اقرأ أيضا:
وينتقل إلى آثار المال الذي يعود من السحت على صاحبه فيقول: (والسُّحْتُ: جَهْدُ العذاب. وسحتناهم- وأسحتنا بهم لغة- أي: بلغنا مجهودهم في المشقّة عليهم) [2]. فإذا ظن آكل السحت أنه يوسع على نفسه ويجلب لها النعيم فقد أخطأ خطأ كبيرا .
ويذكر العسكري بعض آثار السحت فيقول:( وَيجوز أَن يُقَال إِن السُّحت: الْحَرَام الَّذِي يستأصل الطَّاعَات من قَوْلنَا سحته إِذا استأصلته)[3] ،ويضيف ابن سيده أثرا سيئا آخر فيقول: (وكل شَيْء غير مبارك فِيهِ ،سُحْت)[4] ومن الملاحظ أن المعاجم العربية تعتني بذكر آثار السحت المدمرة.
للسحت صورا متعددة بعضها قديم متجدد :
1- الرشوة التي قدمها يهود خيبر لعبد الله بن رواحه رضي الله عنه لكي ينقص من المبلغ المطلوب منهم دفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان رد عبد الله بن رواحه، الذي يدل على نزاهة النفس وبعدها عن الخبث مهما كان مغريا: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاللهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيَّ وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ. فَأَمَّا مَا عَرَّضْتُمْ مِنَ الرُّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ. وَإِنَّا لاَ نَأْكُلُهَا.فَقَالُوا: بِهذَا قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ[5].
ومن صور السحت التي قد تخفى على كثيرين قول ابن مسعود :(السُّحْتُ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ حَاجَةً فَيُهْدِيَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً فَيَقْبَلُهَا. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: مِنَ السُّحْتِ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بِجَاهِهِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ فَيَسْأَلُهُ إِنْسَانٌ حَاجَةً فَلَا يَقْضِيهَا إِلَّا بِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا) [6] وهذا مناف لمكارم الأخلاق ولما ينبغي أن يكون عليه الصاحب مع صاحبه، فقد (أَتَى عقبَة بن عَمْرو إِلَى أَهله، فَإِذا هَدِيَّة، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: الَّذِي شفعت لَهُ، فَقَالَ: أخرجوها أتعجل أجر شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَن عبد الله بن جَعْفَر أَنه كلم عليا فِي حَاجَة دهقان[تاجر]، فَبعث إِلَى عبد الله بن جَعْفَر بِأَرْبَعِينَ ألفا، فَقَالَ: ردوهَا عَلَيْهِ، فَإنَّا أهل بَيت لَا نبيع الْمَعْرُوف) [7].
(وَقَالَ الْحَكَمُ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ الرِّشْوَةُ فِى الْحُكْمِ ،والسحت كل ما يأخذه العامل والحاكم على إبطال حق أو تحقيق باطل وكذلك ما يأخذه على القضاء بالحق)[8].
وقد تختفي الرشوة تحت قناع من الأسماء المقبولة اجتماعيا؛ كالهدايا والإكراميات والعمولة مقابل الاستشارة، والعمل بأجر لدى الراشي، وتقديم تسهيلات للمرتشي في البيع والشراء.
2- ما يحصل عليه الرائش وهو الذي يمشي بين الناس لكي يتخذ المسؤول إجراءا تضيع معه الحقوق، ثم يأخذ على هذا العمل الخبيث مالا يسميه عمولة وحقيقته أنه سحت.
3-ما أخذ بسيف الحياء وعلم الآخذ أن نفس المعطي لا ترضى وإنما دفع هذا المال حياء من الآخذ أو الناس، قال ملا علي القاري:(وَبِسَيْفِ الْحَيَاءِ يُحْرَمُ أَخْذَ الْعَطَاءِ) [9]
4-اقتطاع حقوق الناس، قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» [10].
