المقاطعة عبادة معقولة صامتة: شذرات ومقتطفات، نتطلع فيها إلى التأصيل الدقيق للفعل المقاطع المقاوم، بعلم عميق وعمل صحيح ورؤية كلية ومقاربة تجديدية لحقائق الشرع العالية، في سياقات تكامل أبعاد المقاومة للعزة والكرامة، وتعزيز الجهود والقصود بالممكن المتاح والمنجز المستمر.
مُنطلقنا: شاهدُ الصيام
في متابعاتي لدعوات المقاطعة ومتعلقاته: اقتصاديا ورياضيا وثقافيا وفنيا وأكاديميا وسياحيا؛ لاحَ في ذهني معنًى مهم من معاني الصيام، وهو أنّه عبادة تركية، أي: أنّ الصائم يَتْركُ طعامه وشرابه وشهواته كامل النهار، والقصد الأوحد في ذلك هو امتثالُ أمر الله بالصيام لأجله سبحانه.
والذي وقفتُ عنده بالتحديد عبارةٌ في كلام العلماء، هي: عبارة “التَّرْكيةِ”، فلماذا لم يُعبَّر عن الصيام بأنه عبادةٌ فِعْليةٌ، بمعنى أنها عبادة تؤدى بنيّة قلبية وفعل الإمساك عن المفطرات وأفعال أخرى تتعلق بالصيام هي آداب وأخلاق، كفعل إفطار الصائم وإكرام الضيف وتكثير العطاء الخيري وغيره.
إنّ التعبير بعبارة “التَّرْكية” يُشيـر إلى العبادة الصامتة، التي يكون فيها الإنسان مُمتنعًا عن المُفطرات ومقاطعًا لأي فعلٍ قد يُفسد الصوم أو يُقلِّل فضله وأجره. ويُشير إلى أنّ هذا الامتناع يؤدى لوجه الله تعالى فقط وليس لحَظٍّ عاجلٍ أو رَغبةِ سُمعةٍ أو جلبِ منفعةٍ… فهنالك إذن محدّدان للعبادة التركية: الامتناع عن الفِعْل المُفطِـر، وأن يكون ذلك الامتناع لوجه الله تعالى.
وعليه أحسبُ أنّ الصيام ضربٌ من ضُروب الجهاد، وأنّ هذا الجهاد جهادٌ صامتٌ، يترك فيه المُجاهد الصائم أفعالا تفسده وتـقـلّـل فضله وأجره.
شواهد على العبادة التركية والتعبّد الصامت
ليس الصيام فقط يُشير إلى العبادة التركية أو الصامتة، بل هنالك عبادات أخرى صامتة يكون الأداء فيها غير ظاهر وغير مُعلَن، ويقتصر على القائم به في علاقة خاصة محضة مع الله تعالى، لا يداخلها رياء ولا مقدماته كإظهار عمله الذي قد يؤدي به إلى استحسان من يراه، فيُشكَـر على ذلك؛ ما يؤدي إلى غُروره وإعجابه بنفسه وإبطال عمله بناءً على ذلك.
ومن تلك العبادات قيامه اللّيل واعتكافه وسائر خلواته التي لا يعلمها إلا الله تعالى أو بعض من لا يمكن مفارقته كالمرء لزوجه أو المرافق لرفيقه في مناسبات رفقة ومقامات روضة من رياض الجنة…
وكذلك نفقاته وتدخلاته وإفاداته مما لا يقع أمام الأنظار ولا تترتب عليه حظوظ آثار وما يجري في الليل والنهار، وفي هذا من القصص والحكايات القديمة والحديثة، أكتفي بواحدة تَبلّغتها من راوٍ ثقة: أنّ هنالك رجلا صالحا كان يضع العطايا قبل الفجر أمام أحد المساجد، كي يأخذها من يستحقها، وكان في ذلك يتحرى خلاء المكان من النّاس، ويلتفت يمينا وشمالا عندما يضع متاعه، ثم يغادر بسرعة من جهة لا تدل على أنه فلان… وذات مرة رصده ناظر فعرفه، فرجاه بيمين وطلب منه بيقين، أن لا يخبر أحدا وأن يدعو الله له بالستر والقبول.
أصالة الامتناع الشرعي
ولعل عُموم العبادات الصامتة كما بدت لي بعد تأملاتٍ في حديث الصيام ونظائره التي لم ينص عليها كما نُصّ على الصيام، يعودُ إلى أصل النّهي الشرعي الذي يأمر فيه الشارع الكـفّ عن الفعل، والكفّ هو الامتناع والترك، وليس فيه ما يدل على الفعل والممارسة كفعل الأمر الذي يُقْدم فيه الإنسان على حركة وقول وتصرّف، كفعل الصلاة التي فيها: الذهاب إلى المسجد والقيام والركوع والسجود ونحوه…
وفي الامتناع عن الداعمين للعدو تجاريا وفنيا وإعلاميا… نواهٍ شرعـيّة كثيرة وردت في أفعال معينة، كفعل إعانة العدو بالكلمة: «من أعانَ على قتلِ مؤمِنٍ ولو بشطرِ كلِمَةٍ جاءَ يومَ القيامةِ مَكتوبٌ بينَ عينيهِ: آيِسٌ مِن رحمةِ اللَّهِ» [سُنن ابن ماجه]، {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وإعانته بالصمت والسلبية واللامبالاة، {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79]، وإعانته بتصديقه وترويج أكاذيبه: «كَفى بالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ» [صحيح مسلم]، ونحوذ لك.
