حكى القرآن الكريم عن جانب من قصة يونس بن متى عليه السلام، صاحب الحوت وأحد الأنبياء، وقد أرسل إلى قومه من أهل نينوى في العراق، بشيرا ونذيرا، فقام بواجب الدعوة إلى الله تعالى زمانا طويلا ولكن قومه أبوا عليه وعاندوه، وأوحي أن الله ينزل العذاب على قومه لإصرارهم على الكفر، ولكن يونس عليه السلام خرج من القرية قبل أن يؤمر أو يؤذن له في الذهاب، فركب سفينة مع قوم خارجا من القرية، فاضطربت بهم السفينة وألقي يونس عليه السلام منها بعد أن وقعت القرعة عليه، ومن هنا دعا يونس بهذه الكلمات: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فكان سببا لنجاته من هذا الكرب والبلاء المبين، يقول الله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: 87].   

خروج يونس عليه السلام مغاضبا

بين القرآن الكريم من خلال قصة يونس عليه السلام مدى فضل الله وإنعامه عليه، كما أنعم على الأنبياء المتقدمين الذين ذكر قصصهم، وأجاب دعاءهم بعد الكرب والشدة، ومقاساة الأهوال، والصبر على العناء، إذ خرج من قريته وترك قومه غضبا لله على كفر قومه وإعراضهم عن أمر الله تعالى، وقد امتلأ قلبه غيظا وضجرا من قومه فاستعجل عليهم العذاب، وهذا ما أشار إليه القرآن وهو يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر على الناس فلا يكون مثل يونس عليه السلام، قال الله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)}.

فالآية الكريمة تثبت أن يونس غضب على قومه فكان منه العجلة والضجر، فكان من أَمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له وشروده به في البحار وظلمات اليم (إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ) حين دعا ربه في بطن الحوت فقال: (أَنْ ‌لَا ‌إِلَهَ ‌إِلَّا ‌أَنْتَ ‌سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، (وَهُوَ مَكْظُومٌ) أَي: وقلبه مملوء بالغيظ والغضب على قومه إِذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلي الإِيمان فطلب من ربه تعجيل عذابهم.

ونقف على سياق قصة يونس كاملا من خلال آيات القرآن الحكيم ، بداية مع القرية التي أرسل إليها يونس عليه السلام، يقول الله تعالى: ﴿‌فَلَوْلَا ‌كَانَتْ ‌قَرْيَةٌ ‌آمَنَتْ ‌فَنَفَعَهَا ‌إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس: 98]، حيث آمن جميع سكان القرية، حتى كانت مضرب المثل، يقول ابن عباس: لم تكن قريةٌ آمَنَتْ فنفعها الإيمانُ إذا نزل بها بأسُ الله إلا قريةَ يونس[1]. وأهل القرية آمنوا بعد عناد طويل، وخروج يونس عليه السلام من القرية مغاضبا، حين رأوا أمارة العذاب الذي وعدهم الله تعالى وقرب حلوله، فإنهم لم ينتظروا حتى يحل عليهم العذاب حتى أسرعوا إلى التوبة والندامة والإيمان، فكشف الله عنهم العذاب، يقول الله تعالى: ﴿‌وَأَرْسَلْنَاهُ ‌إِلَى ‌مِائَةِ ‌أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ* فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [الصافات: 147-148].

عن عبد الله بن مسعود، أنّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: إن يونس دعا قومَه، فلمّا أبَوا أن يُجِيبوه وعَدَهم العذابَ، فقال: إنّه يأتيكم يوم كذا وكذا. ثم خرج عنهم، وكانت الأنبياءُ إذا وعدتْ قومها العذاب خرجت عنهم، فلمّا أظلَّهم العذابُ خرجوا، ففرَّقوا بين المرأة وولدها، وبين السَّخْلَة وأولادها، وخرجوا يَعِجُّون إلى الله، فعَلِم اللهُ منهم الصِّدق، فتاب عليهم، وصرف عنهم العذاب، وقعد يونسُ في الطريق يسألُ عن الخبر، فمرَّ به رجلٌ، فقال: ما فعل قومُ يونس؟ فحدَّثه بما صنعوا، فقال: لا أرجعُ إلى قوم قد كَذَبْتُهم. وانطلق مُغاضبًا يعني: مُراغِمًا[2].

نقل ابن كثير عن عدد من الصحابة والتابعين وعلماء السلف، أن يونس عليه السلام لما خرج من بين ظهرانيهم، وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة، وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، ثم عجوا إلى الله عزوجل، وصرخوا وتضرعوا إليه، وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات.

