غياب العلماء عن القيام بمهمتهم أوجد فراغًا في الواقع الإسلامي امتد هذا الفراغ من الجانب الفكري إلى الجانب المعنوي في شخصية الأمة الحضارية، وأصبح ملمحًا أساسيًا من كيانها، بل أصبح –هذا الغياب- أحد العوامل التي تهدد وجود الأمة ذاته، فهذا الفراغ امتد فيه الغزو الفكري والثقافي للمشروع الغربي كما حلله وفصله محمد الغزالي في ” الغزو الثقافي يمتدد في فراغنا” وكما تنبأ به محمد محمد حسين في “حصوننا مهددة من الداخل”.
والحل الذي يقترحه الفاسي في رسالته “مهمة علماء الإسلام”، هو الإصلاح المؤسسي والمنهجي لمحاضن تكوين العلماء والدعاة أنفسهم، أي إصلاح معاهد إعدادهم وبرامج تكوينهم الفكري والثقافي، ويطرح ذلك في صورة تساؤل ” ما الواجب إزاء هذا الفراغ…” ويجيب ” الجواب بسيط وسهل. يجب ملء الفراغ بما يجب أن يُملأ به. يجب أن يعاد للمعهد الإسلامية مركزها كمشعل لحراسة اللغة العربية وتعليم الدين والدفاع عنه، ويجب أن يقوم العلماء بمهمتهم التاريخية التي ألقاها الإسلام على عاتقهم. وكما قام العلماء الأولون بمسايرة التطور الفكري والابتكارات الجديدة، وكما عملوا على التوفيق بين ذلك كله وبين السنية الإسلامية عن طريق الدين والجدل، يجب أن يتجه العلماء المسلمون اليوم إلى بعث معاهد الإسلام واكسائها الصبغة العصرية التي تساير التطور وتفتح آفاق المعرفة لأبنائها، حتى يتكون منهم علماء يقومون بأداء الرسالة الموروثة وكما أعطت طبيعة الدعوة الإسلامية في الأول طبيعة المعرفة وطبيعة مهمة العلماء كذلك يعطينا الوضع الحاضر في العالم الإسلامي طبيعة البعث الجديد لتلك المعرفة وللغاية المقصودة منها”.
كما يلفت النظر إلى ضرورة تحقيق التكامل بين عناصر ثلاثة، يراها محققة لوعي الأمة وإرادتها الثقافية هذه العناصر هي: العلماء أو المثقفين، والناس أو الشعب والثقافة الإسلامية أو المعرفة الإسلامية ” …إن الغاية الأولى هي عدم بقاء العزل القائم بين المثقفين والشعب وبين المعرفة الإسلامية الصحيحة والانفصال القائم بين العلماء وبين الحياة العلمية الصاعدة”. وهذا التوجيه يعني أن العلماء والدعاة أهم ما يهتمون به ليس هو فقط تحصيل المعرفة وإنما تبليغها إلى قاعدة الناس أو المؤمنين الذين يتشكل بهم رأي عام الأمة ووعيها الجمعي ووجدانها الانفعالي”.
ومن ناحية أخرى يعيب الفاسي على تأخر المعاهد والمؤسسات الدينية التي تدرس العلوم الشرعية عن حركة التجديد في الأمة “…إن في العالم الإسلامي اليوم حركة تجديد قوى لمناهج الدراسة وأساليبها إصلاحًا لما أفسده المستعمر من قبل، وهذه الحركة تشمل المغرب وتونس، كما تشمل بقية العالم الإسلامي ولكن المعاهد الأصلية تقف بين فكرة الانطواء خوفا من الكيد لها، وبين فكرة اللامبالاة التي تكاد تؤدي بها وأن طبيعة المهمة الملقاة على هذه المعاهد تفرض أن يكون لها مركزها الممتاز بين منارات المعرفة القومية، في الوقت الذي لها من المرونة ما يسهل عليها التغلغل في صميم الثقافة وفي صميم الفكر الوطني لأداء رسالتها الإيجابية”.
ويحدد معالم الإصلاح الفكري لهذه المؤسسات، ويرى أن التعليم العالي الأصيل يجب أن يُعنى قبل كل شئ ببعث اللغة العربية بعثًا صحيحًا، وبتكوين معاهد الشريعة أو الفقه على الطريقة التي تمهد لقيام قانون إسلامي موحد تكون له السلطة العليا في القضاء وفى السلوك إلى جانب العمل على بعث الدراسات الدينية المحضة، والأخلاقية بصفة مقارنة لابتكار جدل علمي صالح لمقاومة كل تحريف أو انتحال.
فأما مناهج اللغة العربية فقد أصبحت اليوم في تقدم يشغل كل أنظار المربين في العالم العربي ولا ينقص الجهود المبذولة في هذا السبيل إلا أن تكون مؤاخذة وبعيدة عن كل أغراض سياسية أو إقليمية. ولكن المعاهد الأصلية (أي الدينية) في المغرب العربي ما تزال ضعيفة من هذه الجهة سواء من ناحية الأسلوب أو من ناحية المادة.
ولذلك نرى من الضروري عناية المسؤولين والعلماء بشؤون اللغة العربية بكيفيةٍ تجعل المعاهد الأصلية منارًا لها، ودرعًا يحميها من كل تقهقر خصوصا في هذه المرحلة التي ما تزال مشكلة التعريب صعبة الحل، بعيدة المنال للأسباب التقنية التي يعرفها الجميع.
