تقول جولي غراي، باحثة في مجال الجزيئات النباتية بجامعة شيفيلد: “لا أعتقد أننا نحن البشر سنكون بين الناجين، بل سنذهب سريعا أدراج الرياح!”، جاء ذلك ردا على سؤال عن أي الأنواع الحية تعتقد غراي أنها ستظل على قيد الحياة ما لم يتخذ الإنسان تدابير جذرية للتعامل مع التغير المناخي.
ورغم ما يتمتع به البشر من قدرات غير عادية على الابتكار والتكيف، إلا أننا لن نكون غالبا في مصاف الناجين!
يرجع ذلك جزئيا إلى أننا نحن البشر نتكاثر ببطء شديد، شأننا في ذلك شأن بعض أحب الحيوانات إلينا كدب الباندا. أما الكائنات التي تتكاثر بسرعة فقد تكون فرصتها أفضل في تفادي الانقراض.
قد يبدو الأمر مجرد تخمين، لكن بحث أي الكائنات ستكون قادرة على التكيف مع التغير المناخي يعتمد على أدلة ملموسة ومخيفة. وأشار تقرير صدر مؤخرا حول التنوع الطبيعي إلى احتمال تعرض واحد من كل أربعة أنواع حية في الوقت الراهن للانقراض نتيجة التغير المناخي، الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة ومنسوب مياه البحر وتقلب المناخ، ناهيك عن تأثيرات أخرى.
ومع ذلك، يخضع الأمر لاحتمالات، فرغم تأكد خطورة التغير المناخي يظل من المستحيل الجزم بمدى تأثير تلك المخاطر على الكائنات الحية مستقبلا، خاصة في المستقبل البعيد.
ويخضع تقدير تأثر البيئة بالتغير المناخي لتحيزات البشر ولما يجهلونه، وعلاوة على ذلك، فإنه من الصعب تخيل الآثار غير المباشرة للتغير المناخي على الأنواع الحية وسلاسل الغذاء.
كذلك يصعب التكهن بالنتائج، نظرا لاختلاف قدرة الكائنات على التكيف، فذوات الدم البارد كالزواحف والبرمائيات غالبا ما تكون أبطأ في التكيف مع التغير المناخي عن ذوات الدم الحار، لعدم قدرتها على الاحتفاظ بدرجة حرارتها داخليا. لكن هناك استثناءات لذلك، مثل الضفدع الأمريكي الضخم الذي قد يجد متسعا بيئيا أكبر جراء ارتفاع درجات الحرارة.
وبالطبع، ثمة بديل وهو أن يبذل البشر مزيدا من الجهد لوقف تفاقم أزمة المناخ عبر انتهاج سياسات وتغيير السلوك لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. لكن لمواصلة الحديث عن الآثار المتوقعة للتغير المناخي دعونا نفترض أن البشر لن يفعلوا شيئا.
توقعات عامة
ورغم عدم وضوح الصورة، يمكننا توقع بعض الأشكال العامة للتغير توقعا علميا.
يرجح أن تنجو النباتات المقاومة للحرارة والجفاف، كنباتات الصحراء، أكثر من النباتات المطيرة، وكذلك النباتات التي تنشر بذورها لمسافات واسعة عبر الريح وتيارات المحيط (كنخيل جوز الهند) عن تلك التي تعتمد على النمل لنقل بذورها كبعض أشجار السنط.
كما قد تستفيد النباتات التي تغير موسم إزهارها تبعا لارتفاع درجة الحرارة. وتعتقد جين لاو، عالمة أحياء بجامعة إنديانا بلومينغتون، أن التغير المناخي قد يعطي الفرصة لبعض النباتات للازدهار في بيئات غير بيئتها الأصلية.
كما يمكننا الاسترشاد بالماضي لتوقع المستقبل، إذ تحتوي السجلات الحفرية على ما يدلل على تكيف أنواع حية مع تغيرات مناخية سابقة.
ويعتمد النوع الحي في قدرته على التكيف على المدى الطويل على مورثاته، كما في حالة بعض الطحالب التي تكيفت مع ازدياد ملوحة مياهها عبر ملايين السنين – وهو الاكتشاف الذي توصل إليه فريق بقيادة الباحثة فاطمة فوفلنكر، من جامعة روتجرز، في سبتمبر/أيلول 2018.
