لعل ابن خلدون من أوائل الذين فطنوا إلى أنه من آثار الحضارة والمدنية إضافة التعليم إلى الصنائع، وذلك أن “الحضر لهم آداب (نظام وقانون) في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدين والدنيا، وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم، وجميع تصرفاتهم”، علاوة على أن التعليم أمر زائد على طلب المعاش، وبحاجة إلى تمويل ودعم “بالأوقاف المغلة، وبالتماس الأجور في المقاصد والأفعال”، وهي أمور يلتفت لها في الحضارة لا البداوة. وكون العلم صناعة يقتضي وجود متخصص، ليمتاز عن المبتدئ والمتوسط (المثقف) والعامي. والتخصص عند ابن خلدون هو “الحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن المتناول حاصلاً”.
ودون رتبة المتخصص المتوسط، وهو الذي سينتهي به المطاف إلى التخصص؛ لو واصل مسيرته التعليمية وحذق فيها، ودونه المبتدئ، ودونه العامي الذي لم يتخذ التعليم سبيلا. يقول ابن خلدون “نجد فهم المسألة الواحدة من الفن الواحد ووعيها، مشتركاً بين من شدا في ذلك الفن، وبين من هو مبتدىء فيه، وبين العامي الذي لم يحصل علماً، وبين العالم النحرير.. والملكة إنما هي للعالم أو الشادي في الفنون دون من سواهما، فدل على أن هذه الملكة –التخصص- غير الفهم والوعي”.
الشهادات العلمية وطرق التدريس في مقدمة ابن خلدون
لا بد للمتخصص من شهادة من جهات معتبرة (إجازة وسند)، “ولهذا كان السند في التعليم في كل علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلمين فيها معتبراً عند كل أهل أفق وجيل” حسب تعبيره. وقد تطرق ابن خلدون إلى ما يعرف اليوم بطرق التدريس الذي يخرّج المتخصص الحذق، وأن طرق التلقي النافع يكمن في “الحوار والنقاش” و”العصف الذهني” و”الصف المعكوس” و”التعليم المدمج” وغيرها، مما يساعد في التفاعل، فرديا كان أو جماعيا. يقول: ” وأيسر طرق هذه الملكة قوة اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها”.
ولا جرم أن الحفظ سابق لهذه الوسائل التعليمية، فالحفظ مهم، لكنه ليس غاية المجتهد والمتخصص، وهذا يذكرنا بتصنيف بلوم للأهداف التعليمية. يقول ابن خلدون: “فتجد طالب العلم منهم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتاً لا ينطقون ولا يفاوضون، وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم”. ومن سلبيات الحفظ المجرد أن ملكة الحافظ “قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم، وما أتاهم القصور إلا من قبل التعليم وانقطاع سنده. وإلا فحفظهم أبلغ من حفظ من سواهم، لشدة عنايتهم به، وظنهم أنه المقصود من المكة العلمية وليس كذلك”.
العلوم الشرعية عند ابن خلدون
هي “العلوم النقلية الوضعية، وهي كلها مستندة إلى الخبر عن الواضع الشرعي. ولا مجال فيها للعقل، إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول“. وهي أصناف:
أولا: علم الكتاب والسنة: التي هي مشروعة لنا من الله ورسوله، ويدرس فيها:
- تخصص القرآن: ببيان ألفاظه أولاً، وهذا هو علم التفسير، ثم بإسناد نقله وروايته إلى النبي ﷺ الذي جاء به من عند الله، واختلاف روايات القراء في قراءته، وهذا هو علم القراءات.
- تخصص الحديث: بإسناد السنة إلى صاجها، والكلام في الرواة الناقلين لها، ومعرفة أحوالهم وعدالتهم ليقع الوثوق بأخبارهم، ويعمل ما يجب العمل بمقتضاه من ذلك.
ثانيا: علم الفقه وأصوله: وذلك أن الكتاب والسنة يبين ما يجب على المكلف أن يعرف من أحكام الله تعالى المفروضة عليه، وهي مأخوذة بالنمق أو بالإجماع أو بالإلحاق. وتفصيله:
- تخصص أصول الفقه: وهو العلم بكيفية استنباط الأحكام من أصولها من وجه قانوني. وعلم المقاصد شطر منه.
- تخصص الفقه: وهو ثمرة أصول الفقه، بمعرفة أحكام الله تعالى في المكلفين. واستخرج منه المعاملات المالية المعاصرة ليكون تخصصا جديدا، والسياسة الشرعية جزء منه.
يجدر بالذكر أن التكاليف الموجودة في القرآن والسنة: منها بدني، ومنها قلبي. ما يندرج في علم الفقه وأصوله هو التكاليف البدنية.
ثالثا:علم أصول الدين: وهنا محل دراسة التكاليف القلبية كما يرى ابن خلدون. وهو المختص بالإيمان وما يجب أن يعتقد مما لا يعتقد. ويندرج تحته:
- تخصص العقيدة: بدراسة وإثبات العقائد الإيمانية في الذات والصفات وأمور الحشر والنعيم والعذاب والقدر.
- علم الكلام: وأصله الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية. ومن ملحقات منهج علم الكلام تخصص الأديان والفرق والفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية. وإن تطورت المناهج مؤخرا في كل حقل. ولعل كل ما هو فكر ومواكبة يندرج تحت أصول الدين.
رابعا: العلوم اللسانية: لأن معرفة العلوم الشرعية متوقفة عليها. وهي أصناف. فمنها:
- علم اللغة وعلم النحو.
- وعلم البيان وعلم الأدب.
جدلية البحث العلمي في العلوم الإسلامية وماهية إضافة علمية
يرى ابن خلدون أن “العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها، في هذه الملة بما لامزيد عليه وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق. وكان لكل فن رجال يرجع إليهم فيه وأوضاع يستفاد منها التعليم”. وعليه، فكل جديد يقدم في هذا الحقل يكون تفرعاً أكثر منه أصلاً وابتكارا، وقد يكون شرحا وتوضيحا وتبسيطا وترجمة، أو منهجا وأسلوبا، ودراسة مستجدات فقهية وعقدية على ضوء الأصول الموجودة. أما أصل المسائل فقد دونت كما يرى ابن خلدون.
أخيرا، هذا مجمل تخصص الشريعة والدراسات الإسلامية عند ابن خلدون، أما تفاصيله وتاريخه وما يندرج تحت كل فن من مسائل، وأهم الرجالات والكُتب فهو موضوع آخر، فصّل فيه ابن خلدون. تحدث ابن خلدون كذلك عن التربية والسلوك والأخلاق باسم علم التصوف، دون أن يدرجه تحت أي من التخصصات السابقة. ولم أقف له عن الخطابة وفن الإلقاء، على أن الجامعات قد توجد تخصصات وعلوم جديدة وفق تداعيات المعاصرة والحاجة. وينبغي لأحاديث الإرشاد الأكاديمي، والاعتماد ومعاييره، وتطوير المناهج والتخصصات، والبحث العلمي، والبينية؛ مراعاة طبيعة التخصص.