العلاقة الزوجية تتميز بأنها علاقة شديدة القرب (معنويًا وحسيًّا) وشديدة الخصوصية، إضافة إلى كونها علاقة مستديمة وعلاقة حتمية. وهذه الخصائص في العلاقة الزوجية يفترض أن تؤدي إلى نتائج إيجابية، وهي فعلاً كذلك في حالة نجاحها وتحقيقها لمعاني السكن والمودة والرحمة التي وردت في توصيف أركان هذه العلاقة في القرآن الكريم، أما إذا خرجت العلاقة عن هذا الإطار فإن كل الخصائص السابقة يمكن أن تتحول إلى مشكلات تتراكم عبر الزمن حتى تصبح مزمنة أو مستعصية، وقد تؤدي عندما تصل لقمة التراكم إلى أن يقتل أحد الطرفين الآخر وبصورة بشعة. فما هي آثار التراكمات في الحياة الزوجية؟ وكيف يمكن تفاديها والتقليل من مفعولها؟
كونها العلاقة الزوجية شديدة القرب يعطي فرصة للاحتواء والذوبان الجميل، كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى للاحتكاكات والتربصات والعلاقات المؤلمة جسديًّا ونفسيًّا. وكونها علاقة شديدة الخصوصية يعطي فرصة لحفظ الأسرار والثقة والإفصاح عن الذات دون قيود أو تحفظ، كما يعطي فرصة على الناحية الأخرى لاستغلال الأسرار وابتزاز صاحبها (أو صاحبتها) وإذلاله أو فضحه. وكونها علاقة مستديمة يعطي فرصة لتراكم الذكريات الجميلة والمشاعر الحلوة، كما يعطي على الجانب الآخر فرصة لتراكم مشاعر الإحباط والغضب والكراهية. وكونها علاقة حتمية يعطي إيحاءً للطرفين بالارتباط الدائم والآمن في الدنيا والآخرة، وعلى الجانب الآخر يمكن أن يعطي إحساسًا بالدخول في طريق مسدود مع شريك نعاني منه ولا نرغبه ولا نستطيع الفكاك من قيوده.
آثار التراكمات في الحياة الزوجية والارتباطات الشرطية
والتراكمات سواء كانت إيجابية أم سلبية تحدث ما يسمى بالارتباط الشرطي، بمعنى أنه حيثما كانت العلاقة جيدة فإن هناك رصيدًا من الأحداث والذكريات الجميلة والأحاسيس اللذيذة يجعل اللقاء بين الزوجين مصدرًا للراحة والأمان والمودة والسعادة؛ وذلك لأن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يفتح في النفس نوافذ يظهر من خلالها تاريخ ممتد من اللحظات السعيدة، وحيثما كانت العلاقة سيئة فإن ظهور أحدهما على شاشة وعي الآخر يستدعي مشاعر سيئة مرتبطة بتاريخ طويل من الصراع المرير والمعاناة المؤلمة، وقد يصل الأمر عند بعض الأزواج أن يشعر بصداع شديد أو غثيان حين يرى شريك حياته، وكأن الارتباط الشرطي امتد من النفس إلى الجسد وشمل كل نبضة روح وكل خلية جسد.
والأمور في الواقع عادة ما تكون أعقد من مجرد هذا التبسيط الثنائي بين السعادة والتعاسة، فهي مزيج من هذا وذاك ولكن ما يهمنا هو حصيلة ذلك التراكم، وهل هو في الاتجاه الإيجابي أم السلبي على وجه العموم، وهناك علامة بسيطة تعطينا انطباعًا عن حصيلة التراكمات بين أي زوجين، وهي أنه كلما اشتاقا لبعضهما وسعَيا نحو التواجد معًا فهذه دلالة على ميل التراكم نحو الإيجابية ووجود ارتباطات شرطية سارة، والعكس صحيح، وربما يفسر لنا هذا اشتياق كثير من الزوجات لكلمة “وحشتيني” (اشتقت إليك) من الزوج؛ لأن هذه الكلمة رغم بساطتها وقلة حروفها فإنها تعبر عن هذا التراكم الإيجابي للأحداث والذكريات، وتعبر عن الارتباطات الشرطية السارة بين الزوجين، وتدل على أن حضور الزوجة في وعي زوجها يفتح لديه نوافذ للسكينة والطمأنينة والمودة والحب والراحة والمتعة.
