“يا بنيّ ! إنه صاحب حجة ، وله تأويل قوي ، ولكن قلبي لا يطمئن لمقالته ، وعندي كلام جمع غفير من الأقدمين ؛ وكل ما أستطيعه أن أنصحه ألا يجاهر بمخالفة جمهور أهل العلم حتى لو رأى في ذلك وجه صواب “.
بهذه الكلمات التي تعبر عن إنصاف وتقدير لفكر وعلم الرجل أجاب الشيخ الدكتور عمر سليمان الأشقر رحمه الله تلميذه الدكتور أسامة الأشقر ـ يروي القصة ـ حينما ألح عليه أن يجيب الراحل حسن الترابي بعدما استمع إليه طويلا حين كانا يتحاوران في مسألة نكاح المسلمة من نصراني الذي يقول الترابي بجوازه مخالفا جمهور العلماء قديما وحديثا.
ذلك جزء من شخصية الرجل السوداني الذي سكن قلب الأحداث السياسية في بلده والمفكر الإسلامي الذي ظل يستفز العقل العربي بآرائه وأطروحاته الثاقبة غير مبال بما قد يفقده جراء تلك الآراء والمواقف من تلامذة ومحبين، حيث لم يكن الترابي يسعى لغير بيان ما يراه حقيقة وما يكون منسجما مع فهمه للإسلام وتصوره له، فلم يكن يسعى لجمع الأتباع وتحقيق المشيخة على حساب حرية الرأي والفكر.
تلمح في كتاباته عمق الفلسفة الألمانية وترتيب الأفكار عند الانجليز وجمال الأسلوب الفرنسي، ولا إغراب في ذلك فهو يتقن الألمانية والإنجليزية والفرنسية، ولكنه ليس كما يريد أن يصوره مجرد سياسي محنك أو مفكر جل بضاعته رطانات لغة العجم، غافلين أو متغافلين عن تكوينه الشرعي العميق ودرايته بعلم القراءات الذي ثقفه وتمهر فيه أيام صباه، إضافة إلى معرفة واسعة بالفقه الإسلامي والتاريخ والأدب.
صاحبت ثنائية المفكر والسياسي صاحبنا منذ أول مؤلفاته، فكتب بين 1980 و1981 كتابيه: (قضايا الوحدة والحرية) و(تجديد أصول الفقه) وكتب في عام 1982 كتابيه (تجديد الفكر الإسلامي) و(الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة) وكان في كل ذلك ينزع إلى التجديد والتأصيل والتجاوز، فلم يكن الترابي من الذين يخضعون لوجهة التيار فيسايرونه، ولكنه لم يكن أيضا يسبح ضده لعلن عن ذاته المتفردة، كان ينشد الحقيقة فقط.
وقد انشغل الترابي بموضوع الحكم والتجربة السياسية الإسلامية تنظيرا وتدبيرا فكتب سفره القيم (السياسة والحكم: النظم السلطانية بين الأصول وسنن الواقع) الذي أبان فيه عن وعي تاريخي وواقعي وعن روافد غزيرة لفكره وطرحه، والذي نحا فيه منحى تجديديا واعيا.
لم يكتف الترابي في طموحه للتجديد بالتنظير لتجديد أصول الحكم وأصول الدين بل كتب عن (تجديد الدين) نفسه، وقد قال معرفا الشريعة بأنها:” الشريعة ما يشق مسلكا لكل مشاعر الدين ومظاهره، وهي أصلا شاملة للهدى بكل الحياة: أحوال الوجدان وباطن القلوب ومذاهب الأقوال وطرق الأفعال الظاهرة، دينا حقا شرعه الله هديا لكل الأنبياء”وفي العهود الأخيرة أصبحت كلمة الشريعة تعني الأحكام القضائية لا الخلقية، وأصبحت مدارس الشريعة تقتصر على أحكام الظاهر القطعية المناسبة للنفاذ قضاءً وسلطانا سياسيا”.، كما كتب في الإيمانيات بأسلوبه العميق الأخاذ وكتابه (الصلاة عماد الدين) خير الأدلة على ذلك.
وتبرز قدرات الترابي العلمية والمنهجية في كتابه التفسير التوحيدي حيث استطاع أن يبتكر منهجية رائدة في تدبر كتاب الله، وقد اعتمد فيه على فكرتين رئيستين هما الوحدة الاصلاحية للقرآن والدلالة السياقية للمفردات، يقول:”والقرءان لغة إصطلاحه واحدة. فالكلمة في كل مواقعها فيه بتصريفاتها المختلفة، ترجع إلى معنىً واحد أصله قد يكون مدىً واسعاً يتحرك فيه الوقع المعين حيثما اندرج في السياق، كذلك، ينبغي أن يرد القرءان بعضه إلى بعض، أن تراجع كل كلمة إلى موردها لينضبط معناها أو مداها، وتوصل كل كلمة بما يجاورها لتبين في السياق وتتألف جمل الكلم في الآي، وتوصل الآي في السورة”.
وإلى هذه القدرة التنظيرية الهائلة للرجل فإن أداءه السياسي كان يكشف عن حنكة تدبيرية رائدة استطاع بها أن يقود الحركة الإسلامية في السودان أيام المد الشيوعي وحكم جعفر نميري الذي اعتقل في عهده عدة مرات، ومن غير حسن الترابي يستطيع أن يقنع نظاما شيوعيا بإعلان تطبيق الشريعة ـ بغض النظر عن تفاصيل ذلك ـ.
ورغم ما قوبلت به كثير من آرائه الفقهية والفكرية من رفض وتسفيه فإن أحدا لم يستطع التدليل القاطع على بطلانها وعدم تماسكها علميا رغم مخالفتها لما درج عليه الجمهور من أهل العلم والنظر تاريخيا وحاضرا، مثل فتواه بجواز إمامة المرأة للرجال وزواج النصراني من المسلمة وكذا حديثه عن حد الردة وغير ذلك.
أظن أن مشكلة الترابي وأضرابه من المتميزين هو أنهم يسبقون عصرهم، لذلك فإني أرى أن الترابي قد مات جسدا ولكنه سيعود روحا وعلما إلى الساحة الإسلامية ولو بعد عقود، فإن طرحه وأفكاره ينتميان للزمن القادم لا إلى الزمن الماضي ولا إلى العصر الراهن.
رحم الله الترابي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.