لكن تجدر الإشارة إلى عدم إمكان الاعتماد كلية على ما حدث في الماضي لتوقع الآثار الكارثية للأزمة المناخية الراهنة، كونها هذه المرة من صنع الإنسان.
ويقول جيمي كار، مسؤول التوعية بتداعيات التغير المناخي بلجنة الأحياء المنبثقة عن الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة: “ما سنشهده مستقبلا من تغير مناخي سيختلف في الكثير من الجوانب عن التغير المناخي الذي شهدته الأرض قبل ذلك”.
وبالنظر إلى الماضي، نرى أن الصراصير تمتعت بقدرة هائلة على التكيف، إذ تقول أسمرة أسيفاو برهي، خبيرة الكيمياء الحيوية للتربة بجامعة كاليفورنيا، إن الصراصير “تكيفت بنجاح حتى يومنا هذا مع كافة الكوارث البيئة الضخمة التي هددت بانقراضها”، ومن ذلك الجفاف الذي ضرب أستراليا قبل عشرات الملايين من السنين بتعلم العيش في جحور تحت الأرض.
ويقول روبرت ناسي، المدير العام لمركز البحوث الدولية للغابات، إن هذا يدل على أمرين، أولهما “قدرة تلك الكائنات على الاختباء وحماية نفسها في ظروف معزولة عن البيئة الخارجية (العيش في جحور تحت الأرض). وثانيا، فإن وجود تاريخ طويل من التطور يدل عموما على أن الأنواع الأقدم كانت أكثر مرونة في التكيف من الأنواع المستجدة”.
وكلما كان الكائن الحي أكثر قدرة على تنويع طعامه، قل تأثره بما يحدثه التغير المناخي من شح لمصادر الغذاء، وينطبق ذلك على الجرذان والطيور الانتهازية وحيوانات الراكون التي تعيش قرب المناطق السكنية.
أما الحيوانات مثل الكوالا فتتغذى بالأساس على أوراق أشجار الكافور (الكينا)، وقد أصبحت تلك الأوراق أقل احتواء على الغذاء بسبب زيادة ثاني أكسيد الكربون في الجو، وبالتالي بات التغير المناخي يهدد تلك الحيوانات بالجوع.
فضلا عن التغذي على أنواع محدودة من الطعام، تفتقر الكوالا للتنوع الوراثي – ما ساهم في استشراء إصابتها في بيئتها الطبيعية بداء “المتدثرات”.
ويقول كار: “في حالات عديدة نتوقع اختفاء الكائنات التي تعتمد على غذاء بعينه، قبل غيرها”. وينسحب هذا أيضا على الأنواع التي تعيش في بيئات منعزلة، كغابات أعالي الجبال والسلاسل الجبلية الضيقة، كبعض الطيور المدارية ونباتات الجزر الصغيرة، ناهيك عن الكائنات التي تعتمد على بيئات بكر.
لكن الأنواع التي أثبتت نجاحها في البيئات المتغيرة، مثل بيئات المراعي والغابات الحديثة، “فقد تزدهر هذه المرة أيضا في ظل التغير المناخي لاعتيادها على البيئات المتغيرة والانتقالية”، حسبما تقول جيسيكا هيلمان، المسؤولة عن المعهد البيئي بجامعة مينيسوتا الأمريكية.
تقول هيلمان: “الغزلان (بالولايات المتحدة) باتت أكثر انتشارا بضواحي المدن ونجحت في الازدهار رغم إزالة الغابات أو النشاط المتكرر في الغابات”.
ويرجح كار أن تنجح الأنواع التي يصفها بـ”الأنواع المتنقلة العامة” في البقاء، نظرا لقدرتها على الارتحال والتكيف في بيئات مغايرة. ورغم اعتبار تلك القدرة على التكيف سمة إيجابية، إلا أنها قد تحدث ضررا بيئيا، كما في حالة أنواع مثل ضفدع القصب السام، الذي قضى على كائنات أخرى مثل السنور الأسترالي.