ومن هنا نفهم أيضًا لماذا ينفر الرجال من الزوجة الغيورة أو النكدية، حيث إن حضور الأولى يرتبط بشكوك واتهامات وتساؤلات ونزاعات، وحضور الثانية يرتبط بالحزن والهم والغم، وبتراكم هذه المشاعر بمرور السنين تتكون منظومات من الارتباطات الشرطية تجعل مجرد رؤية أو سماع أو حتى تذكر الطرف الآخر يفتح بركانًا من المشاعر السيئة والمؤلمة، ولهذا فالمرأة التي تجعل جو البيت مشحونًا ومضطربًا تساهم في دفع زوجها للبحث عن مشاعر سارة خارج المنزل، فإذا حدث وتلقفته امرأة أخرى وكان حضورها في وعيه مريحًا وسارًّا فإن تراكمات سعيدة تبدأ في التكون ويختل الميزان لغير صالح الزوجة؛ حيث تدفع هي زوجها بالتراكمات السلبية في حين تجتذب الأخرى هذا الزوج بالتراكمات السعيدة والارتباطات السارة، وهذا أحد الجوانب النفسية لحدوث الخيانة الزوجية واستمرارها خاصة مع الزوجة شديدة الغيرة أو الزوج شديد الغيرة فكلاهما يجعل لقاء الآخر به مؤلمًا، ويجعل فكرة الخيانة لديه نشطة طول الوقت، وحين تُكتَشف الخيانة تزداد الخلافات الزوجية، ويختل الميزان أكثر وأكثر فينفر الزوج من الزوجة إلى العشيقة، أو تنفر الزوجة من الزوج إلى العشيق.
ومن أحد أسرار العلاقة الحميمة بين الزوجين أنها تربطهما بمشاعر سارة طوال حياتهما، وتجعل بينهما كنزًا من الذكريات والأحاسيس الجميلة، ولهذا خص الله هذه العلاقة بأعلى درجات من اللذة الحسية يمكن أن يتذوقها الجهاز العصبي، وكأن المقصود أن يدمن كل منهما الآخر من خلال ارتباطات شرطية سعيدة ولذيذة تعوض وتوازن ما يتعرضان له من متاعب الحياة ومسئوليات الأسرة والأبناء، ولهذا نقلق كثيرًا حين تضطرب هذه العلاقة بين الزوجين؛ لأن معنى هذا أن ثمة اضطرابًا متوقعًا في ميزان التراكمات، وربما ترجح كفة التراكمات السلبية فيزهد أحد الزوجين الآخر أو يبغضه، وربما يفسر لنا هذا الأمر كراهة الطلاق من الناحية الشرعية أثناء فترة الحيض، ونهي الرسول ﷺ عنه؛ لأن توقف العلاقة الحميمة في هذه الفترة قد يؤدي إلى اختلال الميزان ناحية التراكمات السلبية خاصة إذا كان رصيد الزوجين من التراكمات الإيجابية ضعيفًا.
توازنات التراكمات في الحياة الزوجية:
إذن فالحياة الزوجية قابلة لإحداث التراكم الإيجابي للخبرات والمشاعر إلى الدرجة التي تربط الطرفين لأقصى درجات الارتباط بين البشر، ومن جهة أخرى قابلة لإحداث التراكم السلبي أيضًا لأقصى الدرجات التي تدفع للقتل انتقامًا وخلاصًا من شريك قاهر وضاغط وخانق. ونستطيع القول بأن نوعية الحياة الزوجية تتوقف على ترجيح نوع التراكم، فإذا رجحت كفة التراكم الإيجابي كانت الحياة الزوجية أقرب للسعادة بقدر درجة الرجحان، والعكس صحيح، أما إذا كانت الكفتان متقاربتين فنحن هنا أمام حياة زوجية على الحافة، وسلوك الزوجين وسلوك من حولهما يدفع إلى رجحان إحدى الكفتين، فإما أن يحدث الطلاق بينهما، وإما أن يتجها إلى بعض التوافق، وأحيانًا تظل الكفتان متأرجحتين، وتظل الحياة الزوجية تحت التهديد لسنوات طويلة، وهذا في الحقيقة وضع مؤلم؛ لأنه يضع الطرفين في صراع لا يحسم، فمن ناحية توجد أشياء إيجابية تربطهما، ومن ناحية أخرى توجد تراكمات سلبية تباعد بينهما، وفي علاقة كهذه نتوقع وجود مشاعر متناقضة من الحب والبغض، والرضا والسخط، والأمان والخوف، وفوق كل هذا حيرة لا تنتهي.
