لا يزال الدرس الشرعي عمومًا، والعقدي والكلامي خصوصًا، بحاجة إلى إعادة النظر فيه في ضوء التاريخ؛ أي من حيث النشأة والسيرورة التاريخية وما أصابه من تحولات أو حمولات؛ حتى نكون أقدر على فهمه كما حصل فعلاً، لا كما يتخيله البعض بما قد يخالف الحقيقة والواقع وتنشأ عنه ظواهر فكرية ذات تأثيرات سلبية. وفي هذا الحوار مع د. رائد السمهوري، نتعرف على المقصود بآفة “التخيّل” أو “المتخيَّل”، ونرصد بعض مظاهرها وأخطارها وكيفية تجاوزها.

والدكتور رائد السمهوري باحث في الفكر الإسلامي والأدب، مهتم بالفلسفة وعلم الكلام وأصول الفقه، وصدرت له كتب وأبحاث؛ منها: “السلف المتخيَّل”، “الوهابية والسلفية- الأفكار والآثار”، “نقد الخطاب السلفي- ابن تيمية نموذجًا”، “نقد الفكر التكفيري في ضوء منهج الإمام ابن تيمية“، “علي الطنطاوي وآراؤه في الأدب والنقد”.. فإلى الحوار:

في كتابك (السَّلف المتخيَّل)، طرحت أننا بحاجة إلى إعادة التفكير فيما نتناقله من رؤى عن تاريخنا الفكري.. ماذا تقصد بـ”الْمُتخيَّل” هنا؟

أعني بالمتخيّل عمومًا صورة ذهنية لا تطابق الواقع، أو على الأقل لا تطابقه بدقة، صورة من نسج الأوهام والخيال، لا تلتفت إلى الواقع التاريخي الذي عاشه ما يسمّى “السلف”، صورة مثالية، نموذجية، لم تتحقق كما هي في الواقع، بل ربما كان الواقع بخلافه.

وما السبب برأيك في هذه الفجوة، التي قد تتباعد كثيرًا، بين تاريخنا الفكري ومعرفتنا عنه؟

هناك أسباب كثيرة، لا يتسع الحوار لبسطها، لكن هذه الفجوة التي تفضلت بالإشارة إليها، هي أيضًا بنت التاريخ، أي: لماذا حصلت هذه الفجوة؟ حتى هذه الفجوة تحتاج إلى قراءة تاريخية، كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف ترسخت تلك المتخيَّلات في أذهان العموم عبر التاريخ؟ كيف تحوّل الحنابلة مثلًا من عدّ الإمام أبي حنيفة جهميًا مبتدعًا ضالًا لا يفلح هو وأصحابه، إلى أن يكون الإمام الفقيه السنّي المتّبع رضي الله عنه ورحمه.

لقد شاع التقليد وجفّ الاجتهاد في الأمّة منذ أمد بعيد، وصار العلم الشرعي في العموم مجرد مقولات محفوظة، تنزل على الواقع، وغاب الحس التاريخي في الأبحاث الشرعية والعقدية. لا ننسى أيضًا السيرورة التاريخية، وتقلّب الدول والمذاهب، وانتشار مذهب بفعل السياسي على حساب مذهب آخر.

التاريخ مليء بالموادّ الخام للباحثين، ولكنّ العبرة بالعقول وبالمناهج العلمية، وبالسواعد القويّة التي تحفر في التاريخ وتعيد البناء.

علينا أن نفهم تراثنا في سياقه هو لنعالج قضايا عصرنا نحن

وما خطورة “فجوة التخيُّل” على حاضرنا الفكري؟

ها نحن نرى هذا التنازع الشديد بين طلاب العلم وبعض العامّة من جميع الطوائف، سلفية وأشعرية، سنيّة وشيعية وإباضية، بل ها نحن نرى دولًا تقوم على عقائد “متخيَّلة”، تروّجها ترويجًا سياسيًّا، وكل طائفة تحمل متخيَّلاتها، وترى أنها هي أهل الحق، وخصومها هم أهل الباطل.

وكلٌّ يعيدنا إلى “سلف متخيَّل”، سلف يتخيّله هو، ويحمّله مقولات عقائدية تفصيلية، بعضها شديد التعقيد؛ فمن خالف تلك العقيدة فقد خالف السلف، وضلّ عن سواء السبيل. وبهذا تنتشر الأحكام بالكفر والضلال والفسق على المخالفين، مع ما يصاحب هذا من شعور بالبغضاء والكراهية والتنافر والتفرّق والتحزّب، وكل هذا مبني على أوهام وخيالات عن الحقيقة.