ملاذات بيئية
وقد تجد بعض الكائنات الحية ملاذا لها في بيئات لا تتأثر بنفس القدر بالتغير المناخي، كالوديان العميقة بقاع المحيطات. فرغم ارتفاع الحرارة بأعماق البحر وتدني مستويات الأوكسجين بها، يعتقد جوناثان ستيلمان، خبير بالبيئة البحرية بجامعة سان فرانسيسكو، أن الأنظمة البيئية داخل ما يعرف بـ “الفوهات الحرارية” في أعماق البحار ربما كانت استثناء واضحا لوضع مؤسف في أغلبه.
يقول ستيلمان: “لا تتصل تلك البيئات كثيرا بما يحدث بسطح كوكبنا، ولا أعتقد أن التغير المناخي سيؤثر فيها من قريب أو بعيد. ولم يكن الإنسان يعلم بوجود تلك البيئات حتى عام 1977، وهي البيئات التي تستمد طاقتها من باطن الأرض لا من أشعة الشمس، ومن غير المتوقع أن تتأثر تلك البيئات النائية بالتغيرات التي تطرأ على سطح المحيط”.
كذلك يرجح دوغلاس شيل، خبير بالغابات الحارة بالجامعة النرويجية لعلوم الأحياء، أنه “قد لا يتبقى من الفقريات في أفريقيا في وقت ما في المستقبل إلا أحد أنواع السمك الأعمى الذي يعيش في كهوف بباطن الأرض”.
كما يرجح ألا تتأثر الكائنات التي اعتادت تحمل الحرارة المرتفعة بتغير حرارة سطح الأرض. وقد أثبتت كائنات ميكروبية دقيقة أنها الأقدر على العيش في تلك الظروف شديدة الصعوبة.
وهناك أيضا حيوانات التارديغرادا شبه المجهرية من أوليات الفم التي تستطيع تحمل أقصى البيئات، وتعرف أيضا باسم “دب الماء”. ويقول ستيلمان، خبير البيئة البحرية، إنها “قادرة على الحياة في الفضاء الخارجي وفي ظل انعدام الرطوبة والحرارة الشديدة، وربما سمع المتابع لأفلام ستار تريك بها ككائنات فضائية، لكنها في الواقع كائنات تعيش بمختلف البيئات على ظهر كوكبنا”.
وقد يكون المستقبل أكثر تطرفا بيئيا، فضلا عن امتداد البيئات الحضرية والبيئات المعدلة بفعل النشاط البشري. وبالتالي، يرجح آرفين سي ديزموس، رئيس قسم الزواحف بمتحف الفلبين الوطني للتاريخ الطبيعي، أن “تنجح الأنواع التي اكتسبت مقاومة بالفعل والتي تعيش في البيئات المعدلة بشريا، كحدائق المدن وحدائق البيوت والحقول والمزارع ومزارع الأشجار، في التكيف مع ارتفاع درجات الحرارة”.
ويلخص روبرت ناسي، من مركز بحوث الغابات، ذلك بالقول إن “الأنواع الناجية ستكون دقيقة وصغيرة، ومن ذوات الدم الحار غالبا بين الفقريات، وتلك القادرة على التكيف والتي تقتات على المتوافر ويمكنها العيش ببيئات صعبة”.
ويصف جيمي كار، من الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة، عالما كهذا بأنه “لن يكون عالما جميلا”.
وبالطبع، نعي بعضا مما علينا فعله لجعل مستقبل البيئة أكثر إشراقا، من قبيل الحد من الغازات الدفيئة، وحماية التنوع الطبيعي، وعدم اعتراض البيئات الطبيعية ببناء السدود ومد الطرق والكتل الأسمنتية المستمرة، والإقلال من التلوث، والاستغلال الجائر للأرض. بل يجب العمل أيضا على إعادة الأنواع التي أوشكت على الانقراض، مثل ظبي السايغا، للحياة ببذل ما يكفي من الجهود الحمائية.
وبينما لا تبدو في الأفق نهاية للعراقيل السياسية، فإن تجاوزها أفضل بكثير من تسليم الكوكب بأكمله للميكروبات ترتع فيه كيفما تشاء.