يعتبر الشيخ محمد بوخبزة من مشاهير رجالات العلم والمعرفة والثقافة العربية الإسلامية في المغرب، ومن العلماء المشهود لهم مشرقا ومغربا بالإحاطة والمعرفة الواسعة بخزائن الكتب العربية الإسلامية، قديمها وحديثها. ألف وحقق عدة مصنفات ما بين المطول والمختصر، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط.

الشيخ محمد بوخبزة من أشهر علماء أهل السنة في المغرب، ويعتبر مفخرة المغرب و”تطاوين”، عالم ومفكر وفقيه ومحدث ومحقق ومدقق وكاتب سير، صاحب التصانيف العديدة المفيدة، والتحقيقات السديدة الفريدة.

اشتهر الفقيه محمد بوخبزة بعشقه للعلم، واقتناء الكتب المطبوعة والمخطوطة، حتى عجت مكتبته بآلاف الكتب الإسلامية في مختلف الفنون والعلوم، ما بين مخطوط وحجري ومطبوع حديثا، بذل جهدا كبيرا في جمعها واقتنائها من مختلف الأقطار، استفاد من مكتبته العامرة جلة من العلماء والطلبة من المغرب وخارجه في بحوثهم، ولا يبخل بإعارة الكتب وتصوير المخطوطات لمن هو أهل لها.

الشيخ محمد بوخبزة هو من أسس “معهد الإمام أبي القاسم الشاطبي” بتطوان لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه الذي يتخرج منه سنويا مئات الطلبة من حاملي القرآن، بلغ صيته مختلف البلاد نظرا لاعتماد عدد من العلماء والدعاة على مؤلفاته، إذ يُعد من النوادر في قوة الذاكرة وسرعة الحفظ والصبر على الكتابة والمطالعة.

من هو الشيخ محمد بوخبزة؟

هو محمد بن الأمين بن عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الحاج أبي القاسم بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن سعيد بن يحيى بن عبد الله بن يحيى بن سعيد بن يحيى بن محمد بن الولي الصالح أبي الحسن علي بن الحسن الحسني الإدريسي العمراني والمكنى بـ “بوخبزة” والملقب بـ “أبو أويس”.

ولد في مدينة “تطوان” شمال المملكة المغربية بدرب الجُعَيْدي وذلك يوم السبت 26ربيع الأول 1351هـ والموافق ل20 يوليوز 1932م. والد جده الفقيه السيد أحمد الذي كان معدَّلاً وأستاذا مقرئا، وأخوه الفقيه النحوي السيد علي الذي أخذ عنه العلم كثير من علماء تطوان.

تلقى الفقيه محمد بوخبزة مبادئ القراءة والكتابة والحساب والدين، على الفقيه المجود السيد الحاج أحمد بن الفقيه المقرئ المعدَّل الأستاذ السيد عبد السلام الدُّهْرِي، وبعد وفاة الفقيه الدُّهري واصل تعليمه على الفقيه الخَيِّر السيد محمد بن الراضي الحسّاني، والفقيه البركة الزاهد السيد محمد بن عمر بن تَاوَيْت الودراسي، حيث أتم حفظ بعض المتون العلمية، كالآجرومية، والمرشد المعين على الضروري من علوم الدين، وألفية ابن مالك، وبعض مختصر خليل في الفقه المالكي، وغيرها من الكتب.

التحق الشيخ محمد بوخبزة بالمعهد الديني بالجامع الكبير، ومكث فيه نحوَ عامين، تلقى خلالها دروساً نظامية مختلفة على مدرسيه المشهورين، منهم: محمد بن عبد الصمد التُّجكاني، ومحمد بن عبد الكريم أًقَلعي، الشهير بالفحصي، والعربي بن علي اللُّوه،ْ وغيرهم، وقبل التحاقه بالمعهد الديني أخذ عن والده رحمه الله، النحو بالآجرومية والألفية إلى باب الترخيم، حيث توفي، كما أخذ دروسا في الفقه المالكي بالمرشد المعين لعبد الواحد بن عاشر، على الفقيه القاضي السيد عبد السلام بن أحمد علال البَختي الودْراسي، ودروسا أخرى في النحو على الأستاذ السيد المختار الناصر الذي كان مدرسا بالمدرسة الخيرية بتطوان، والسيرة على الفقيه المؤرخ وزير العدلية السيد الحاج أحمد بن محمد الرَّهوني، وعلى الفقيه المدرس السيد الحاج محمد بن محمد الفَرْطاخ اليَدْرِي، والدكتور محمد تقي الدين ابن عبد القادر الهلالي الحسيني السجلماسي الذي قدم تطوان حوالي 1365 هـ.

