** محمد المحمدي الماضي5>
قد يتعجب البعض حينما يعلم أن منهج الرسول – ﷺ- كان يقوم على كافة أركان ومقومات النمط القيادي الابتكاري الذي يدعِّم ويشجع الابتكار في أعلى درجاته، وذلك في كل مظاهر إدارته، ﷺ.
ولعل من بين أعظم جوانب شخصيته القيادية العبقرية الفذة أنه تمكن ببساطة ويسر من تفجير الطاقات الإبداعية والابتكارية لصحابته على اختلاف قدراتهم ومستوياتهم، وجعل كل صحابي منهم يُعمل عقله وفكره لخدمة الفكرة التي آمن بها، وذلك بأعلى درجات الكفاءة والفعالية الفردية والتنظيمية.
فقد جعل كل فرد منهم قائدًا متميزًا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسئولية، وينغمس في العمل لفكرته بكل كيانه ووجدانه، ويشارك ويبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه دون انتظار أن يطلب ذلك منه.
ولعل هذه واحدة من أعلى درجات النمط القيادي الابتكاري الذي ظهرت أماراته في مواقف عدة، أشهرها يوم بدر، ومبادرة الحباب بن المنذر باقتراح موضع لنزول الجيش الإسلامي غير ذلك الموضع الذي أمر به الرسول – ﷺ- وهو الموقف الذي دلّ على مدى إحساسه بالمسئولية والمشاركة والمبادرة وإعمال فكره وعقله في جغرافية المكان وكأنه القائد الأعلى للجيش، وليس مجرد جندي عادي.
ولعلّي لا أتجاوز الحقيقة حين أقرر أن الرسول -ﷺ- قد استطاع أن يحقق بهؤلاء الأفراد -العاديين في عاداتهم وطباعهم ومستوى حضارتهم وإمكاناتهم- أعمالا غير عادية، تفوقوا بها على أكثر الدول المحيطة بهم عدة وعتادًا وتنظيمًا وحضارة، وهما الفرس والروم، الدولتان العظميان حينئذٍ، وهذا هو ما أعتبره بحقٍ معيار نجاح أي قائد.
غزوة الأحزاب نموذجًا
بالرغم من أن سيرته مليئة بمظاهر النمط الابتكاري؛ فإنني سوف أكتفي بالإشارة إلى موقف واحد فقط، وهو غزوة الأحزاب، محاولا الغوص في بعض جوانب إدارته – ﷺ- الابتكارية والإبداعية والتي تمثلت في الآتي:
1. إدارة الجانب المعرفي والمعلوماتي:
حيث يظهر من سياق السيرة عن هذه الغزوة أن المعلومات قد وصلت إلى الرسول – ﷺ – عما يدبره اليهود من تأليب المشركين وتحزيبهم ضد المسلمين بعدد كبير لا طاقة لهم به، وأن هذه المعلومات التي حصل عليها الرسول – ﷺ – كانت دقيقة وفي الوقت المناسب، ولعل هذا ما جعل لها قيمة في اتخاذ القرار لمواجهة الخطر القادم.
ثم إن الأهم من وصول المعلومة هو حسن توظيفها، وإشاعتها ونشرها ليعرفها كافة العاملين في المنظمة ليكونوا جميعا على نفس المستوى المعرفي لقيادتهم، لذلك بادر الرسول – ﷺ – بعقد جلسة تشاورية عاجلة من ذلك النوع الذي يطلق عليه الآن “العصف الذهني”؛ حيث ذكر تلك المعلومات لعموم المسلمين وأوقفهم على طبيعة الخطر القادم وحجم المشكلة التي سوف يتعرضون لها، وطلب منهم المشاركة بالرأي والفكر للتصدي لذلك.
ولعل هذا يحمل في طياته أخص خصائص الإدارة المعرفية التشاورية التي تسعى إلى إدارة عقول وفكر من معها وليس مجرد أجسادهم، وتفجر طاقاتهم الإبداعية والابتكارية بجعلهم يستشعرون المسئولية وينغمسون في المشاركة والعمل؛ وقد كان.
2. الفكرة المبتكرة:
يعرف الابتكار في أبسط معانيه بأنه التوصل إلى وسيلة جديدة غير مألوفة لتحقيق الهدف نفسه.