وكيف نتجاوز هذه “الفجوة”؟

هذا الواقع المؤلم يستدعي التفاتًا جادًّا إلى الإصلاح، لا أعني الردود العقائدية بين الفرقاء، فإن الفرقاء يترادّون ويتحاربون منذ 1300 عام. ولكني أعني عود كل طائفة إلى قراءة تراثها ومقولاتها بالبحث التاريخي الجادّ، كيف ظهرت المقولة؟ وكيف تطوّرت عبر العصور، وكيف ظهرت العقائد حزمة مكتملة أشبه بـ”المانفيستو”، في صيغة ناجزة، ومنتهية. ما ضروري الدين الذي يجمع كافة المسلمين؟ وما ضروري المذاهب الذي لا يعد جاحده كافرًا بل ولا فاسقًا بل ولا آثمًا؟

الضرورات المتواترة” مظلة كبيرة تجمع المسلمين جميعًا

هناك مظلة كبيرة تجمع المسلمين جميعًا هي ضروري الدين الذي لا ترى مسلمًا إلا ولديه منه علم. وبهذه الضرورات المتواترة يكون الجميع مسلمين، وتبقى تلك الخلافات محصورة بين طلاب العلم والمختصين فقط.

فما أحوجنا إلى كشف الزيف العقائدي الذي هو أشبه بالوقود للاحتراب الأهلي بين طوائف الأمة، ويستغلّ سياسيًّا لمشاريع ليست دينية ولا علاقة لها بالدين.

لو جئنا لمفهوم “مذهب السلف”، نريد توضيح ما أصابه من “فجوة تخيُّلية”.

ما معنى السلف أولًا؟ دخل التخيّل في “مفهوم السلف“، فتارة يعنى بهم الصحابة فقط، وتارة يعنى بهم الصحابة والتابعون وتابعوهم، وتارة يتوسع الأمر فيدخل فيهم أهل الحديث من القرن الثالث الهجري كـ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ومن في طبقتهما. هذا جانب من التخيّل أصاب هذا المصطلح.

وهل السلف أنفسهم دليل على شيء؟ هنا جانب متخيل آخر، فالدليل الشرعي المتفق عليه هو الإجماع، وبالأخصّ إجماع الصحابة لأنه محصور وقابل للعلم؛ أما ما بعد الصحابة فيتعسّر أو يتعذّر الإحاطة بإجماعهم. وقد أوضحت هذه المسائل بتفصيل في كتابي (السلف المتخيّل).

الزيف العقائدي أشبه بالوقود للاحتراب الأهلي بين طوائف الأمة

وإذا كانت لفظة “السلف” أصابها ما أصابها من أوهام وتخيّلات، وإذا كان عدّ السلف- من دون تحديد وضبط للمقصود به- أصابه ما أصابه من أوهام وتخيّلات، فنحن أمام فجوة كبيرة حقًا.

نقرأ في الكتب مثلًا: أن مذهب السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق. أما كون القرآن كلام الله، فهذا ورد في القرآن نفسه، وهو موطن اتفاق الأمة. لكن النص على أنه “غير مخلوق”، هل ورد عن السلف بمعنى الصحابة؟ بل هل ورد عن عموم التابعين؟ لم يتعرض الصحابة ولا التابعون إلى هذه المسألة أصلًا، فلا قالوا إن القرآن مخلوق، ولا قالوا إنه غير مخلوق.

ولكنك تقرأ في الكتب أن “السلف اتفقوا” على أن القرآن غير مخلوق! هذا كله من باب الوهم والخيال، وهو استدلال غير منضبط، وليس هو أصلًا احتجاجًا شرعيًا، فالأدلة الشرعية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

فأين نضع هذا الاستدلال من هذه الأدلة الأربعة الشهيرة أصوليًا؟ يصعب الإحاطة بجميع جوانب هذه المسألة في هذا الحوار، ولكننا نذكره مثالًا فقط للفت الانتباه. وقس على ذلك مقولات كثيرة في العقائد منسوبة إلى السلف، وربما أكثر السلف لم يفكّروا حتى فيها فضلًا عن أن تنسب إليهم.

وماذا عن “أحمد بن حنبل، المتخيَّل”؟

الإمام أحمد بن حنبل إمام عظيم، تعرض لمحنةٍ لها علاقة بعلم الكلام، وليس هو من أهل الكلام، فحمّلته السلطة ما لا يطيقه بامتحانه، لأنه ليس من أهل هذه البابة أصلًا. من المعلوم أن الإمام أحمد كان يشدد في مسألة تأليف الكتب، في غير تجريد الحديث وفقط، ويرى أنها بدعة، ويرى أنها سيّئة الغب أي العاقبة، ومع هذا ينسب الحنابلة إليه كتبًا فيها كلام وجدال ككتاب الرد على الزنادقة والجهمية، مثلًا، وككتاب الصلاة، وكعقيدة الإصطخري، وغيرها.

