اقرأ أيضا:
في الامتنان يتجدد اعتراف العبد بعجزه عن مواصلة العيش لولا فيض الكرم الرباني. إنه وضع لا تنفصل فيه الأسباب عن المسبب، ولا يدعي فيه المنجز البشري استقلاله عن الغائية، و الحكمة من وجوده: {إني جاعل في الأرض خليفة} البقرة:30.
إن هذه الآية هي فاتحة العطاء الذي يستدعي الامتنان العميق. وما نعاينه اليوم من آلام ومآس، ومشاهد ظلم وفساد يؤكد تلك المهمة ولا ينفيها؛ فكلما انزاح الإنسان عن وظيفته فإنه يلقي بنفسه في دوامة التيه والحيرة والأسى. أما إذا ربى قلبه على مشاعر الامتنان، والجمع بين مشاهدة النعم واللوم على التقصير، فإن الألطاف الإلهية تشمله بمعاني الطمأنينة واليقين، وإدراك عواقب الأمور.
أفلا أكون عبدا شكورا ؟”، هكذا رد النبي صلى الله عليه وسلم حين رثت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لحال قدميه المتورمتين من طول القيام. إن عظمة الامتنان تكمن في الفعل لا في القول فحسب. وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم أنظار أمته إلى ما ينطوي عليه باعث الامتنان من إيجابية كفيلة بتبديد الهموم، وتخفيف الأحمال، والقطع مع مشاغل الدنيا التي تذهب بالأعمار!
جمع النبي صلى الله عليه وسلم حذافير الدنيا في ثلاث نعم: أن تصبح آمنا في سربك، ومعافى في بدنك، وعندك قوت يومك. ثلاث عطايا تستوجب الامتنان لأنها تمثل حقيقة السعادة التي يجهل أكثر الناس السبيل إليها. ولو تأملنا الآفات التي تضج بها المجتمعات البشرية لكان مردها إلى الغفلة عن تلك الأصول الثلاثة للحياة الطيبة:
فالفوضى والاضطرابات والحروب تبدد صفاء العيش.
والآلام والأوجاع تنغص على الإنسان وجوده.
أما الأزمات الاقتصادية فتصيب الناس بالجنون، وتبرر دواعي الاقتتال وسفك الدماء.
غير أن أهل الشكوى يرون في ذلك مقوما عاديا من مقومات الوجود البشري، ولا يستدعي الوقوف عنده، وإنما المضي قدما لمزيد من السيطرة والتملك، والتبديد.
إن إعادة النظر في فهمنا السائد للنعم خطوة أولى لبلوغ حال الامتنان الدائم، والشكر القلبي الذي لا ينتظر مناسبة أو حدثا. ولابنالقيم كلام رصين في (الفوائد) إذ يقول: “النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجو، ونعمة هو فيها ولا يشعر بها”. وتمام النعمة الأولى يكون بالشكر عليها، أما الثانية فيكون بالدعاء والاجتهاد بالطاعة، في حين أن الثالثة هي خلاصة الامتنان ،وثمرة باطنة بين العبد وربه. لذا كان من دعاء ابنالجوزي رحمه الله قوله : اللهم أرنا الأشياء كما هي!
يُحكى أن أعرابيا دخل على هارون الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين، ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرّفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجب الرشيد بذلك وقال: ما أحسن تقسيمه !
وأعظم الناس امتنانا هم الأنبياء، ثم الصالحون الذين أثمرت محبتهم لله وخشيته نفاذا لعمق الأشياء و الظواهر. وأبلغ تجلياته هو تفاعلهم مع البلايا بغير منطق الشكوى والاحتمال، بل يكونون في حال من الرضا والإقبال على الله، واليقين التام بأنه أرحم الراحمين، وأن المحن تثمر المنح والعطايا.
حين تستشعر الامتنان فإن أداءك للفرائض لا يعكس امتثالا للشريعة فحسب، بل يصبح سعيا نحو المزيد من القرب، وتغذية الروح بما ترمي إليه الجوارح من معاني المحبة والتذلل و الخضوع.
وحين يغمرك الامتنان يتملك نفسك توق شديد للتضحية بكل شيء في سبيل مرضاته تعالى، وتحلق روحك مع الملائكة، فلا يكون حالك في الدنيا إلا كحال الراكب: استظل بظلها ثم ارتحل !
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين