حين بدأت مصر تتلمس طريق نهضتها في العصر الحديث انشغل أعلامها بالبحث عن وسيلة للخروج من الأزمة التي تعيشها الأمة والمتمثلة في التأخر الشديد عن الركب، والتخلف في مناحي الحياة. وكان إصلاح البلاد هو الشاغل الذي ملأ حياتهم وسيطر على عقولهم ووجدانهم، كل في مجاله، وحسب ما يستطيع، وبالقدر الذي يجيده؛ فانشغل بعضهم بإصلاح التعليم وإنشاء الجامعات والنهوض بالأزهر، وانهمك بعضهم في الإصلاح الاجتماعي وبناء المؤسسات، وقام آخرون بالنهوض بالأدب والفكر والصحافة، وشغف قليل منهم بجمع الكتب من الشرق والغرب، وحفظها وترتيبها والعمل على نشرها.
وكان أبرز من سلك هذا الطريق علمان كبيران هما: أحمد زكي باشا، وأحمد تيمور، وكان أشبه ما يكونا بفرسي رهان في حلبة واحدة، من حيث عنايتهما بالمخطوطات العربية والمكتبات القديمة، وسخاؤهما في اقتناء الكتب مهما غلت، وحرصهما في الحصول على المخطوطات مهما ندرت أو بعدت. ولم يكن وراء ذلك سوى رغبة صادقة في جمع التراث العربي، وحمايته من العبث والإهمال، والتنبيه إلى مكامن القوة فيه والإبداع، والمشاركة في الإصلاح بالعودة إلى الجذور واستنبات الصالح.
وكانت مكتبتا زكي وتيمور اللتان حوتا آلاف الكتب والمخطوطات من الركائز الأساسية التي اعتمدت عليها دار الكتب المصرية في بناء دعائمها، ومن أسباب اشتهارها بنفائس الكتب وذخائر المخطوطات.
صاحب الزكية
هو أحمد زكي بن إبراهيم، أحد أعيان النهضة الأدبية في مصر، ومن رواد إحياء التراث العربي الإسلامي، واشتهر في عصره بلقب شيخ العروبة.
ولد بالإسكندرية سنة (1284هـ=1867م)، وتلقى تعليمه بالقاهرة، وتخرج في مدرسة الإدارة (كلية الحقوق الآن) سنة (1295هـ=1887م)، وعمل مترجما في مجلس النظار (الوزراء)، وتدرج في المناصب حتى صار سكرتيرا لمجلس الوزراء سنة (1330هـ=1911م)، وظل في منصبه هذا حتى أحيل إلى التقاعد بعد عشر سنوات.
وحياة أحمد زكي متنوعة في جوانبها خصبة في عطائها؛ فقد شملت الترجمة وإحياء التراث، والتأليف والبحث، والرحلة وحضور مؤتمرات المستشرقين، والعمل بالجامعة المصرية.
غير أنه أوقف معظم حياته على إحياء التراث العربي ونشره وبذل له كل ما يملك من مال وجهد، وكان له الفضل في مد الجسور بين مصر وأوربا في مجال نشر التراث، وهو أول من استخدم مصطلح “التحقيق” على أغلفة الكتب العربية المنشورة.
كما أنه تقدم بمشروع لإحياء الأدب العربي إلى مجلس الوزراء، فأقره في جلسته التي ترأسها الخديوي عباس حلمي في (21 من شوال 1328هـ= 24 من أكتوبر 1910م)، واعتمد مجلس الوزراء لهذا المشروع مبلغ 9392 جنيها مصريا –وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت- تحت إشراف المجلس الأعلى لدار الكتب المصرية، وقد أخرج هذا المشروع عددا من الكتب القديمة بتحقيق أحمد زكي، مثل: “نكت الهميان في نكت العميان” للصلاح الصفدي، و”الأصنام ” للكلبي، و”الأدب الصغير” لابن المقفع، و”التاج في أخلاق الملوك” المنسوب للجاحظ، والجزء الأول من كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” للعمري.