ويدخل في هذا الوعيد ما ينقصه أصحاب الأعمال من مرتبات الموظفين دون تقصير من الموظفين أو إخلال بواجبات عملهم، وقد يدخل في ذلك من يسولون لصاحب العمل أخذ هذا السحت، ومن يعينونه على صياغة هذا الانتقاص بشكل قانوني.
5-من يمد يده لسؤال الناس مدعيا للفقر والحاجة وهو ليس كذلك.
1-ظلمة القلب، وكسل الجوارح عن الطاعة.
2-عدم قبول الدعاء ذَكَرَ [النبي صلى الله عليه وسلم ] الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ ” [11]
3-الحرمان من التخلق بالأخلاق الحسنة ،قال مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
إِذَا رُشْوَةٌ مِنْ بَابِ بَيْتٍ تَقَمَّحَتْ لِتَدْخُلَ فِيهِ وَالْأَمَانَةُ فِيهِ
سَعَتْ هَرَبًا مِنْهَا وَوَلَّتْ كَأَنَّهَا حَلِيمٌ تَنَحَّى عَنْ جِوَارِ سَفِيهِ [12]
4-حرمان آكل السحت من دخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم :”لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت [13] وقد يدخله الله تعالى بعد التوبة أو يطهره بالبلاء أو بالنار.
5- فساد النظام الكوني والاجتماعي، قالت اليهود لما رفض عبد الله بن رواحة ما قدموه من رشوة له:” بهذا قامت السموات والأرض” فإذا انتشر الظلم والسحت انهدم نظام العالم.
هذه بعض الأسباب في أكل بعض الناس للسحت :
1-تنمية مراقبة الله تعالى.
2-إدراك أن المال الحرام لا يمكن أن يجلب السعادة والسعة، بل إن دعوات أصحابه تتحول إلى لعنات تحرم آكل الحرام من الراحة والعافية وجميع ما يرجوه من خير.
3-تفعيل دور المؤسسات الرقابية التي تصون المال العام والخاص دون أن تعطل عجلة التنمية، وإيقاع العقوبات الرادعة التي تجعل من يأكل المال الحرام يفكر ألف مرة قبل أن يأخذ الخطوة الأولى.
4-إتاحة الفرص لأكل الحلال؛ بتحقيق التعليم والتدريب الملائم لسوق العمل، وتيسير المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق التنافس الشريف وتجريم الاحتكار.
5-تنمية المراقبة المجتمعية؛ من خلال فرض الشفافية قولا وعملا، واستشعار المجتمع أن رقابته بالحق والعدل هي أحد الضمانات لتقليل معدل الفساد حين تغيب رقابة الدولة أو تضعف، { لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة: 63]
6- التطهر من السحت، ذكر عبد الله بن المبارك في شروط التوبة :(النَّدَمُ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ، وَرَدُّ الْمَظْلِمَةِ ،وَأَدَاءُ مَا ضَيَّعَ مِنَ الْفَرَائِضِ، وَأَنْ يَعْمِدَ إِلَى الْبَدَنِ الَّذِي رَبَّاهُ بِالسُّحْتِ فَيُذِيبُهُ بِالْهَمِّ وَالْحَزَنِ حَتَّى يَنْشَأَ لَهُ لَحْمٌ طَيِّبٌ، وَأَنْ يُذِيقَ نَفْسَهُ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَاقَهَا لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ، قُلْتُ:”الإمام ابن حجر” وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُكَمِّلَاتٌ)[14]
[1] معجم العين باب الحاء والسين والتاء معهما س ح ت يستعمل فقط
[2] السابق
[3] الفروق اللغوية للعسكري
[4] المخصص
[5] موطأ مالك
[6] تفسير القرطبي
[7] عمدة القاري شرح صحيح البخاري بتصرف يسير
[8] شرح صحيح البخاري لابن بطال
[9] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
[10] صحيح مسلم
[11] جزء من حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه
[12] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
[13] صحيح ابن حبان وقال الشيخ الأرناؤوط إسناده صحيح على شرط مسلم
[14] فتح الباري لابن حجر
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين