كثير هم العلماء الذين خدموا الدرس العقدي الإسلامي، والذين أبرزوا العقيدة في صفائها ونقائها وعمليتها، ومن هؤلاء الإمام أبو جعفر الطحاوي الذي تعاصر مع ثلاثة أفذاذ بنوا هرم الدرس العقدي، وهم أبو الحسن الأشعري (324هـ)، وأبو منصور الماتريدي (333هـ)، وإذا كان الأخير قد توجّه منهجيا نحو الدرس الكلامي، والأشعري توسط بين المنهجين الحديثي والكلامي، فإن الطحاوى امتاز بالتوجه التأصيلي من القرآن والسنة، وما استقرّ عليه السلف الصالح من مدرسة أبي حنيفة وصاحبيه كما ذكر في مقدمته المنهجية: “هذا ذكر بيان اعتقاد  أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رحمة الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين.

 وقد ترسمّ أن يأتسّي بأبي حنيفة  في كتابه “الفقه الأكبر” في جمع المسلمين على القواطع وما يتم به الإيمان، دون النزوع إلى مسائل دقيق الكلام وقضايا المتشابهات التي فرّقتهم شيعا وأحزابا وفرقا متنافرة، وعنوان الكتاب دال على رؤية منهجية مُفرقة بين أصول الدين التي  لا يتم الإيمان إلا بها، وفروعه التي  يمكن أن تصحّ بدليل قاطع أو ظاهر مقبول، أو حتى ظن في الثبوت والدلالة.

 والطحاوي هو  أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزديّ الطحاوي. ولد  بمدينة طحا بصعيد مصر سنة (238 هـ – 852م)،  وتوفي بمصر سنة (321هـ،  933م).

وقد تفقّه  ابتداء على مذهب الشافعيّ، ثم تحول حنفياً، وانتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ويُقال أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة خلاف علمي بينه وبين خاله المزني تلميذ الشافعي، والذي لاحظ عليه إدمان القراءة في كتب أبي حنيفة، مما جعله يُغرى بمدرسته العالية في التحرير والتخريج والاستنباط.

كما امتاز الطحاوي  بكثرة شيوخه من المدرستين  أهل الرأي وأهل الحديث، حيث بلغوا  ثلاثمائة شيخ ومحدث منهم هارون بن سعيد الأيلي، وعبد الغني بن رفاعة، ويونس بن عبد الأعلى، وعيسى بن مثرود، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وبحر بن نصر الخولاني.

لكن أهم شيوخه على الإطلاق خاله إسماعيل المزني، الذي روى عنه مسند الشافعي، ويليه سليمان بن شعيب الكيساني، ووالده محمد بن سلامة، وإبراهيم بن منقذ، والربيع بن سليمان المُرَادي، وبكار بن قُتيبة، ومقدام بن داوود الرُعيني، وأحمد بن عبد الله بن البرقي، ومحمد بن عقيل الفريابي، كما أنه رحل إلى الشام، وأفاد من بقايا  مدرسة الأوزاعي، وهو ما جعله إماما في فقه الخلاف العالي.

ترك الإمام الطحاوي آثارا مميّزة في المكتبة الإسلامية، أهمها العقيدة الطحاوية والمسماة ” بيان السنة والجماعة في العقيدة”، وفي الفقه: شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني في الفروع، الشروط الصغير. الشروط الكبير، المختصر في الفروع، كتاب الفرائض. وأما في الخلاف العالي فترك لنا كتاب اختلاف الروايات على مذهب الكوفيين،اختلاف العلماء، وفي الحديث خلّف لنا موسوعته الرائعة”شرح مشكل الآثار” إضافة إلى كتاب التسوية بين حدثنا وأخبرنا، وكتاب” نقد المدلسين على الكرابيسي”.

وهو كذلك ممن افتتح علم التراجم بكتابه المنقبي” عقود المرجان في مناقب أبي حنيفة النعمان”، وكتاب التاريخ. وعلى سَنَن مدرسة الصاحب محمد بن الحسن الشيباني رائدة دراسات العلاقات الدولية وأحكام الدارين كتب الطحاوي عن قسمة الفيء والغنائم،  وكتابا في حكم أراضي مكة المكرمة.

إن الدوافع الكامنة وراء  تأليف العقيدة الطحاوية كثيرة مبينة عن تحمّل العقل المسلم لهمّ الانتصار للدين وأصوله ونصوصه، وبناء معرفة يقينية في قضاياه التشريعية والخلقية والحياتية انطلاقا من الوحي المعصوم (القرآن والسنّة)، أمام تحديات كثيرة ماجت بها ديار المسلمين في القرن الثالث الهجري، ومنها الديانات والفرق المتوالدة، والقضايا المتشابكة، والتي يمكن أن نوجزها في الآتي:

– الديانة اليهودية: قضايا إثبات النبوة المحمدية،  قضايا التشبيه، إمكانية نسخ الشرائع.

– الديانة النصرانية: التوحيد والتعدد، نقض الصلب، مفهوم الكلمة، قداسة الإنجيل.

– الديانة الثنوية: نقض الثنائية، الخير والشر، فناء العالم ،  الزندقات المانوية، المزدكية.