واهتم محمد بوخبزة بالمحدث الحافظ المتقن أحمد بن الصديق الغماري، وأُعجب بسعة اطلاعه، ورسوخ قدمه في علوم الحديث، فكاتبه وجالسه وأجازه إجازة عامة بما تضمنه فهرسه الكبير والصغير.

أخلاقه وتعامله مع الناس

عرف الشيخ الفقيه محمد بوخبزة بين الخاصة والعامة بالبشـاشـة، وسجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم، وانشراح الصدر، وإرسال الطرفة المستملحة، والنكتة المهذبة في دروسه وخطبه، لإثارة عامل التعزيز والتشويق في نفوس الحاضرين، وكان الفقيه يعلم علم اليقين أن درجة التعلم تتوقف على قوة هذا العامل الذي يضفي على الصف البهاء والفعالية، وكان لهذا أثر كبير في استهواء النفوس، واجتذاب القلوب، كي يقبلوا على الدرس بشوق، وتحصل لهم الفائدة.

وقد أثنى على الفقيه جلة من الأئمة الأعلام، وطار خبره مشرقا ومغربا، فكيف لا وهو من العلماء العاملين، والحفاظ المتفننين، ذو الخط المغربي الأندلسي الجميل، وغزارة العلم الشرعي الأصيل، حافظ فهام، قوام صوام، لبيب ذكي، نجيب تقي، عالم مشارك زاهد، وسيد فاضل عارف، عذب المنطق، فصيح اللسان، حسن الإيراد، عارف بصناعة التدريس والإقراء، من محققي أهل المغرب، ذو التآليف العديدة، والكتب المحررة النافعة المفيدة، المؤرخ الأديب، اللوذعي الأريب، ذو الأخلاق الجميلة، والإنصاف وسلامة الصدر.

نضاله ونشاطه المهني

عندما توفي والد الشيخ محمد بوخبزة عام 1367هـ، تقلص نشاطه وتأخر عن كثير من دروسه انشغالا بوالدته وإخوته، لكنه لم ينقطع عن الدراسة والمطالعة، وفي سنة 1370 هـ زار مدينة فاس ومكث بها أياما أخذ فيها دروسا على الفقيه محمد بن العربي العلَوي بالقرويين في أحكام القرآن لابن العربي، وبعد ذلك عرض عليه الفقيه القاضي أحمد بن تاوَيْت العمل معه ككاتب بعد أن عينته وزارة العدل قاضيا، فقبل وعمل معه.

وفي فاتح جمادى الأولى 1374 هـ في 27 ديسمبر 1954م أصدر مجلة “الحديقة” أدبية ثقافية دامت خمسة أشهر فقط ثم توقفت. وكان قبل ذلك قد أصدر بالمعهد الديني أول مجلة خطية باسم “أفكار الشباب”، وبعد خروجه من المعهد اتصل به جماعة من الطلبة وعرضوا عليه المشاركة في نشاطهم الثقافي، وكان يتولى إدارة المعهد أستاذ متعاون مع الإدارة الإسبانية، فحاصر نشاطهم برقابته المستمرة.

أصدر الشيخ محمد بوخبزة جريدة “البرهان” خطية لانتقاد سياسة الاستعمار الإسباني في التعليم واضطهاد الطلبة، والتضييق عليهم، ولم يصدر منها إلا عدد أول، فكتب مدير المعهد رسائل إلى رئيس الاستعلامات الإسباني “بيلدا “يُخبره فيها باستفحال نشاط الطلبة وصدور الجريدة وما يكتُبه فيها بوخبزة وهو غير طالب بالمعهد وكونه متهم بالوطنية، من مقالات تمس إسبانيا، فاستدعاه الأمين التمسماني مدير للمعهد الديني الإسلامي وهدده، ولما أيِسَ منه كتب إلى الباشا “اليزيد بن صالح الغُماري” بمثل ما كتب به إلى “بِلدا” فسأله الباشا عن التهمة فأجابه بأن رئيس الاستخبارات الإسباني سبقه إلى التحقيق في هذه القضية ولم يجد شيئا، فغضب الباشا واحتدّ، وأمر به إلى السجن وتدخلُّ بعض الأعيان واطلق سراحه.