تجديد الدرس المعرفي في مؤسسات التعليم الديني
وأما معاهد الشريعة فيرى -الفاسي- أن يدرس فيها الفقه الإسلامي على الطريقة التي خطها الدكتور عبد الرازق السنهوري، حيث يكون الأساس في هذه الدراسة منهج المقارنة فيدرس الفقه الإسلامي في ضوء القانون المقارن ويعني في هذه الدراسة بأمرين جوهريين:
(أولهما) أن تدرس نشأة الفقه الإسلامي دراسة دقيقة، فيبحث كيف تكون هذا الفقه على مر الزمن، وكيف تطور وبخاصة في العصور التي سبقت عصر المذاهب الكبرى الأربعة.
والأمر الثاني أن تدرس مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة التي ظهرت في حركة الحضارة الإسلامية، والتي تعددت فيها المذاهب أيما تعدد، دراسة مقارنة لنستخلص منها وجوه النظر المختلفة ولتتركز هذه الوجوه في تيارات من التفكير القانوني ثم تتبلور في اتجاهات عامة وتستكشف من كل هذا قواعد الصناعة الفقهية الإسلامية ثم تقارن هذه الصناعة بصناعة الفقه الغربي الحديث حتى يتضح ما بينها من الفروق ووجوه الشبه، وحتى نرى أين وقف الفقه الإسلامي لا في قواعده الأساسية ومبادئه، بل في أحكامه التفصيلية وقي تفريعاته، فتمديد التطور إلى هذه التفصيلات على أسس تقوم على ذات الفقه الإسلامي وطرق صياغته وأساليب منطقة. وحيث يحتاج الفقه الإسلامي إلى التطور يتطور، وحيث يستطيع أن يجاري مدنية العصر يبقى على حاله دون تغيير وهو في الحالتين فقه إسلامي خالص لم تداخله عوامل أجنبية تخرجه عن أصله.
ومن الموضوعات التي يقترحها للبحث والدرس المعرفي في مجال تجديد الفقه الإسلامي ما يلي:
تاريخ الفقه الإسلامي وبخاصة قبل عصر المذاهب.5>
أصول الفقه الإسلامي على أن يعاد البحث في النظرة التقليدية لهذه الأصول.5>
مقارنة مذاهب الفقه الإسلامي المختلفة فيما بينها.5>
مقارنة الفقه الإسلامي بالقوانين الغربية الحديثة.5>
ويرى الدكتور السنهوري أنه لابد لهذه الدراسة من معهد خاص يتوفر على الأسباب الرئيسية لنجاحها، من أساتذة يتخصصون لها، ومراجع يتعاون بها وطلاب يتفرغون لهذه الدراسة ويؤكد أن الغاية من دراسة الفقه الإسلامي هي تجديد شبابه لينبثق القانون الحديث من الشريعة الإسلامية على أن يكون هذا القانون الحديث في منطقة وصياغته وفي أسلوبه فقها إسلاميا خالصا. والواجب أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة علمية دقيقة وفقا لأصول صناعتها ولا يجوز أن تخرج على هذه الأصول بدعوى أن التطور يقتضي هذا الخروج.
وأما الدراسات المتعلقة بالأخلاق وبالعقيدة فيجب أن يؤسس لها معهد خاص أيضًا تكون له أقسام، العقيدة، أصلها وحججها العقلية والنقلية، ومذاهب المتكلمين وطريقة دراستهم المختلفة ومقارنتها بالفلسفات القديمة والحديثة وبالفلسفة التجريبية بصفة خاصة، وقسم للأخلاق من جهتها الواقعية والاجتماعية، وعلم الاجتماع الديني ومقارنته لمختلف النظريات الفلسفية والاجتماعية وقسم الإرشاد والتوجيه، ويعني بطريقة التبليغ وتربية السلوك إلى دراسة لعلم النفس والاجتماع وأساليب الإقناع الحديثة.
وإذا كان الطلبة في مرحلة إعدادهم الثانوية متهيئين من الناحية العامة تهيأ صحيحا لدراسة هذه المناهج فأنهم لا يلبثون أن يعيدوا للعالمية الإسلامية مركزها اللائق بها ولا تلبث المعاهد الأصلية أن تكتسى حلتها القشيبة التي كانت لها بين مختلف معاهد العالم.
رسالية المعاهد الإسلامية
ويلفت – الفاسي – النظر إلى عامل من أهم عوامل التجديد في المؤسسات التعليمية الدينية، هو الإيمان برسالية هذه المعاهد باعتبارها مرتكزًا لنهضة الأمة، ومركزًا لإشعاعها الفكري والثقافي والحضاري، فالمعاهد الأصيلة بحاجة – أكثر من البرامج والمناهج – إلى إيمان القائمين عليها برسالتهم في تكوين جيل جديد يضطلع بمهمة الدعوة الإسلامية وإصلاح ما أفسده العصر وظروفه من شؤون الدين. وهذا التكوين لا يقع بمجرد المعرفة وجودة الفكر، بل لابد من أن يصاحب ذلك سلوك إسلامي صحيح يتربى عليه الطلبة ويعطي به العلماء قدوة حسنة لأن التربية بالحال أصدق من التربية بالمقال.