أهلا بك يا أخي، أشكرك أولا على دقتك في وصف مشكلتك وقدرتك على السرد الدقيق؛ فالدقة في الأصل صفة محمودة في الإنسان المسلم، ولكنها في حالتك تعدت الحد قليلا فأصبحت تعيقك عن الحياة الهادئة السلسة، وقد وصفت الدقة في مقدمة إفادتك كواحدة من الصفات الشخصية التي ترى أنها ساهمت في المشكلة، وهذا صحيح فأنت تريد الوصول بكل ما تفعل إلى الكمال وتحرص على ذلك.
وأما الصفة الثانية التي ذكرتها فهي لجوءك للتكرار وهي صفة تنتج عن الصفة الأولى؛ فحرصك المفرط على الدقة يجعلك تشك في هل أتممت الفعل على الوجه الصحيح أم لا، ثم يؤدي الشك إلى التكرار.
وتأتي بعد ذلك إلى ما وصفته أنت بأنه مشكلة صحية تؤدي إلى خروج الغازات، والظن الأكبر عندي أنها ليست اضطرابا عضويا في وظيفة القولون بقدر ما هي ناتجة عما وصفته أيضا في إفادتك من شعورك بالشد العصبي بمجرد الوضوء عندما قلت في إفادتك (وألاحظ أني بمجرد أن أهمّ بالوضوء أشعر بضغط كبير في بطني وانشداد في أعصابي يساهم في خروج المزيد من الغازات)، فهذا هو أصل الموضوع.
وقد عرفت حالات شبيهة بحالتك ووفقني الله إلى علاجها، حيث تحسن أداء القولون عندما قل التوتر العصبي الذي يجد المريض نفسه فيه عندما يحمّل نفسه ما لا تطيق من وجوب الحرص على الوضوء ووجوب مراقبة النية.
واقرأ كلماتك التي قلتها أنت في إفادتك “وعندما أقوم بالتحرك قد ينتابني ألم من قدمي أو ظهري، مما ينتاب أي أحد أثناء تحركه اليومي، عندها تنقطع مراقبتي لوضوئي وأشعر بخروج شيء فأقول هذا الألم والخروج بسببه خارج العذر، ولكني أعود وأقول هذا ضمن العذر وغالبا ما أنجح في هذا ولله الحمد”، إذن تراقب وضوءك طوال النهار، فأين سماحة الإسلام؟
من أين أتيت بأن على المسلم أن يراقب وضوءه بهذا الشكل، إن ما أعرفه ويعرفه الكثيرون أننا إذا حان وقت الصلاة نسأل أنفسنا هل نحن على وضوء أم لا؟ وقد جاء في فقه السنة في نواقض الوضوء تحت عنوان “شك المتوضئ في الحدث” ما يلي: إذا شك المتطهر هل أحدث أم لا؟ لا يضره الشك ولا ينتقض وضوءه، سواء كان في الصلاة أو خارجها، حتى يتيقن أنه أحدث. فعن عباد بن تميم عن عمه رضي الله عنه قال شكي إلى النبي ﷺ الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: “لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا” صدق رسول الله… وقال ابن المبارك: إذا شك في الحدث فإنه لا يجب عليه الوضوء حتى يستيقن استيقانا يقدر أن يحلف عليه، أما إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فإنه يلزمه الوضوء بإجماع المسلمين. انتهى المنقول من فقه السنة.
والخلاصة أنه إذا كان يقين المسلم أنه على وضوئه وشك أنه أحدث فإنه يغلب اليقين على الشك، وأما إن كان يقينه أنه أحدث وشك أنه قد يكون على وضوئه ما يزال فإن عليه أن يتوضأ بناء على نفس القاعدة بتغليب اليقين على الشك.