بعد هذه الأحداث انقطع عن كل نشاط من هذا القبيل وركز على التدريس والكتابة، ونشر مقالات كثيرة في عدة صحف ومجلات كمجلة لسان الدين التي كان يصدرها تقي الدين الهلالي والذي خلفه على رئاسة تحريرها بعد سفره عبد الله كنّون ومجلة “النصر” و “النبراس”، وأخيرا جريدة “النور” وغيرها، كما نظم قصائد وأنظام كثيرة معظمها في الإخوانيات ضاع أكثرها.

مناصبه ومسيرته العملية

عرض عليه الفقيه القاضي الحاج أحمد بن تاوَيْت رحمه الله العمل معه كاتبا، بعد أن عينته وزارة العدل قاضيا ثانيا عند اتساع العمران، وازدحام السكان، فأنشئت محكمة شرعية أخرى بحي العيون، فقبل وعمل معه كاتبا في المحكمة، وعمل بالخزانة العامة والمحفوظات بتطوان، وفهرسته لمخطوطات الخزانة شاهدة له بعلو كعبه في علم الفهرسة والتصنيف.

كما اشتغل الشيخ محمد بوخبزة خطيبا بمسجد العيون، وكان المسجد يكتظ بالمصلين، يقصدونه من كل فج عميق، واشتغل بالوعظ والإرشاد بمسجد العيون، ومسجد سيدي طلحة، ومسجد ديور الحجار، وما زال الفقيه إلى يومنا يدرس الطلبة الموطأ بمعهد الإمام الشاطبي بتطوان.

ولعو مقامه العلمي شُدت إليه الرحال من المشرق والمغرب، وتنافس الناس في الاستفادة وأخذ الإجازات العلمية منه، وعقد مجالس العلم في المدن التي زارها خلال رحلاته المتعددة، وهذا غير مستغرب، فمثله ممن يحمل العلم النافع، والإسناد العالي، والفوائد الحديثية، لابد أن يكون مقصد طلاب العلم والمشايخ، فكثر أصدقاؤه ومحبوه والتفوا حوله، كما كثر تلاميذه وتعلقوا به تعلقاً كبيراً، وكثيراً ما كان يجلس بين تلاميذه من هو أعلى منهم في الصف والمرتبة، ليحضروا دروسه، حرصاً منهم على الفائدة الجمة، والتدريس المحكم والدرس المبسط المسهب.

رائد فن تحقيق المخطوطات

ولا يخفى عن أحد ممن له دراية بعلم تحقيق المخطوطات، أن الشيخ من رواد هذا الفن في زمانه، وتربطه علاقات وطيدة ومراسلات مفيدة مع كبار العلماء المحققين من المغرب والمشرق، كالأستاذ بن تاويت الطنجي، وعبد القادر الصحراوي، ومحمد بن شريفة، وسعيد أعراب، ومحمد حجي، وعبد الله كنون، وعباس الجراري، وغيرهم، ومن المشرق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وأبو إسحاق الحويني، ومشهور حسن سلمان، وبشار عواد، وغيرهم ممن كان له علم بتحقيق وتخريج المخطوطات العربية الإسلامية.

وقد اشترك الفقيه محمد بوخبزة مع مجموعة من محققي المغرب في تحقيق بعض المصنفات المفيدة الفريدة، ككتاب ترتيب المدارك للقاضي عياض السبتي، والتمهيد لابن عبد البر النمري الأندلسي، والذخيرة للقرافي المالكي، وغيرها من المصنفات التي حققها علمائنا فأجادوا فيها وأفادوا.