حين ننظر إلى أقوال الإمام في كتب تلاميذه المباشرين، نجد أنه شديد التحرّز جدًا في الفتوى، لا يصرّح بكلمة “حرام” أو “لا يجوز” في المسائل الفقهية الاجتهادية التي لا نصّ قطعيًا فيها في الكتاب والسنة؛ ولكنه يكتفي بأن يقول: ورد النهي عنه، أو يقول: أكره هذا، أو يقول: لا يعجبني، أو يقول: هذا أحبّ إليّ.

المعتزلة قدّموا “العقل” على “النص” ترتيبًا وليس تفضيلاً

أي إنه كان شديد التحرّز في إطلاق الأحكام، وقد يقسو على المخالفين، ولكن إلى حدّ لا يتجاوز به عفة اللسان. ومع هذا نجد لأحمد بن حنبل صورة أخرى، فيها نزق شديد، وعنف شديد، واستسهالًا واستعجالًا في إطلاق الأحكام على المخالفين بلا بيّنة. مما يخالف المعلوم المقطوع به في سيرته.

أيضًا نجد أحمد بن حنبل نائيًا شديد النأي عن السلطة بصورة مدهشة، إلى حدّ أنه مثلًا لم يكن يأكل من الطعام المطبوخ على نار السلطان، فضلًا عن طعامه هو، ويرفض مال السلطان، بل كان لا يردّ السلام على من لبس شعار الدولة وهو لباس السواد، ولكننا نجده في الوقت ذاته يتعاون مع السلطة في تعيين هذا القاضي، وإقالة ذلك القاضي!

هذا عدا الروايات الغرائبية عما جرى له في المحنة، مما يعد من قبيل الخوارق، وعدا المبالغات في تعذيبه وغير ذلك، وكل هذا يمكن النظر فيه من خلال البحث التاريخي غير المتحيّز.

المعتزلة أيضًا لم يَسْلموا من ذلك، حتى صوَّرتهم بعض الكتابات الحداثية باعتبارهم دعاة للعلمانية، والعقلانية المتفلتة من الشرع.. كيف ترصد ذلك؟

من المعلوم أن المعتزلة احتفوا بدليل العقل، وقدّموه على النص تقديم ترتيب، وليس تقديم تفضيل كما يظنّ كثير من المنسوبين إلى العلم والثقافة. المعتزلة متكلمون كسائر المتكلمين، وفقهاء بعضهم حنفي، وبعضهم شافعي؛ فلا يخرجون بذلك عن الخطّ العلمائي العامّ في الأمّة، وهم حين يردّون بعض الأحاديث، فلأن لهم شروطًا موضوعية في القبول والرد، كما لغيرهم شروط، لكن الفرق أن المعتزلة أكثر تشددًا في قبول الأحاديث سندًا ومتنًا، والأمر كله داخل في دائرة الاجتهاد. وكانوا دعاة عدل، وثوارًا، وإن كان منهم من انضوى إلى السلطة كـ الجاحظ وغيره.

وكما أصاب التخيّل “مفهومَ السلف”، أصاب كذلك “المعتزلة”؛ سواء من ظنّ أن المعتزلة هم شياطين المحنة ودعاتها، ومن ظنّ أن المعتزلة حداثيون بالمعنى الحديث للكلمة، أو علمانيّون، أو حتى عقلانيون بالمعنى التقني للفظة العقلانية، أو أن مذهبهم العقائدي مأخوذ من الفلاسفة. كل هذا من قبيل التخيّل الذي لا يؤيده البحث التاريخي المتجرد عن الأفكار المسبقة.

وفق نظرك؛ كيف ترى حال “الدرس العقائدي” و”الكلامي المعاصر”؟ وما السبيل للخروج بهذا الدرس إلى آفاق الحاضر وتحدياته؟

لا وجود في الغالب لأي دراسات “علمية” و”بحثية” حقيقية في الدرس العقائدي والكلامي المعاصر، وكأن الأمة تجمدت عقولها عند حدود القرنين السابع والثامن الهجريين. لا نلغي بالطبع المحاولات الجادة في نقاش ظاهرة الإلحاد، ولا الإفادة من العلم الحديث في تلك الردود، لكن حالة الاحتراب العقائدي لم تتغيّر طوال القرون. وما هي إلا مقولات ناجزة وجاهزة يعاد إنتاجها وتمثّلها في كل حين.