ولم يكتف الرجل بنشر التراث وتحقيقه، بل وضع رسائل صغيرة في جوانب مهمة، تكشف غامضا وتزيل مبهما، وقد تجاوزت هذه الرسائل 30 رسالة، عالجت موضوعات متفرقة مثل: “اختراع البارود والمدافع وما قاله العرب في ذلك”، و”الطيران في الإسلام”، و”سراديب الخلفاء الفاطميين”.
وبينت بحوثه أن العرب هم أول من كشفوا منابع النيل، وأول من أثبتوا كروية الأرض قبل الأوربيين بثلاثة قرون، ونفى أن يكون رأس الحسين مدفونا في مصر، وأن يكون جوهر الصقلي والجبرتي مدفونين في الجامع الأزهر.
حروف الطباعة وعلامات الترقيم
ومن أهم الأعمال التي أسداها أحمد زكي للثقافة العربية مشروعان جليلان، هما اختصاره حروف الطباعة العربية من 905 أشكال إلى 132 شكلا و46 علامة بعد تجارب واختبارات يومية في مطبعة بولاق استمرت لثلاثة أشهر، سبقتها زيارات إلى مطابع ومسابك في أوربا للبحث عن وسيلة يمكن بواسطتها اختصار صندوق الطباعة، وتسهيل مهمة جمع الحروف، وهو ما أدى إلى تحسين في أعمال الطباعة وتوفير النفقات والتكاليف.
أما العمل الثاني فهو وضع علامات الترقيم العربية، باقتراح من وزير المعارف أحمد حشمت، وقد تطلب منه هذا العمل مراجعة أمهات الكتب العربية، والوقوف على ما وضعه علماء الغرب في هذا الشأن، واصطلح على تسمية هذا العمل بالترقيم؛ لأن هذه المادة تدل على العلامات والإشارات والنقوش التي توضع في الكتابة. وقد فصل ذلك في رسالة ألفها في هذا الغرض بعنوان “الترقيم وعلاماته باللغة العربية”، طبع سنة (1331هـ=1911م).
الخزانة الزكية
وتعد الخزانة الزكية العمل الأكبر الذي قام به أحمد زكي وخلد ذكره، ولم يضن في تكوينها بمال وجهد حتى صارت واحدة من كبريات المكتبات الخاصة في الشرق الإسلامي.
وساعده على تكوينها وظيفته المرموقة في الحكومة، ورحلاته المتعددة، وبذله المال بسخاء في سبيل الحصول على ما يريد من كتب ومخطوطات، وقد بدأ في جمعها وهو طالب صغير يتردد على بائعي الكتب المعروفين في مصر من أمثال أمين هندية وعبد الحميد الطوني، ثم اجتمع له ما أخذه من شقيقه من كتب كانت لديه، بالإضافة إلى ما كان يأخذه من جوائز مدرسية، وما اشتراه من مكتبات الأعلام الراحلين، مثل مكتبة الأمير محمد إبراهيم، ومحمد بك واصف، وكانت مكتبة نفيسة اشتراها بألفين من الجنيهات.
كما اشترى مكتبات علي باشا إبراهيم، والشيخ رضوان العفش، وحسن حسني باشا، بالإضافة إلى ما اقتناه في أثناء رحلاته إلى أوربا والأستانة، واستطاع في إحدى رحلاته إليها أن يزور مكتبة سراي طوب قبو، وكانت مغلقة في وجه أي زائر لقرون عديدة، وأن يبقى بها أربعة أشهر كاملة نسخ منها عددا من الذخائر العربية.
وفي دمشق استطاع بمساعدة أصدقائه ومعارفه شراء نفائس الكتب، كما استحضر عشرات الكتب النادرة من العراق والهند. وبمضي الأيام تضخمت المكتبة، واتسعت حتى بلغت في سنة (1337هـ=1919م) حوالي اثني عشر ألف كتاب.