آثار التراكمات في الحياة الزوجية ونتائجها المدمرة:
وربما لا نتحدث كثيرًا عن التراكمات الإيجابية على أساس أنها الشيء البديهي المتوقع في العلاقات الزوجية السوية، ولكننا هنا سنركز على التراكمات السلبية؛ نظرًا لخطورتها واحتياجها للتدخل الإصلاحي والعلاجي.
ولكي نفهم خطورة التراكمات السلبية في الحياة الزوجية ربما نحتاج أن نستدعي أحداثًا روعت الضمير الإنساني وصدمته، مثل الزوجات اللائي قتلن أزواجهن وقطعنهن قطعًا ووضعنهن في أكياس من البلاستيك، وقد تكرر هذا الأمر في فترة ما منذ عدة سنوات لدرجة أفزعت الرجال، والزوج الذي قتل بناته الست انتقامًا من أمهن.
والآن نحاول أن نفهم لماذا يحدث التراكم السلبي في العلاقة الزوجية؟ ولماذا يحتفظ أحد الأطراف بمشاعره المؤلمة لسنوات؟ وما الذي يمكن أن تحدثه هذه المشاعر في العلاقة بين الطرفين، وفي الحالة النفسية والجسدية لهما أو لأحدهما؟.
من الطبيعي أن يمر الزوجان بلحظات اتفاق ولحظات اختلاف، وأن ما تتركه لحظات الاختلاف أو حتى الخصام من أثر يجب أن يجد له مخرجًا في لحظة عتاب أو موقف محاسبة أو سماح؛ لكي تتخلص النفس من هذه الذكرى ومن آثار التراكمات في الحياة الزوجية على اعتبار أننا جميعًا بشر ومعرضون للخطأ، وبمعنى آخر هناك أزواج وزوجات يملكون آلية دائمة للتخلص من آثار الخلافات أو الخصومات حتى تظل نفوسهم غضة ونظيفة وقابلة لتلقي التراكمات الأجمل والأسعد، وأيضًا هناك أزواج وزوجات لا يستطيعون التخلص من مشاعرهم السلبية تجاه الطرف الآخر، وتظل هذه المشاعر تتراكم وتتحول من الإحباط إلى الغضب، ومن الغضب إلى الحنق، ومن الحنق إلى الرغبة في العدوان والانتقام، وفي النهاية قد نصل فعلاً إلى العدوان والانتقام سواءً كان لفظيًّا (نقدًا مستمرًا – سخرية – شتائم) أو جسديًّا (دفعًا – ضربًا – قتلاً).
تبدأ القصة بشعور الطرف الضعيف بالإحباط في علاقته الزوجية، فهو لا يستطيع التعبير عن نفسه، ولا يستطيع تحقيق أحلامه أو تحقيق ذاته أو تحقيق توقعاته في هذه العلاقة، وشيئًا فشيئًا (إذا لم ينتبه الطرف الآخر) يتحول الإحباط إلى غضب، وإذا لم يجد الغضب مسارًا يسلكه إلى الخارج فإنه يتحول إلى غضب غير منصرف أو مكتوم وهو ما نسميه الحنق، وهذا الحنق إما أن يتحول إلى رغبة في الانتقام والعدوان الموجه إلى الطرف الآخر، أو يوجه إلى الذات في صورة اكتئاب أو رغبة في الانتحار، وأحيانًا يتم تحويل الانتقام (إزاحته) إلى طرف ثالث، وأكثر طرف مهيأ لهذا التحويل هم الأطفال؛ فالأم المحبطة في علاقتها الزوجية أكثر قابلية لضرب أبنائها وإيذائهم، وقد تصل في ذلك إلى درجات شديدة وخطرة من الإيذاء رغم أنه لا يوجد مبرر ظاهر لذلك (وكذلك الأب المحبط المهزوم قد يتوجه بعدوانه نحو الأبناء)، أو قد يتحول إلى عدوان على الأشياء كأن تكسر الزوجة الغاضبة “فازة” أو نجفة أو أي شيء في البيت، وقد يفعل الزوج الغاضب مثل ذلك أو أكثر منه. وقد يصل تحويل العدوان إلى درجة قتل الأبناء أو البنات، كما حدث مع الزوج المقهور الضعيف حين قتل ستة من بناته وأفلتت منه السابعة بسبب خلافات مزمنة بينه وبين زوجته!.