مؤلفاته وتحقيقاته وأعماله العلمية

أما عن أعماله العلمية، فقد اشتغل الفقيه الشيخ محمد بوخبزة بالتدريس والتأليف، ونشر مقالات كثيرة في عدة صحف ومجلات، كمجلة ” لسان الدين” التي كان يصدرها الشيخ تقي الدين الهلالي، ومجلة “النصر” و “النبراس” ، وجريدة “النور” التي كان يصدرها أستاذنا إسماعيل الخطيب رحمه الله، وغير ذلك ، كما نظم قصائد وأنظام كثيرة معظمها في الإخوانيات،ضاع أكثرها.

ألف وحقق الفقيه محمد بوخبزة عدة مصنفات ما بين المطول والمختصر، منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط، وهي على النحو التالي:

مؤلفاته:

  1. جراب الأديب السائح، في 15 مجلدا.
  2. الشذرات الذهبية في السيرة النبوية.
  3. صحيفة سوابق وجريدة بوائق . من جزئين.
  4. فتح العلي القدير في التفسير (وهو تفسير لبعض سور القرآن الكريم).
  5. نظرات في تاريخ المذاهب الإسلامية.
  6. ملامح من تاريخ علم الحديث بالمغرب.
  7. نشر الإعلام بمروق الكرفطي من الإسلام.
  8. الأدلة المحررة على تحريم الصلاة في المقبرة.
  9. أربعون حديثا نبوية في نهي عن الصلاة على القبور واتخادها مساجد وبطلان الصلاة فيها.
  10. دروس في أحكام القرآن من سورة البقرة.
  11. نقل النديم وسلوان الكظيم.
  12. رونق القرطاس ومجلب الإيناس.
  13. تحصين الجوانح من سموم السوائح. (وهي تعقيبات على رسالة السوائح لعبد العزيز بن الصديق).
  14. إبراز الشناعة المتجلية في المساعي الحميدة في استنباط مشروعية الذكر جماعة.
  15. ديوان الخطب.
  16. النقد النزيه لكتاب تراث المغاربة في الحديث وعلومه.
  17. الجواب المفيد للسائل والمستفيد .(باشتراك مع الشيخ أحمد بن الصديق).
  18. تعليقات وتعقيبات على الأمالي المستظرفة على الرسالة المستطرفة .للشيخ ابن الصديق الغماري.
  19. استدراك على معجم المفسرين، طبع في بيروت من جزئين بعد أن تصرف فيه. نشرته المنظمة الإسلامية.
  20. عجوة وحشف.
  21. رحلاتي الحجازية.
  22. إيثار الكرام بحواشي بلوغ المرام.
  23. التوضيحات لما في البردة والهمزية من المخالفات.

تحقيقاته

  1. تحقيق جزء من التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد للحافظ ابن عبد البر النمري.
  2. تحقيق أجزاء من الذخيرة للقرافي المالكي طبع في 13 مجلدا.
  3. تحقيق أربعون حديثا في الجهاد لعلي بركة الأندلسي.
  4. تحقيق الرسالة الوجيزة المحررة في أن التجارة إلى أرض الحرب وبعث المال إليها ليس من فعل البررة للفقيه محمد الرهوني.
  5. تحقيق وصية بن عمار الكلاعي لإبنه.
  6. تعليق على الرائية لإبن المقرئ اليمني في الرد على الاتحاديين.
  7. تحقيق جزء من النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني.طبع في 14 مجلدا.
  8. فهرس مخطوطات خزانة تطوان.
  9. تحقيق شهادة اللفيف لأبي حامد العربي الفاسي.
  10. تحقيق شرح القاضي عبد الوهّاب على الرسالة لإبن أبي زيد القيرواني.
  11. تحقيق سراج المهتدين لإبن العربي المعافري.

منهج الشيخ محمد بوخبزة في تفسير القرآن الكريم

يتحدث الدكتور يونس السباح في بحث له عن منهج الشيخ محمد بوخبزة في تفسير القرآن الكريم، فيقول أن الشيخ بوخبزة “علَم من أعلامنا المعاصرين، الذين كانت لهم الرّيادة في عِلم التفسير تأليفاً، وفهرسةً، ونقداً، وتدريساً، فهو بحق من أواخر من عرف المغرب من أعلامه الأفذاذ في علم التفسير على طريقة جمعت بين أنماطٍ متعددة، حيث سلك مسلكا جديداً فريداً”