وأما ما أريدك أن تنتبه إليه يا أخي الكريم فهو أن المسلم يعيش حياته طبيعيا منطلقا، فإذا جاء وقت الصلاة سأل نفسه هل أنا على وضوئي ما أزال أم لا؟ وليس المطلوب من المسلم أن يراقب وضوءه طوال النهار! أما أنت فما أراك إلا تفرد جزءا من وعيك لمراقبة القولون فلا بد أن يبدي القولون انزعاجه وهذا رأيي والله أعلم، وأظن الحرص على مراقبة الوضوء أصلا في حالتك نتج عن كون الوضوء بالنسبة لك ليس كوضوء الآخرين، فأنت لا تفعله بسلاسة كما يفعله الآخرون وإنما يعتبر الوضوء بالنسبة لك عملية تعذيبية! عافاك الله يا أخي وعافانا جميعا أما بعد.
فمشكلتك والحمد لله قابلة للحل، ولكنها تحتاج إلى الصبر والمواظبة على تناول العلاج، فكل ما ذكرته في إفادتك يقع ضمن إطار اضطراب الوسواس القهري كما سترى الآن، مع العلم بأنني سأقدم مما هداني الله إليه أحاديث رسول الله ﷺ التي تحث على غير ما تفعل لكي أصحح بعض المفاهيم التي أظنها ساهمت في تعذيبك مع أنها ليست من الدين في شيء، وإنما هي من الوسواس القهري ما دامت لا تزول بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كما يحدث في كل وسواس الشيطان.
وأنا هنا أحيلك إلى الإجابات السابقة لنا على صفحة مشاكل وحلول والتي ناقشت موضوع الوسواس من كل جوانبه:
الخناس واللاخناس.. أنواع الوسواس
الوسواس القهري.. ” الموت ” فقط
الوسواس القهرى : أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعى
(ماس) و(ماسا) .. هل “يخربطوا” الدماغ
وفي حالتك يا أخي الكريم تظهر عدة سمات من سمات الشخصية القسرية كالدقة المفرطة والانضباط الزائد عن الحد، وكذلك تظهر عدة علامات من علامات اضطراب الوسواس القهري أفسرها لك كما يلي:
أولا: الأفكار التسلطية المتعلقة بالدين أو أفكار الشك التسلطية: والشك المقصود هنا هو الشك المتعلق بأداء الفرض الديني أو النافلة على وجه صحيح في مقابل عدم أدائه، فهناك من يشكون في إحسان الوضوء، وهناك من يشكون في إحسانهم لتكبيرة الإحرام في استهلال الصلاة أو لصحة النية للصلاة، وهناك من يشكون في نقضهم للوضوء. ومن أحاديث سيد الخلق عليه الصلاة والسلام التي تشير إلى مثل هذا النوع من الأفكار ما يلي:
· عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: “إن للوضوء شيطانا يقال له ولهان، فاتقوا وسواس الماء” صدق رسول الله ﷺ.
· عن عبد الله بن يزيد رضي الله عنه قال شكي إلى الرسول ﷺ الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: “لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا” صدق رسول الله -ﷺ-.
· ومن أحاديث النبي -ﷺ- التي تقدم علاجا عمليا لمثل هذا النوع من الوسواس حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا” صدق رسول الله ﷺ. وفي لفظ أبي داود: “إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له: إنك قد أحدثت، فليقل له: كذبت إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بأذنه” صدق رسول الله ﷺ.
ثانيا: الأفعال القهرية التي تأخذ شكل الأفعال الدينية، أو أفعال التكرار القهرية: وتتمثل في تكرار الوضوء وغالبا ما يحدث التكرار أثناء الوضوء أي قبل إتمامه أصلا فيظل المريض يعيد غسل العضو بعد أن غسله ثم يعود يكرر نفس الفعل، وعادة ما تكون الفكرة التسلطية التي تسبقه فكرة تتعلق بالتشكيك في إحسان أو إسباغ الوضوء، وغالبا ما تأخذ عملية الوضوء وقتا طويلا وإن اختلف من حالة إلى أخرى.
وفي بعض الحالات يحدث تكرار الوضوء بعد أن ينهيه الشخص وربما بعد أن يخرج من مكان وضوئه، حيث يشك في أغلب الأحوال في أنه انتقض وضوءُه فيعود لتكراره مرة أخرى، وفي بعض الحالات لا يحس المريض بالرغبة في تكرار الوضوء إلا بعد أن ينوي الصلاة فعندها فقط يحس بأنه نقض الوضوء فيعود لتكراره، كما تتمثل أفعال التكرار القهرية أيضا في تكرار تكبيرة الإحرام وبعض الحالات تكرر التكبيرة كل مرة بصوت أعلى من المرة السابقة.