وبعض الناس يعممون الغضب والعدوان فنجدهم في كل تعاملاتهم مع الناس يتسمون بالقسوة والعنف بلا مبرر واضح. وبعض الأزواج قد ينتقم بالخيانة، والبعض الآخر قد يسترد كرامته ومكانته بمزيد من النجاح والإنجاز بهدف تجاوز إيذاء الطرف المعتدي.
وفي ظروف معينة قد لا يستطيع الطرف المحبط والغاضب إخراج عدوانه فيكبته لشهور أو لسنوات، وتكون النتيجة اضطرابًا نفسيًّا لدى هذا الطرف المحبط الغاضب المكبوت، ويكون الاضطراب في صورة أمراض نفسجسمية (ارتفاع في الضغط – أزمة قلبية – مرض السكري – الروماتويد – الصداع المزمن- القولون العصبي- الحكة الجلدية العصبية – الصدفية… إلخ) أو أمراض نفسية (قلق أو اكتئاب). وعدم وجود آلية لإزالة التراكمات السلبية يجعل الحياة الزوجية أشبه بمدينة غاب عنها عمال النظافة وتعطلت فيها محطات الصرف الصحي، أو أشبه بسيارة انسدت فيها ماسورة العادم (الشكمان).
وحين يصل التراكم مداه وتفشل وسائل كتمانه يبدأ في الظهور بشكل متدرج كالتالي:
1 – العنف النفسي: ويظهر في إهمال الطرف المعتدي واحتقاره وتجنبه والشماتة فيه، وتمني السوء له، وانتظار الخلاص منه، والصمت العدواني تجاهه، ومكايدته وعناده.
2 – العنف اللفظي: ويبدأ في صورة انتقاد مستمر للطرف الآخر، أو لوم، أو سخرية لاذعة أو نكات أو تعليقات جارحة، ويصل في النهاية إلى السب والقذف.
3 – العنف الجسدي: مثل الدفع واللطم واللكم والركل. ولوسائل العنف الجسدي دلالات هامة فمثلاً الصفعة تعني ردًّا لجرح كرامة أو شرف، بينما اللكمة تعني رغبة في التدمير، في حين أن الركلة تعني الإهانة والاحتقار والإذلال. وقد وجد أن 20 – 50% من النساء يتعرضن للعنف بشكل منتظم في حياتهن، وعلى الجانب الآخر وجد أن 23% من الزوجات يضربن أزواجهن.
ومن المفترض أو من الواجب أن نرصد مظاهر التراكم السلبي للمشاعر، ونرصد بدايات ظهور العنف قبل استفحالها وتحولها إلى عنف جسدي ربما يصل إلى القتل، ولا يخدعنا وجود الحب فنطمئن لغياب الخطورة، فقد وجد أن 30% من النساء اللائي متن قتلاً كان ذلك بواسطة شخص محب (زوج حالي، أو زوج سابق، أو حبيب، أو صديق).