اهتم الشيخ العلاّمة المفسّر أبو أويس محمد بوخبزة بعلم التفسير باكراً إبّان دخول الشيخ العلامة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي السجلماسي  إلى تطوان سنة 1365هـ، فبفضله بعد الله تعالى كان للشيخ محمد بوخبزة التوجّه لتفسير كتاب الله تعالى. ألّف رَحمه الله دروسا كثيرة في تفسير القرآن، وكتب في أحكامه تأليفا مستقلاً لم يتم، فمن أوضاعه في تفسير القرآن:

أولا: من أحكام القرآن: أصل هذا الكتاب المخطوط دروس في أحكام القرآن كان يحرّرها لمّا أسند إليه تدريس هذه المادة لطلبة معهد الإمام الشاطبي –القسم السادس- وكان المقرّر عندهم كتاب: (الأحكام الصغرى لابن العربي) وكان الشيخمحمد بزوخبزة يعمد إلى محاذاتها وتحرير أقوال ابن العربي ومناقشته في الأدلة، فجاءت حافلة، لكنه كتب منها إلى نهاية الحزب الثاني من سورة البقرة وتوقف، وبقيت هذه الدروس محفوظة بخطه المغربي الرائق في أوراق من القطع الكبير، ويقع كلّ درس في صفحة.

وأمّا منهجه فيها: فهو “لاينفصل عن شخصيته العلمية التي تحلّت بالصبر على التتبّع والاستقراء، والتّمكّن من أدوات النقد الصحيح، والجرأة في الصدع بالحق، ولذلك لا تخطئ في تضاعيف كلامه واثناء جمله حسّا نقديا متوثباً مشحونا ببواعث الإصلاح، ومقودا بصدق النّية على عزّته في النفس”.

ثانيا: دروس التفسير لكلام العلي القدير :كان الباعث على كتابة هذه الدروس وتحريرها هو إسناد تدريس مادة التفسير له، بمعهد الإمام الشاطبي للتعليم العتيق بتطوان، فاهتبل الشيخ بوخبزة هذه الفرصة ليكتب تفسيراً لكتاب الله تعالى بنَفَس جديد، وبطريقة جديدة، وقد كان ابتداء تدوينها منذ حوالي سنة 1993م فما بعدها.

و كان العزم على أن تسير هذه الدروس من أول القرآن إلى آخر القرآن، إلا أن الله تعالى كتب لشيخنا أن يقيّد دروساً من الفاتحة إلى أواخر الحزب الرابع من سورة البقرة، وبالمنهج نفسه كتب دروساً لتفسير سورة فصلت وغافر، وسورة القدر.

هذا ما تم العثور عليه من تفسيره المكتوب. أما التفسير المتلو في الدروس والمسجل في الأشرطة فيأتي على القرآن كلّه، فقد ختم الشيخ محمد بوخبزة تفسير القرآن مرة واحدة، و شرع مرّة أخرى في تفسير الذكر الحكيم من خلال حلقات الدروس التي دأب على عقدها، ثمّ توقّف لأسباب، وعسى الله أن يبعث من يفرّغ هذه الأشرطة ويعيد ترتيبها وتهذيبها، ففيها علم غزير، وفضل كبير. ويقول الباحث الدكتور يونس السباح أن منهج الشيخ محمد بوخبزة في هذه الدروس هو كالآتي:

  • تصدير السورة ببيان إجمالي عن نوعها وعدد آياتها، وأسمائها المتعدّدة إن وجدت.
  • شرح المفردات القرآنية شرحا لغوياً يركن فيه أحيانا إلى تفسير التابعين كقتادة والزّهري، وربما تعلق بأشعار العرب واستعمالات الفصحاء.
  • التعريف بالأعلام القرآنية كيوسف، وموسى وعيسى .
  • تقرير المعنى الإجمالي للآيات، مع الاستهداء بالمأثورات، والرّكون إلى أمهات التفسير. ·
  • سوق فوائد ولطائف تتعلّق بفنون شتّى كالعقيدة والتفسير والحديث والقراءات والتاريخ واللغة، مما يجعل الدرس التفسيري وعاءً حاويا للعلوم، وينبوعاً زاخراً بالعوائد.
  • تعقّب بدع التفاسير وأوهام المفسرين ممن تنكبوا الجادّة في إشارات لا خطم لها ولا أزمة، أو تأويلات لا ظهير لها ولا شفيع.