وجأرت الأنعام والدواب والمواشى، فرغت الابل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغث الغنم وحملانها وكانت ساعة عظيمة هائلة. فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته، عنهم العذاب الذى كان قد اتصل بهم سببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم.

ولهذا قال تعالى: ﴿‌فَلَوْلَا ‌كَانَتْ ‌قَرْيَةٌ ‌آمَنَتْ ‌فَنَفَعَهَا﴾ أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها، فدل على أنه لم يقع ذلك، بل كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ ‌مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [سبأ: 34].

وقوله: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ أي آمنوا بكمالهم[3].

أما يونس عليه السلام فقد خرج من القرية، مغاضبا بسبب قومه، فركب سفينة في البحر فلجت بهم، واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها، وكادوا يغرقون، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم في البحر، للتخفيف، فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه السلام، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها ثانية، فوقعت القرعة عليه أيضا فأبوا، ثم أعادوها ثالثة فوقعت عليه أيضا، لما يريده الله به من الأمر العظيم، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ ‌يُونُسَ ‌لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)﴾ [الصافات].

وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر، وبعث الله عزوجل حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحما ولا يهشم له عظما فليس لك برزق، فأخذه فطاف به البحار كلها[4].

وهنا ابتهل نبي الله يونس عليه السلام إلى الله تعالى خالق المخلوقات، وباري النسمات، ورب البريات: ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فدعا ربه في أعماق الظلمات المتكاثفة أو من تحت الظلمات الثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل: تنزيها لك يا رب، أنت الإله وحدك لا شريك لك، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد، لا يعجزك شيء في الأرض ولا في السماء. ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾  بالخروج دون أمر أو إذن منك، وهذا خلاف الأولى للأنبياء[5].

استجاب الله دعوة يونس عليه السلام وهو مكروب، فأنقذه الله تعالى وهو في ظلمات البحر، يقول الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنبياء: 88]، وطلب يونس عليه السلام كان بأسلوب التلويح أَن يكشف عنه غمه ويزيل عنه كربه، بعد أَن وصفه بكمال الربوبية، ونزهه عن كل النقائص واعترف على نفسه، وهو من أَلطف أَساليب الأَدب في الدعاء، إِذ يُعَرِّض بطلبه ولا يصرح به. ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَي وكما نجى الله يونس من غمه ينجى كل مؤْمن يعترف بذنبه ويقرّ بتقصيره فيه نادما عليه،  ينجيه إِن هو استعان بربه وسأَله العفو والمغفرة[6].

قال الله تعالى: ﴿ ‌فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات]، أي ألقيناه  ﴿بِالْعَرَاءِ﴾ وهو المكان القفر الذي ليس فيه شئ من الأشجار، بل هو عار منها، ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ ضعيف البدن كالفرخ، ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ وهو القرع، قال بعض العلماء: في إنبات القرع عليه حكم جمة ; منها أن ورقه في غاية النعومة، وكثير وظليل، ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره، نيا ومطبوخا، وبقشره وببزره أيضا. وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك[7].

دعاء المكروب أو المغموم 

وهذا الدعاء الذي قاله نبي الله يونس عليه السلام وهو في حالة الكرب، جاء في فضله حديث صحيح عن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون» إذ دعا وهو في بطن الحوت: ‌لا ‌إله ‌إلا ‌أنت ‌سبحانك إني كنت من الظالمين؛ فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له[8].

وفي رواية أخرى عند النسائي في كتابه (عمل اليوم والليلة)، قال سعد بن أبي وقاص: «قَالَ كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَلا أخْبركُم أَو أحدثكُم بِشَيْء إِذا نزل بِرَجُل مِنْكُم كرب أَو بلَاء من بلَاء الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فرج عَنهُ فَقيل لَهُ بلَى قَالَ دُعَاء ذِي النُّون ‌لَا ‌إِلَه ‌إِلَّا ‌أَنْت ‌سُبْحَانَكَ إِنِّي كنت من الظَّالِمين»[9].

ويعد هذا الدعاء لمن نزل به الكرب أو الهم أو الحزن أن يأخذ به ويدعو الله به، ويسمى دعاء المكروب او المغموم، فإن «العَبْد إِذا وَحده وَنفى عَنهُ الشّرك ثمَّ نزهه عَمَّا رَآهُ عَلَيْهِ من السوء واعترف بِأَنَّهُ من الظَّالِمين تكرم عَلَيْهِ ربه وتفضل على العَبْد فَلم يخيبه فِيمَا أمل وَرَجا وَكَذَلِكَ وعد الله فِي تَنْزِيله الْكَرِيم»[10].