محتويات المكتبة
وقد احتوت مكتبته على مؤلفات فريدة لا نظير لها في مكتبة دار الكتب أو غيرها، فضلا على أكثر من مائة صحيفة ومجلة من الدوريات العربية لا يوجد منها شيء في الدار العريقة، وتضمنت المكتبة أيضا مجموعة الفرمانات الصادرة باللغة العربية بخصوص الحكومة المصرية، والمجلة الآسيوية التي تصدر من باريس من أول عدد سنة 1822م إلى ما بعد سنة 1930م، ومجموعة الكتب التي صدرت من مطبعة بولاق ومطبعة مدرسة الطب، وعشرات الكتب التي طبعت في الشام والجزائر ومراكش ومالطة.
ومن أهم المجموعات التي اقتناها الكتب العربية المطبوعة في أوربا في مجالات الفلسفة والطب والعلوم والفلك والأدب، ومن أهمها كتاب “القانون” وجزء من كتاب الشفاء، وهما لابن سينا، وقد طبعا في روما سنة 1593م.
وضمت المكتبة نحو ألف وخمسمائة مخطوط، وبلغ الشغف بجمع الكتب واقتنائها إلى أن سعى لدى وزارة المعارف حتى وافقت على إلغاء الرسوم الجمركية على الكتب.
مكان المكتبة
وقد تنقلت المكتبة الزكية من مكان لآخر، فكانت في بادئ الأمر بمنزل أحمد زكي خلف سراي عابدين، حتى وافق مجلس النظار على طلب “أحمد حشمت باشا” ناظر المعارف في سنة (1330هـ=1910م) بتخصيص مكان خاص لمكتبة أحمد زكي في دار الكتب. وظلت الخزانة الزكية مفتوحة الأبواب كل يوم من الساعة الرابعة بعد الظهر حتى منتصف الليل، وبذلك أتاح مكتبته للراغبين في البحث والاطلاع للتردد عليها والاستفادة من كنوزها.
ثم وقع خلاف بينه وبين الحكومة في سنة (1339هـ=1921م) كان من شأنه أن طُلب منه أن ينقل مكتبته من دار الكتب، فاستجاب ونقل مكتبته العامرة، ولخوفه من ضياعها أو تبديدها بعد وفاته -وهو الذي أنفق عليها أموالا طائلة- حرر وقفية في (16 من ذي الحجة 1339هـ= 21 من أغسطس سنة 1921م) بموجبها أهدى مكتبته إلى وزارة الأوقاف، واشترط في وقفيته أن تكون له النظارة على مكتبته مدى حياته، ثم تؤول بعد ذلك إلى وزير الأوقاف بصفته الرسمية، وأن يكون مقر المكتبة مدرسة السلطان الغوري، وأن تسمى “الخزانة الزكية” وتبقى مستقلة بشخصيتها، فلا تضاف إلى دار كتب أخرى، وأن تكون المطالعة في قبة الغوري.
وظلت “الخزانة الزكية” قائمة في مكانها حتى وفاته في (21 من ربيع الأول سنة 1353هـ= 5 من يوليو سنة 1934م)، وكانت قد تجاوزت ثمانية عشر ألف كتاب.
وبعد وفاته صدر قرار من وزير الأوقاف بنقل الخزانة الزكية إلى دار الكتب المصرية لتكون واحدة من أعظم الدعائم التي قامت عليها شهرتها بين دور الكتب في العالم.
أحمد تمام5>
من مصادر الدراسة:5>
أنور الجندي: أحمد زكي الملقب بشيخ العروبة- المؤسسة المصرية العامة للترجمة والطباعة والنشر-القاهرة- 1964م.
يوسف أسعد الداغر: مصادر الدراسة الأدبية- منشورات الجامعة اللبنانية-بيروت – 1983م.
أيمن فؤاد سيد: دار الكتب المصرية تاريخها وتطورها- مكتبة الدار العربية للكتاب- القاهرة- 1417هـ=1996م .