدمة وحدها، وهي تلخص تجربة “خير الدين” كلها التي تركز على مقاومة أوروبا عن طريق الاستعارة منها، والتمسك بالجامعة الإسلامية لدعم هذه المقاومة، ومحاولة إصلاح الولايات الإسلامية المختلفة وبثّ روح اليقظة والنهوض فيها.
وتقوم الحركة الإصلاحية عند “خير الدين” على دعامتين رئيسيتين:
الأولى: ضرورة التجديد والاجتهاد في الشريعة الإسلامية، بما يتلاءم مع ظروف العصر وأحوال المسلمين، ويتفق مع ثوابت الشريعة، ودعا علماء الأمة إلى توسيع مفهوم السياسة الشرعية، وعدم قصرها على ما ورد فيه نصٌّ من كتاب الله وسنة رسوله، وذكرهم بمناهج السلف في هذا المجال الذين جعلوا نطاق السياسية الشرعية يتسع ليشمل كل ما لا يخالف الكتاب والسنة وإن لم يرد نص فيه؛ لأن في ذلك تحقيقَ مقصد من مقاصد الشريعة.
والثانية: ضرورة الأخذ بالمعارف وأسباب العمران الموجودة في أوروبا؛ لأنها طريق المجتمع إلى النهوض، وإذا كان هذا الطريق يتطلب تأسيس الدولة على دعامتيْ الحرية والعدل، فإن هاتين الدعامتين تُعدان أصليتيْن في الشريعة الإسلامية، وليستا غريبتين عن المجتمعات التي ينادي بإصلاحها “خير الدين”.
وكان “خير الدين” داعية إلى الإصلاح الشامل الذي يقوم على أساس تحقيق العدل والمساواة في حكم الرعية، ورفع مظاهر الظلم والتعسف عن كاهله، واحترام حقوقه الإنسانية، ولن يتحقق هذا إلا من خلال نظام حكم يقوم على الشورى، وتعدد مؤسسات الحكم، وعدم انفراد شخص مهما أوتي من قدرة وكفاءة وحسن سياسة في تصريف شؤون البلاد وإدارة أمور الرعية؛ لأن في الاستبداد والانفراد مدعاة للتفريط في الحقوق.
وفي مقابل ذلك اشترط أن تكون الأمة واعية مستنيرة تدرك مسؤولياتها، وتحسن ممارسة حريتها، وتراقب سير أمور الحكم، وتطالب بما لها من حقوق.
أحمد تمام5>
من مصادر الدراسة:
خير الدين التونسي ـ أقوم المسالك في معرفة المالك ـ دراسة وتحقيق منصف الشتوني ـ تونس ـ 1972م.
معن زيادة ـ خير الدين التونسي وكتابه أقوم المسالك ـ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر ـ ببيروت ـ 1405هـ=1985م.
أحمد أمين ـ زعماء الإصلاح في العصر الحديث ـ مكتبة النهضة المصرية ـ القاهرة ـ 1989م.
عزت قرني ـ العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة ـ عالم المعرفة (30) ـ الكويت ـ 1400هـ= 1980م.
صلاح زكي أحمد ـ قادة الفكر العربي ـ دار سعاد الصباح ـ القاهرة ـ 1993م.
أحمد فهد بركات الشوابكة ـ حركة الجامعة الإسلامية ـ مكتبة المنار ـ عمان ـ 1404هـ= 1984م.