وأما الفكرة التسلطية التي عادة ما تسبق هذا النوع من الأفعال القهرية فهي أن التكبيرة لم تحسن أو أنها لم تقع في قلب المصلي أو أنه لم يخشع بالقدر الكافي حسب رأيه، وبعض الحالات تتمثل الأفعال القهرية فيها في تكرار قراءة الفاتحة أو السورة القصيرة، ولكن نسبة هذه الحالات أقل، أما أقل الحالات من حيث النسبة فيحدث فيها تكرار لفرض الصلاة كله.
وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتي النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فوصف له الطهور ثلاثا ثلاثا إلى أن قال: “هكذا الوضوء فمن زاد على ذلك فقد أساء وظلم”. صدق رسول الله ﷺ، وتسمية الرسول عليه الصلاة والسلام الزائد عن الثلاث مسيئا ظالما يلزم ألا يكون من أحسن وضوءه فلا يدخل فيمن له ثواب من أحسن وضوءه بل هو خليق ألا ينال بركة الوضوء لغلوه في الدين ومخالفته سنة سيد المرسلين ﷺ، ومثال ذلك أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام “كان ينضح فرجه بالماء إذا توضأ حتى إذا وجد بللا قال هذا أثر الماء”.
وأما فيما يتعلق بكونك ألثغ في حرف الراء، وأن ذلك يجعل اقتناعك بالتكبير مشكلة فأنا أظنك تعرف الإجابة لأنك قلتها في إفادتك، حيث يقول جل تعالى في الآية الأخيرة من سورة البقرة: “….لا يكلف الله نفسا إلا وسعها….” صدق الله العظيم.
وأما حكاية المعتقدات المعوقة التي تقول إنك عندما قرأت كتاب الدكتور محمود تكريتي “آفاق بلا حدود” وجدت أن حالتك منها، فأنا في الحقيقة لم أقرأ ذلك الكتاب، وقد ترك كاتبه العلاج لأهل الدراية كما قلت فشكرا له على أي حال، وإن كنت أختلف معك أو معه في تسمية حالتك بالمعتقدات المعوقة، لأنها معوقة نعم لكنها أفكار تسلطية لا ترقى إلى مستوى المعتقدات والحمد لله على ذلك.
وأصل الآن معك إلى ما أفعله مع مثل حالتك من مرضاي لأنني مضطر للوقوف إلى جانبك وأنت غريب ولا تريد عرض مشكلتك على طبيب نفسي غربي، ما أفعله في مثل حالتك إضافة إلى شرح ما شرحته بالفعل لك من مفاهيم أظنها كانت غائبة عنك، وبعد ذلك أصف لهم أحد عقارات الماسا أو مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية، وأنا لا أدري بالطبع أي أنواع الماسا متاح في مكان إقامتك، ولكني سأذكر لك الأسماء العلمية لأفضل عقارات الماسا المتاحة، وهي: فلوكسيتين Flouxetine، وسيرتيرالين Serteraline، وسيتالوبرام Citalopram. وعليك مراجعة الجرعة وطريقة التناول من إجابة:
الوسواس القهري أنواعه وأعراضه وحكمه الشرعي.
وبعد ذلك أطلب منك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم كلما واتتك مثل هذه الأفكار التسلطية التي تتعلق بإحسان الفعل الديني مقابل عدم إحسانه، كما أني أطلب منك أن تقاوم الرغبة في التكرار ما استطعت.
وأعلم يا أخي كما قرأت في الإجابات التي أحلتك إليها أن الأمر يحتاج إلى الصبر وأن التسمية قبل تناول العقار تجعله أفضل تأثيرا بإذن الله، كما أريدك أن تتأكد من أنك بفضل الله ستكون أكثر قدرة على تنفيذ ما طلبته منك كلما مضى بك الوقت على العلاج، وتابعني بأخبارك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أ.د. وائل أبو هندي