وهو ما حدث بالفعل في ذلك المناخ الإبداعي الذي صنعه الرسول – ﷺ – لصحابته.
فلم تكد الأفكار يقدح زنادها حتى طرأت فكرة لأحد صحابته المغمورين حينئذٍ، والذي لم يكد يتحرر من الرق حتى ظهرت تلك الأزمة، وهو سلمان الفارسي – رضي الله عنه – فانغمس بكل وجدانه وكيانه عقلا وفكرًا وإحساسًا في ذلك المناخ الذي يتحول فيه الفرد العادي إلى مشارك ومبادر مبدع ومبتكر بشكل غير عادي.
وكانت فكرته المبتكرة – وغير المألوفة عند العرب حينئذٍ – هي حفر خندق في الجزء الذي يمكن اقتحام المدينة منه، وهو بين لابتين مرتفعتين، وهو ما يدل على مدى انغماس سلمان – رضي الله عنه – وانهماكه في التفكير المسئول والقائم على دراسة ومعرفة بجغرافية الموقع، وإعمال عقله وفكره لحل المشكلة، وكأنه القائد الأعلى والمسئول الأوحد عن حلها.
وكم كانت فكرة موفقة وصائبة قلبت الموازين، وحولت ضعف المسلمين قوة، وقوة المشركين ضعفا، وشكلت لهم مفاجأة إستراتيجية لم يحسبوا لها حسابًا، وقلبت خططهم وتدبيرهم رأسًا على عقب، ووضعتهم في موضع الدفاع بدلا من الهجوم، وأفقدتهم ميزة العدد والعدة التي كانوا يتمتعون بها.
3. اغتنام الفرصة وحسن توظيف الطاقات الإبداعية للأفراد:
لقد تمكن المسلمون -من خلال الفكرة الملهمة والمبتكرة لسلمان الفارسي رضي الله عنه- من وقف تهديد المشركين والحد منه، ولكن ظل تهديد اليهود قائمًا وهم الذين حزّبوا هؤلاء المشركين أصلا، وتقع ديارهم في مؤخرة المسلمين ويكشفون عوراتهم، ولو سمحوا للمشركين بدخول المدينة من قبلهم -وهي الجهة الوحيدة المتبقية لذلك- لأصبح المسلمون في وضع من أحرج ما يمكن، هذا برغم ما بين المسلمين واليهود من مواثيق وعهود على عدم السماح بأن يتم غزو أيٍّ منهم من قبل الآخر، ولكن الرسول – ﷺ – يعلم أنه لا عهد ولا ذمة لليهود؛ فهم قتلة الأنبياء، قال تعالى: ” أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ “، ولا يأمنهم إلا واهم، ومع ذلك لم يَبْنِ قراره تجاههم على مجرد الظن والتخمين، وإنما تأكد من خيانتهم من خلال وفد أرسله إليهم ليجس نبضهم ويستطلع موقفهم وأكدوا له خيانتهم، وتبجحهم وفجورهم.
وهنا كان أكثر المواقف حرجًا في هذه الأزمة، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى ظهرت فرصة عظيمة، وهي إسلام أحد المشركين من غطفان وكان يُدعى نعيم بن مسعود، وقدم إلى رسول الله – ﷺ – يعلن إسلامه ويضع نفسه تحت تصرفه وقيادته.
فما كان من الرسول، ﷺ، بحكمته وعبقرية قيادته وحسن تصرفه وتوظيفه للطاقات الإبداعية والابتكارية لشخص لم يكد يعلن إسلامه – إلا أن يضع ثقته فيه، ويوجهه للقيام بمهمة عقلية يترك له فيها حرية التصرف ويمكنه من أدائها بما يتراءى له، والهدف هو كما وجهه الرسول ﷺ ألا يعلن إسلامه؛ فهو في المسلمين فرد لن يضيف شيئًا إذا انضم إلى صفوفهم المعلنة، وإنما عليه أن يخذِّل عنهم، فإنما الحرب خدعة أو كما قال له ﷺ، وهنا ترى كيف أدار الرسول ﷺ الأمر من جانبه الفكري والعقلي الإبداعي، حيث انطلق نعيم بن مسعود كما هو معروف في السيرة، ووضع خطة متقنة لإفساد العلاقة “التحالفية” بين اليهود والمشركين وزرع بذور الشك والفرقة بينهم بحيث ينقض عقدهم وحلفهم، ويفشل كيدهم وتدبيرهم ويرجع جمعهم دون إلحاق أي أذى بالمسلمين، وكل ذلك بدون استخدام سهم واحد أو إهدار دم، وإنما من خلال إعمال الفكر واستخدام العقل بأعلى درجات الفعالية والإبداع.