4- أسباب زيادة احتمالات التراكم السلبي:
وهناك ظروف وأحوال ترجح التراكم السلبي للمشاعر لدى أحد الأطراف أو كليهما نذكر منها:
1 – ضعف القدرات والمهارات:
فقد وجد أن الأشخاص الأقل ذكاء والأقل ثقافة والأقل في المهارات الاجتماعية والأقل تدينًا والأقل ثقة بالنفس والأكثر فقرًا، والأشخاص الاعتماديين السلبيين، والأشخاص الأكثر احتياجًا للتقدير والتعاطف، كل هؤلاء يكونون أكثر عرضة لتراكم المشاعر السلبية في علاقاتهم الزوجية وحتى في علاقاتهم الاجتماعية؛ لأنهم يكونون في حاجة شديدة للآخر ولتقديره ولرضاه، وفي نفس الوقت ليست لديهم المهارات الكافية للحصول على ذلك فيقعون في دائرة الإحباط التي تؤدي بهم إلى الغضب، وحين لا يجدون منصرَفًا للغضب (أو هم لا يملكون مهارات تصريف الغضب) فإنه يتحول إلى غضب مكتوم أو مخزون أو غير منصرف وهو ما نسميه “الحنق”، وهذا الحنق يمكن أن يتحول إلى رغبة في العدوان على الآخر أو إلى عدوان فعلي، وقد يُكبت كما ذكرنا ويترك آثارًا نفسية وجسدية كثيرة. وبعبارة أخرى نقول بأن الطرف الضعيف أكثر قابلية لتراكم مشاعر الإحباط والقهر واليأس والغضب والعدوان من الطرف القوي المسيطر، ولذلك يكون انتقام هذا الطرف الأضعف مفاجئًا ومدويًا أحيانًا؛ لأنه حصيلة تراكم سنوات طويلة تحت السطح حتى إذا وصل الضغط الداخلي إلى مرحلة حرجة خرج العدوان كالبركان أو الطوفان، ولهذا نحذر دائمًا في العلاقات الزوجية (وفي العلاقات الإنسانية عمومًا) من انتقام الضعيف؛ نظرًا لما لديه من مخزون غضب وعدوان متراكم.
2 – الاستبداد والطغيان:
ويزيد من احتمالات التراكم السلبي أن يكون الشريك الآخر مستبدًا طاغيًا قاهرًا كاتمًا لأي تعبير انفعالي من الطرف الآخر ومحاولاً إلغاءه وقمعه تحت أي دعوى أو مسمى، وهنا يفقد الطرف المقهور أي فرصة للتعبير عن مشاعره ويضطر اضطرارًا إلى اختزانها.
3 – فقد الخيارات:
وقد تلعب البيئة المحيطة دورًا مهمًّا في زيادة التراكم السلبي حين يفقد الطرف المقهور والمكبوت خياراته، ويجد نفسه في طريق مسدود، فمثلاً الزوجة التي يقهرها زوجها ويظلمها ولا تجد مخرجًا منه، فليس لها مكان آخر تذهب إليه، أو أنها مضطرة للاستمرار معه من أجل الأولاد، أو تخشى مواجهة الحياة كمطلقة، ويزيد الطين بله حين يستغل الطرف القاهر المستبد الظالم هذا الوضع فيبالغ في ظلمه وإهانته لها.
4 – فشل الاستيعاب المعرفي:
عدم قدرة أحد الأطراف أو كليهما على استيعاب الخبرات الحياتية المؤلمة في المنظومة المعرفية، وهذا يجعل كل مشكلة حياتية عادية تتحول لأزمة وتأخذ أكبر من حجمها وتستغرق أكثر من الوقت المتوقع لها، و بذلك تظهر جميع آثار التراكمات في الحياة الزوجية وتحدث ثقوبا واسعة النطاق على الحياة الزوجية والحياة النفسية. ويدخل في ذلك ما نسميه بالتقدير المعرفي للأحداث، فنحن لا نتأثر بالحدث كحدث مجرد وإنما نتأثر به حسب تقديرنا المعرفي له، فهناك شخصان يواجهان نفس المشكلة، ولكن يتأثر كل شخص منهما بحسب تقديره لحجم المشكلة وخطورتها.
5 – ضعف القدرة على التسامح:
وضعف هذه القدرة أو غيابها يجعل كل خطأ أو حدث مؤلم مضافًا إلى مخزون الأخطاء والأحداث المؤلمة السابقة دون وجود فرصة لتطهير النفس من هذه التراكمات، ونظرًا لأهمية هذا المفهوم في الحياة الزوجية سنتحدث عنه بتفصيل بعد قليل.
6 – الانفراد:
بمعنى أنه لا يوجد طرف ثالث بين الزوجين، وهنا ينفرد الطرف الأقوى بالطرف الضعيف فيذله ويهينه ويخنقه، ولا يجد الطرف الضعيف ملاذًا غير كتمان غضبه وعدوانه، والطرف الثالث هنا قد يكون هو الله (لدى الأزواج المتدينين) أو تكون الأسرة، أو أحد الأصدقاء، أو الأبناء، أو الجيران، أو هيئة أو مؤسسة حكومية أو غير حكومية، والطرف الثالث هنا يلطف من مشاعر العدوان، ويضع قواعد للتعامل، ويفصل في الخصومات ويصفيها، ويفتح مسارات للغفران والتسامح.