أما موارد الشيخ محمد بوخبزة في التفسير فهو  يعتمد حفظه على مصادر أثيرة، يستقي منها معلوماته ونقولاته بسعة صدر، ورحابة ضمير، ويتخيّر من المصادر الأمتن والأمتع، وناهيك به اطّلاعا وعلماً، فقد قضى شطراً من حياته في قسم المخطوطات بالمكتبة العامة بتطوان ممّا جعله واسع الأفق، عارفاً بكتب التراث التي منها كتب التفسير. ويمكن أن نجمل موارده في تفسيره على النحو الآتي:

  1. القراءات: ويأتي بها عقِب الطائفة المختارة من الآيات (موضوع الدرس) باعتبارها قرآناً، ولا يختار إلاّ القراءات السبعة المتواترة معتمداً على ثلاثة كتب: معاني القراءات لأبي منصور الأزهري، حجة القراءات لأبي زُرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زَنْجَلة، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها للإمام مكّي ابن أبي طالب حموش بن محمد بن مختار الأندلسي.
  2. اللغة: يهتمّ العلامة المفسّر محمد بوخبزة بالمفردات اللغوية اهتماماً بالغاً، ولا عجب في ذلك، فقد كتب منذ سنوات طويلة نقداً على المنجد سمّاه: (عثرات المنجد)
  3. التفسير: التفسير بالمأثور هو المقدّم عند المفسّر العلاّمة محمد بوخبزة، فيبدأ دائما بتفسير القرآن بالقرآن ثم تفسير القرآن بالسنة ثم بأقوال الصحابة ثم التابعين أهل المدارس المعروفة في التفسير، ثم الشعر العربي أخيراً. ويصوغ تفسيره بروح أثرية تجديدية تجرّد المتن التفسيري عن الإسرائيليات والأخبار الواهية، وتغذّيه في الآن عينه بمفاهيم تصحيحية تردّ الحقائق إلى نصابها عقيدة وفقهاً، مع النقل عن المفسرين الثقات، والتهدّي بمفهومهم في النظر والتأويل، وأكثر نقوله عن الطبري، وابن كثير، والقرطبي والسيوطي.
  4. مسائل ولطائف وفوائد: يخصص الشيخ محمد بوخبزة هذه الفقرة لكل ما يتعلق بالآيات من جميع المناحي، وفي هذه الفقرة يظهر واسع اطلاعه، فهو يغوص في بحر التاريخ أحيانا، وفي اللغة أخرى، ويرد ويناقش، ويأتي بنكتة، وينبّه على شطط المفسرين، وشطحات المبتدعين ..ممّا يجعل الدرس التفسيري وعاءً حاويا للعلوم، وينبوعا زاخرا بالعوائد.

الحديث عن منهجية الشيخ محمد بوخبزة في تفسيره، ومعالمه الكبرى يجرّنا إلى الحديث عن المفسّر نفسه. ويمكن تقسيم المعالم المنهجية في تفسير الشيخ محمد بوخبزة إلى ثلاثة معالم كبرى:

أولا: المعلم الموسوعي: يتوسع الشيخ محمد بوخبزة في جوانب عدّة حسب المقام، ففي الجانب الفقهي يغوص على استنباط الأحكام وتحريرها، وترجيح ما يظهر له رجحانه في سياق التعارض والاشتباه، معانا على ذلك بدرايته الفقهية، ومحفوظه الحديثي، وإحاطته بمدارك الخلاف. وهكذا يسير في جميع فقرات التفسير منتقلا من اللغة والشعر إلى التفسير، ومنه إلى المسائل واللطائف، فتحس بدائرة معارف تنتقل من فنّ إلى فنّ، ومن غرض إلى آخر، بأسلوب شيق، وغزارة معلومات، موظفاً جميع المعارف، ومستعملا طاقاتها كلها في صياغة نص تفسيري متكامل. ثانيا:المعلم الأثري: يظهر هذا المعلم جليّا لدى مفسرنا حفظه الله، ففي التفسير يجعل (الدرّ المنثور) للسيوطي نصب عينيه، ثم يستقي من الإمام ابن كثير في تفسيره، والبغوي وابن القيم وغيرهم من المفسرين بالمأثور. ويأتي بتفسير القرآن بالقرآن في الدرجة الأولى مستعرضا ما يتعلق بالنظائر، ثم تفسير القرآن بالسنة، وهو منحى بارز في تفسيره، فيستعرض محفوظه الحديثي مع تحرّي الصحيح وتحاشي الضعيف، محكما العلامة الألباني في كثير من الأحاديث والآثار.