هل المقاطعة من جنس العبادات الصامتة؟
العدو اسم لمن يصدر منه العدوان، والعدوان محرّم على وجه القطع، ومنه العدوان على الأنفس والأموال والمصالح الحيوية والكرامة والحقوق… وحكم العدوان هو صدّه ومنعه، لحفظ الحقوق وجلب المصالح ودرء المفاسد، والدليل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والمقاطعة من وسائل الصدّ والمواجهة (المقاطعة للعدو ومتعلقاته)، فالمقاطعة هي إضعاف العدو من جهة ما يُدعم به مما هو موضع مقاطعة، فالعدو يُدعم بالمال والاقتصاد والإعلام والسياسة والفنون… فيكون مقاطعة ذلك الدعم إضعافًا له وتقويةً لمن يقاومه ويصد عدوانه، والفعل المقاطع هو وسيلة لمقصد الإضعاف والتهرئة، وحكم الوسيلة حكمٌ لمقصودها، و”ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، و”الوسائل لها أحكام المقاصد”، والوسيلة هنا بشطرين: شطر إضعاف العدو، وشطر تقوية من يقاومه.
كما أن هذه المقاطعة هي مقاومة صامتة، وهي مقاومة ناعمة، ليست مقاومة عسكرية مثلا، وليست مواجهة مباشرة مع العدو، وإنما هي مواجهة غير مباشرة وغير ظاهرة بل هي صامتة، وفاعلية المقاطعة تظهر في آثارها الجسيمة على مستوى الجهات المقاطَعة كالشركات والمؤسسات والمناسبات وغيرها…
المقاطعة أوسع أنواع المقاومة
والمقاومة تسع أوسع الشرائح الاجتماعية وليس فيها مشاكل، فالمُقاطِع يفعل المقاطعة وهو في أمن وأمان، لا يخاف من المناوئين للحقّ المرجفين في المدينة المناصرين للعدو، على غرار من يتصدر مقاومة بلسانه أو باحتجاجه أو بدعمه وإسناده بما يُظهره أمام الناس وأنه منحاز للحقّ ومناصر لأصحابه…
المقاطعة من جنس النهي الشرعي
هذا فضلا عن أنّ المقاطعة هي من جنس الكف عن مساندة الظالمين والسكوت عن ظلمهم وكذبهم وتنكيلهم، فهي بناءً على هذا تدخل ضمن جنس النهي الشرعي بنظر في الشرع فسيح وبرؤية كلية جامعة. فالأمر كما عرفه العلماء بأنه طلب الفعل، كطلب إقامة الصلاة، والنهي هو طلب الكف عن الفعل المحرم، كطلب عدم الركون إلى الظالمين: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [هود: 113].
كما أن المقاطعة ضربٌ من ضُروب الاجتهاد بمفهومه الواسع وآفاقه الرحبة المجددة بتجدد الزمان والحال، وهي من قبيل الجهاد الذي لا قتال فيه، وفي السُّنّة إشارة إلى نوع الجهاد الذي لا قتال فيه وهو حج النساء بلفتة مقاصدية بديعة تتعلق بمساواة الرجل بالمرأة في الجهاد وفقا للمناسب والممكن والراجح والأولى، جريا على عامّة الشرع في التنصيص الصريح في مجال العبادات الشعائرية وفي التلميح المليح في مجال العبادات الاجتماعية والسياسية والحضارية، بما يُعرف بدلالة النص ومعقوله.
وهذا الجهاد بالمقاطعة في سياق المقاومة هو جهاد صامت بممارسة تركية، يَمتنع فيها العابد المجاهد عن مقتنيات العدو وتقنياته ومتعلقاته وشبكاته، ويتجنّب فيها أذنابه وأذياله وأراذله، من المنافقين والمرجفين والمطبّعين.
اللهم عَـلّمنا فقه التأويل وحسن التنزيل، في قضايا الصيام والقيام، ونوازل المدافعة والمقاومة، وباعد بيننا وبين من يفرّقون بين الصلاة والزكاة، وبين التعبّد بشعائر العبادة والتدين بمفاخر الحضارة، بفضلك يا معين العاملين، ومؤيد العابدين الناطقين والصامتين، الأحياء منهم والميتين، آمين.