– الفلسفات الأخرى التي تدعي اليقين في منتجها الفكري، كما هو الشأن في المنطق والفلسفة اليونانية، والحكمة الهندية، والتدبير السياسي والإداري عند الفرس.

– الغنوصيات المنتشرة والتي تدعو إلى وسائط خاصة لا معقولة المعنى للوصول إلى اليقين كالحدس والإلهام، وهو ما توسّلت به بعض الفرق المنحرفة، والمتسوّرين على التصوف.

– الباطنيات المنبعثة التي نهجت التأويل الخاطئ للقرآن الكريم، وادعاء معارف مُلهمة كما هو حال فرق  البيانية، والخطابية، والكيسانية، والإسماعيلية.

– الحركات السياسية النشطة المجادلة في مفاهيم الإيمان والعمل، والخروج، والإرجاء، والإمامة.

– موجات الوضع الهائل في الحديث، والتي نتج عنها جماعات التشبيه، والزندقة، ومحترفي نقل  الإسرائيليات، والقصّاص، والمتعصبين لمذاهبهم وبلدانهم وآرائهم، والتي شطّت عن الشريعة.

كل هذا الواقع المشتبك من داخل الدائرة الإسلامية ومن خارجها حفّز الطحاوي بعقليته الفذة إلى افتتاح التدوين في العقيدة الإسلامية بهذه الرسالة، وتظهر فيها الرغبة في تنحية مصر عن الجدل الكلامي  الذي كان سائدا بالعراق في محاولة للنأي بالأحناف عن شباك الاعتزال الذي انحدر إليه أحناف العراق أو القيروان، وقد امتازت  هذه العقيدة بالآتي:

– الوضوح، فهي من أوائل الكتب الواضحة على خلاف مهيع الكتب الكلامية المتأخرة.

– السلاسة،  وذلك ببناء قاعدة معرفية في العقائد بالمقدمات المُفضية إلى نتائج سليمة.

– البناء اللغوي المتين، والأفق البلاغي الراقي،  ويظهر هنا التأثر بمدرسة الشافعي البيانية.

– التلخيص لعقائد الفقهاء أبي حنيفة ومالك والشافعي وأبي ثور والليث بن سعد.

– النقاء، وذلك بمجانبة الضعيف والمرذول مما شاع عند بعض كتبة الحديث في الاتكاء على تالف المرويات  وساقطها في العقائد نتيجة المناكفة لموقف المعتزلة من أخبار الآحاد.

– التأصيل من القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية في قضايا الصفات والقدر والإيمان.

– العملية، وذلك بعرض القضايا الراهنة التي شغلت المسلمين كالموقف من الخروج المسلح، والتكفير، والتفسيق، ولزوم الجهاد، والانتظام في الجماعة، والموقف من الصحابة والسلف.

ولأجل ما سبق وغيره حظيت هذه العقيدة بالقبول بالإجماع من مدارس أهل السنة كلها من أشعرية وماتريدية، وحنبلية، لأنها اهتمت بأصول الاعتقاد، ولم تخض في مسائل دقيق الكلام والفروع العقيدية التي لا ينبني عليها كبير عمل، حتى قال الإمام تاج الدين السبكي:” جمهور المذاهب الأربعة على الحق يقرؤون عقيدة الطحاوي التي تلقاها العلماء سلفاً وخلفاً بالقبول”.

وكان أشهر الشرّاح لها من المدرسة الماتريدية بحكم الالتقاء المذهبي، مما يجعلنا نقرأ هذا الخط الحديثي داخل المدرسة الماتريدية المتميزة بنفسها الكلامي العالي، وممن شرحها منهم: القاضي إسماعيل الشيباني الحنفي(629هـ)، ونجم الدين منكوبرس الحنفي (652هـ)، وشجاع الدين هبة الله التركستاني (732هـ)،  ومحمود القونوي (771هـ)، والغزنوي الهندي الحنفي (773هـ)، وعبد الرحيم شيخ زاده الماتريدي (944هـ)،  ومن المتأخرين عبد الغني الغنيمي الميداني الشامي (1298هـ).

كما شرحها من الخط الحنبلي التيمي ابن أبي العز الحنفي (792هـ)، وحظي شرحه بشهرة كبيرة في هذا العصر بسبب اعتناء الشيخ الألباني بها، ولأنها انتصرت لآراء شيخ الإسلام ابن تيمية.

كما نالت شهرتها من الدروس المشيخية الشروح الصوتية والمجلسية الكثيرة في بلاد نجد والحجاز من أمثال الشيوخ: ابن باز، سفر الحوالي،  يوسف الغفيص، عبد العزيز الراجحي، وصالح آل الشيخ  الذي حولها لكتاب “اتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل” وغيرهم كثير.

كما أن لها شروحا شامية معاصرة مثل “القبسات السنية في شرح العقيدة الطحاوية” للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، والشرح الكبير لسعيدة فودة، وشروح مصرية ويمنية وأفغانية وهندية أخرى، إضافة إلى كونها من المقررات الابتدائية في دروس العقيدة في عديد المدارس والمعاهد الرسمية والأهلية.

 ونختم  هذا المقال المعتصر بما ختم به الطحاوي عقيدته عليه رحمة الله”ونسأل الله أن يثبتنا على الإيمان ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة والآراء المتفرقة والمذاهب الردية”. آمين.