وخذ مثالًا على ذلك: ينسب ابن تيمية مثلًا إلى أهل الحديث أنهم قائلون بأن القرآن حادث، وأنه قائم بذات الله، لأن الله عنده تقوم به الحوادث. يؤخذ هذا الكلام ناجزًا، بلا أي مراجعة ولا أي فحص تاريخي، ويصير ابن تيمية هنا حكمًا على التيار الحنبلي المعاصر لأحمد ثم من يليهم حتى زمان ابن تيمية، فهل ورد عن الحنابلة طوال العصور حتى زمن ابن تيمية ما يصرّح بأن القرآن حادث أو مُحدَث وإن كان غير مخلوق؟

بل بالعكس، من يقرأ كلام أهل الحديث في هذه المسألة يرى فيها اضطرابًا وتناقضات واضحة، ولكن يجري القفز عليها، وكأنها غير موجودة، ويصبح كلام ابن تيمية حكمًا على جيوش من العلماء القدماء والمحدثين طوال عصور. وقل مثل هذا في نظرة كثير من الأشعرية إلى أبي الحسن الأشعري، و الجويني و الرازي. وكل هذا يستدعي بحوثًا تاريخية.

إدخال “المنهج التاريخي” في البحوث الشرعية يساعدنا على الفهم

ما حال الدرس العقائدي اليوم إلا تكرار ما في هذه الكتب كأنها مسلمات، مع أن الفحص التاريخي غير المتحيّز، وغير الرسالي، قد يوصل إلى نتائج مختلفة عن هذا السائد. ولا سبيل إلا إدخال التاريخ في البحث العقائدي.

ولعل من أشهر المسائل التي تؤخذ مسلّمة مسألة محنة الإمام أحمد، فقد ذاع أن المعتزلة هم من وراءها، وأن خصوم أحمد ما كانوا إلا المعتزلة، وأن بشرًا المريسي معتزلي، ولكن البحث التاريخي يفيد غير هذا.

لقد تقدمت مناهج البحث ولا يزال الباحثون الشرعيون مقيدين بدراسة النصوص كأنها شيء مجرد، لم يكن في بيئة وتاريخ وزمان وظروف وأحوال وسياقات تاريخية. والحل هو الإفادة من مناهج البحث العلمي، والتخلص ما أمكن من التحيّز المشعور به وغير المشعور به، ومن دون هذا التحرر المنهجي سنبقى ندور حول أنفسنا، ونعيد تكرار المكرر كما هو بلا أي محاولة للفهم وإعادة البناء.

نلاحظ أن “تاريخنا” بوجه عام أصابته “آفة التخيّل”، بين نظرتين متضادتين؛ إحداهما تراه تاريخًا مثاليًّا وتتأوَّل ما قد يُؤخَذ عليه من أخطاء، والأخرى تتحامل عليه لحدّ القسوة.. كيف ترى ذلك؟ وما المنهج الصواب في التعامل مع تاريخنا؟

هناك طرفان ووسط، والطرفان كلاهما أيديولوجيان لا معرفيّان. تاريخنا تاريخ بشر، يخطئون ويصيبون، وتعتور الأمم في سيرورتها تطورات كبيرة ومؤثرة اجتماعية وسياسية، فتتقدم تارة، وتتراجع تارة، ولكل ذلك أسباب يمكن مقاربتها، ولن نفهم أنفسنا ما لم نرجع إلى تاريخنا فنقرؤه بعين الفحص الناقدة.

البعض يريد البدء من “المرحلة الصفرية” وآخرون مصابون بـ”الاكتفاء”

من الناس من يدعو إلى نبذ “الكتب الصفراء” فيسلب الأمة أصالتها، ويريد إعادتها إلى مرحلة “الطفولة المعرفية”، وكأنها لم تحقق شيئًا ولا وعيًا طوال القرون؛ أي إنه يريد الانتقال من “الكتب الصفراء”، كما يسميها، إلى “مرحلة صفرية”، كما يولد الطفل فيتعلم كل شيء من الصفر. وهذا فكر لا تاريخي مثالي.

وهناك طرف مقابل يسلب الأمة معاصرتها، فقد قال السلف الصالح كل شيء، وكل شيء ناجز، ونحن بألف خير، بمجرد أن نعود إلى التراث. وهذا أيضًا مصاب بمرض “الاكتفاء” والشعور بالامتلاء المغني عن الغذاء. وهذا أيضًا يضرب عقل الأمة في مقتل.

علينا أن نقتل التراث بحثًا فنفهمه كما هو ما أمكن، من دون احتقار كاذب؛ ففي مناهجنا ما يصلح حتى يوم الناس هذا، ونفهمه في سياقه هو، ثم بعد هذا نفهمه في عصرنا، بمناهج عصرنا، ولنعالج قضايا عصرنا نحن.