حلف لعين وحيلة ذكية!
ذكر نعيم لليهود – باعتباره حريصًا عليهم وحليفًا لهم – أن المشركين سوف يرحلون ويتركونهم وحدهم لمحمد ينفرد بهم وينتقم منهم لما فعلوه، فطلبوا منه النصح؛ فقال: اطلبوا منهم رهائن من أبنائهم.. فإن فعلوا كانوا صادقين، وإلا فإنهم ينوون الغدر بكم فاحذروهم ولا تمكنوهم من دخول المدينة من جهتكم.
ثم تحول إلى المشركين وقال لهم، باعتباره واحدًا منهم: إن اليهود قد ندموا على فعلتهم وخافوا من انتقام محمد وأرادوا مصالحته وتأمين أنفسهم وإثبات صدقهم له، وذلك بأخذهم أفضل أبنائكم وتقديمهم له فداء لما فعلوه. فتعجب المشركون، ولكنه قال: امتحنوهم بأن يسمحوا لكم بدخول المدينة من قبلهم وسوف ترون، وبالفعل وجد المشركون ما قاله نعيم حقًّا حينما طلبوا من اليهود ذلك، فرفضوا على الفور، وتأكد اليهود بأن نعيما كان صادقًا حيالهم ورفضوا السماح للمشركين باقتحام المدينة من قبلهم، وانفض هذا الحلف اللعين بهذه الحيلة الذكية المبتكرة.
وتم القضاء على أخطر عقبة في هذه الغزوة بجهد فرد عادي تم توظيفه بأفضل ما يمكن أن يوظف به قائد أحد أفراده ليحقق أعلى درجات الإبداع في أدائه.
4. الوقوف على حقائق الأمور:
لم يقنع رسول الله – ﷺ – بمجرد تخمين ما يمكن أن يتخذه المشركون من قرارات بعد ذلك، هل يرحلون أم يستمرون في الحصار، أم يهاجمون بطريقة أو بأخرى، وحتى يقف على حقائق أمرهم ويعرف قرارهم ليبني موقفه على اليقين.. أراد أن يرسل من يأتيه بخبرهم، بالذهاب إليهم ومخالطتهم كأنه أحدهم والوصول إلى قادتهم، ومعرفة ما يفكرون فيه دون أن يشعر به أحد، ثم يعود ليخبر الرسول ﷺ، ويحكي ذلك حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه – فيما بعد لأحد شباب المسلمين بعد وفاة الرسولﷺ، حينما انتدب الرسول ﷺ أحدهم لهذه المهمة ولكنهم لشدة البرد والخطر والجوع والخوف وطول الحصار لم يجب أحد.. حتى حدد حذيفة بن اليمان، فقام وذهب بين صفوف المشركين، وكما قال جلست بين مجموعة منهم كان فيها أبو سفيان، والبرد شديد، فقال أبو سفيان على كل منكم أن يتعرف على من معه فبدأ حذيفة من حوله وسأل من أنت فأجابوه ولم يسألوه، وكان ذلك منه حسن تصرف وسرعة بديهة، ثم أخذ أبو سفيان يتكلم عن حرج موقف المشركين ونفاد مؤنتهم وما فعلته الريح والعواصف والبرد بهم، وأنهم ليس أمامهم إلا الرحيل في الغداة، ثم رجع فأخبر الرسول ﷺ، ليقف بذلك على حقائق الأمور، ويحدد الخطوة التالية على بينة، ويبني قراراته دائما على معرفة يقينية وحقيقية، كل ذلك من خلال وسائل وأساليب بشرية من أفراد عاديين وليس بوسائل إعجازية خارقة لا يقدر عليها البشر.
وهذا هو مناط القدوة والأسوة لكل قائد في أي موقع كي يدير كما كان يدير الرسول ﷺ، ليفجر الطاقات الإبداعية والابتكارية في الأداء، ولإعمال الفكر قبل العمل، والعقل قبل العضل.