آليات تخفيف التراكم:
1 – العتاب: وهو يكفي لبعض الناس خاصة حين يكون الخطأ بسيطًا ومحتملاً والطرفين على درجة معقولة من النضج .
2 – التعبير عن المشاعر: وذلك بأن تتاح الفرصة لكل طرف للتعبير عن مشاعره بشكل مقبول، وذلك لكي تصل الرسالة للطرف الآخر؛ فيتوقف أو يعتذر أو يصحح أو يخفف.
3 – وجود طرف ثالث: يسمع الشكوى ويفصل بين الطرفين ويعطي كل ذي حق حقه. وقد يكون هذا الطرف الثالث من الناس المحيطين، أو يكون هذا الطرف الثالث هو “الله” يلجأ إليه الطرف المظلوم بالشكوى وينتظر منه الفرج والرحمة أو القصاص من الطرف الظالم، والثقة في عدل الله وقدرته على القصاص في الدنيا والآخرة تعطي راحة للطرف المقهور وقدرة أكثر على الاستمرار.
4 – التسامح: وهو يعنى أن تنسى الإساءة ولا تعاقب عليها ولا يبقى بداخلك غضب بسببها، وهو قدرة يمتلكها بعض الناس حيث يمكنهم نسيان الإساءات والتغاضي عنها واستمرار التعامل الإيجابي مع الطرف المسيء؛ بناءً على اعتبارات إنسانية أو دينية تسهل نسيان الإساءات، والقدرة على فتح صفحات جديدة في الحياة، وإغلاق ملفات وفتح ملفات حسب الظروف المحيطة وحسب التقدير الشخصي وحسب المعتقدات الدينية والاجتماعية، وهو علاج للذاكرة المرضية (الرغبة في الانتقام) والتي تعني الوقوف على الحدث وعدم القدرة على تجاوزه، والدوران في دائرة مغلقة عقليًّا وانفعاليًّا.
وهناك أشياء لازمة لزيادة القدرة على المسامحة، نذكر منها توقف الخبرات المؤلمة أو حدوثها على فترات، بحيث تعطي فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة التوازن، واستعادة القدرة على التعامل مع عواقب وآثار التراكمات في الحياة الزوجية، مع وجود شبكة للدعم والمساندة، وإمكانية استيعاب الخبرة المؤلمة في المنظومة المعرفية، مع تصور إيجابي للكون وللحياة، وتصور واقعي للإنسان على أنه مخلوق يصيب ويخطئ، وهو في كل ذلك ليس شيطانًا ولا ملاكًا، وهناك ظروف وأحوال يفشل فيها التسامح أو تقل احتمالاته، نذكر منها: استمرار التهديد واستمرار الضغوط، أو زيادة الضغوط عن القدرة والاحتمال، أو غياب شبكة المساعدة، أو عدم القدرة على استيعاب الأحداث المؤلمة في المنظومة المعرفية، أو عدم القدرة على إعطاء معنى للأشياء المؤلمة، أو غياب مسارات التنفيس أو انسدادها، أو غياب مسارات لتحقيق الذات والإنجاز.
والتسامح مفيد للشخص ذاته؛ إذ يطهر نفسه من مشاعر الحقد والغضب والانتقام، ويحمى الجسم من ارتداد هذه المشاعر وإيذائها له. وهناك على المستوى الديني ما يعلي من قيمة التسامح ويشجع عليه، كقوله تعالى في القرآن الكريم: “والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين”، وقوله: “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين”، وقول رسول الله ﷺ: “من كظم غيظه وهو قادر على إنفاذه زوجه الله من أي الحور العين شاء.
والمتسامحون غير الماسوشيين (الذين يستعذبون الألم والعذاب)، فالمتسامحون لا يرغبون في الألم ولا يستعذبونه، ولكن لديهم رؤية وفلسفة تدفعهم للتغاضي عن الزلات ونسيانها وتنظيف جهازهم النفسي منها، أما الماسوشيون فلديهم مشاعر عميقة بالذنب، ويشعرون أن إيلامهم وقهرهم يطهرهم من ذنوبهم، أو أن لديهم اعتقادًا بأن اللذة لابد وأن يسبقها ألم، وهذا الموقف الماسوشى أقرب ما يكون إلى المرض.
آليات ووسائل دعم التراكم الإيجابي:
ربما يبدو مفيدًا في نهاية هذه الدراسة أن نتحدث عن كيف نزيد من احتمالات التراكم الإيجابي في الحياة الزوجية كي تستمر تلك الحياة وننعم فيها بالسعادة:
1 – توفير جو من السكينة في المنزل، بحيث يشعر الزوجان بأنه أكثر الأماكن راحة وأمنًا واستقرارًا، فهم يشتاقون إليه حين ابتعادهم عنه ويشعرون فيه بالبساطة والتلقائية والراحة.
2 – التعبير عن مشاعر المودة والحب بكل الوسائل واللغات الممكنة والمتاحة (لفظية وغير لفظية)، أي بالكلمة الحلوة والنظرة الحانية واللمسة الرقيقة والحضن الدافئ والهدية المعبرة في المناسبات المختلفة، وعدم كتمان هذه المشاعر أو اعتبارها وصلت لمجرد وجودها داخل نفس الزوجين.
3 – القدرة على المصارحة والعتاب وتصفية الخلافات في جو من التقبل، مع السماح بالتعبير عن الإحباط أو الغضب في حالة وجودهما.
4 – التسامح، والقدرة على تجاوز الزلات والأخطاء، وعلى فتح صفحات جديدة في العلاقة الزوجية.
5 – الرضا بما يستطيع كل طرف أن يقدمه، بحيث لا نكلفه مالا يطيق.
6 – الاهتمام بالعلاقة الحميمية وتهيئة أفضل الظروف لها بحيث تمنح الطرفين أقصى درجات السعادة الممكنة.
7 – تهيئة الظروف لارتباطات سارة، من خلال قضاء لحظات سعيدة في نزهات أو رحلات تصنع رصيدًا من الذكريات الجميلة بين الزوجين.
8 – محاولة استعادة الذكريات الحلوة بين الزوجين في جلسات الصفاء بينهما.
9 – تسجيل اللحظات الجميلة مثل حفل الخطوبة والزواج والرحلات والنزهات بوسائل التسجيل الممكنة (صورًا فوتوغرافية، أو فيديو أو غيرها) مع محاولة استعراضها من وقت لآخر لتنشيط ذاكرة الأوقات السعيدة والذكريات الجميلة بين الزوجين، وهذا التسجيل يمثل أرشيفًا للسعادة يفتحه الزوجان من وقت لآخر.
10 – استمتاع الزوجين “معًا” بلحظات تأمل للجمال أمام بحر أو مكان طبيعي أو سماع شيء تلذ له الأذن.
11 – اشتراك الزوجين في بعض الأنشطة الروحية، مثل الصلاة أو قراءة القرآن أو قيام الليل أو الحج أو العمرة أو أعمال الخير بأشكالها المختلفة.
التطبيق العملي لمهارة إزالة آثار التراكمات في الحياة الزوجية
التدريب الأول: تذكر موقفًا من حياتك الخاصة كانت الفرصة ملائمة جدًّا لأن يحمل لك شريكك مشاعر سلبية تدوم للأبد، ولكنك حاولت تطبيق المهارات التي تعلمتها في هذا الباب لتعين شريكك على أن يزيل التراكمات، حاول أن تتذكر الموقف بتفاصيله، واذكر الكيفية التي طبقت بها المهارات، وكيف استقبل شريكك هذا الفعل منك.
التدريب الثاني: تذكر موقفًا من حياتك الخاصة كانت الفرصة ملائمة جدًّا لأن تحمل لشريكك مشاعر سلبية تدوم للأبد، ولكنك حاولت تطبيق المهارات التي تعلمتها في هذا الباب لتجنب نفسك وشريكك تراكمات مدمرة لعلاقتكما، حاول أن تتذكر الموقف بتفاصيله، واذكر الكيفية التي طبقت بها المهارات، وكيف ساعدك شريكك.