ثالثا: المعلم النقدي: يظهر بجلاء هذا المعلم في كثير من المناقشات حول آيات الصفات في الغالب، فترى المفسّر يخوض في نقاش مع كبار الأئمة مباشرة بدون نقل عن أحد، معتمدا رهافة حسه، ودقة نظره، وعمق مادته، للدفاع عن رأيه ورد رأي غيره، ولا يخشى في الله لومة لائم. لذلك كثر عنده النقاش مع إمام الحرمين عبد الملك الجويني، والإمام سيف الدين الآمدي، والإمام فخر الدين الرازي وأضرابهم من الأشاعرة، ولا يحابي في نقاشه، بل الحق عنده أحق أن يعلن عنه.

وهذا نجده في سياق النقد يناقش الإمام القشيري، والإمام السلمي في تفسيره، وابن عجيبة في كثير من الآيات، بل كان مفسرنا عازما على تتبع إشارات العلامة أحمد بن عجيبة وإفرادها بالرّد في جزء مستقل، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جله، فقد أشبعه نقداً في تفسيره، مع الالتزام بأدب الرد والنقاش الهادف البنّاء. ولم يخل تفسيره أيضاً من الرد على الغلاة وذوي الأهواء المخالفة.

خاتمه:

ممّا سبق يمكن القول، بأن هذه الملتقيات والندوات تكشف عن خبايا كثيرة، وجوانب متعددة، وأمور خفية، جديرة بالذكر والاهتمام. وموضوع هذا البحث يأتي في هذا السياق، فلم يسبق لأحد أن درس منهج الشيخ محمد بوخبزة وهو عالم معاصر، مشهود له في الشرق والغرب بالمعرفة والاطلاع، أضف إلى اشتغاله بتفسير القرآن الكريم منذ نعومة أظافره، وتأليف ما يتعلق به، ونسخ كتب القراءات وما إليها، ونقد أمور تتعلق بالتفسير، كلّ هذا دفعني إلى اختيار هذا الموضوع، وفاء لبعض حق شيخنا علينا.

ويظهر بعد اهتمام العلامة محمد بوخبزة بالتفسير، موسوعيته وإحاطته بشتى الجوانب ليجعل الدرس التفسيري وعاء حويا للعلوم، وموظفا فيه جميع ما أدوات العلم والنقد الصحيح. وقد أشفعت هذا البحث بنموذج فريد من هذا التفسير، لتتضّح الرؤية، وتظهر هذه المعالم بجلاء، فإن فوفقت فمن الله التوفيق، وله الفضل أوّلا وأخيرا، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والله الموفق والهادي لأقوم طريق، والحمد لله رب العالمين.

وفاته

صباح الخميس 30 يناير 2020، فاضت روح الشيخ محمد بوخبزة بقسم الإنعاش بإحدى المصحات الخاصة بمدينة “تطوان”، بعدما نُقل إليها في حالة جد حرجة قبل عشرة أيام، تاركا وراءه عشرات الكتب والمجلدات والمخطوطات التي قضى معظم فترات حياته في كتابتها (عاش 88 عاما)، لكنه لم يقم بطباعتها، كما تخرج على يديه مئات من طلاب العلم الشرعي من مختلف دول العالم، منهم علماء ودعاة.

يقول الفقيه أحمد الريسوني في نعي الشيخ محمد بوخبزة: “فقد المغرب والأمة الإسلامية أحد العلماء الأجلاء الأبرار والزهاد الأخيار، وهو العلامة محمد بن الأمين بوخبزة (أبو أويس)، الذي وافاه الأجل المحتوم بمدينته تطوان. الفقيد الكبير كان، منذ عشرات السنين، قبلة للعلماء والباحثين والمحققين، من المغرب والمشرق، يزورونه وينهلون من علومه، ويتباحثون معه في مختلف القضايا العلمية، وخاصة في مجال المخطوطات”.