الأمثال في القرآن كثيرة جدا، وكثرتها في القرآن تدل على أهميتها، والنفس البشرية ميالة إلى الأمثال والقصص، ولهذا كثرت الأمثال والقصص في القرآن والسنة، ومما صار مثلا من القرآن (الطيبات للطيبين)، وهو جزء من قول الله تعالى: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ‌وَالطَّيِّباتُ ‌لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)  (النور:26).

وقد جاءت هذه الآية بعد حديث القرآن عن حادثة الإفك التي اتهمت فيها السيدة عائشة – رضي الله عنها- وبرأها الله تعالى في آيات تتلى إلى يوم القيامة، ولما خاص الخائضون في عرض عائشة رضي الله عنها، ونزلت البراءة بعث النبي صلى الله عليه وسلم  “إلى عبد الله بن أبي المنافق، فجيء به فضربه النبي صلى الله عليه وسلم حدين، وبعث إلى حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش فضُرِبوا ضربا وجيعا وجيء في رقابهم.

قال ابن عمر: إنما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم حدين؛ لأنه من قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعليه حدّان.

فبعث أبو بكر إلى مسطح بن أثاثة، فقال: أخبرني عنك وأنت ابن خالتي، ما حملك على ما قلت في عائشة؟ أما حسان فرجل من الأنصار ليس من قومي، وأما حمنة فامرأة ضعيفة لا عقل لها، وأما عبد الله بن أبي فمنافق. وأنت في عيالي منذ مات أبوك وأنت ابن أربع حجج أنفق عليك وأكسوك حتى بلغت، ما قطعت عنك نفقة إلى يومي هذا. والله إنك لرجل لا وصلتك بدرهم أبدا ولا عطفت عليك بخير أبدا، ثم طرده أبو بكر وأخرجه من منزله.

فنزل القرآن {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} الآية، فلما قال {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} بكى أبو بكر فقال: أما إذ نزل القرآن بأمري فيك لأضاعفنّ لك النفقة وقد غفرت لك، فإن الله أمرني أن أغفر لك، وكانت امرأة عبد الله بن أبي منافقة معه، فنزل القرآن {الْخَبِيثَاتُ} يعني امرأة عبد الله {لِلْخَبِيثِينَ} يعني عبد الله {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} يعني عبد الله لامرأته {‌وَالطَّيِّبَاتُ ‌لِلطَّيِّبِينَ} يعني عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم {وَالطَّيِّبُونَ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم {لِلطَّيِّبَاتِ} يعني لعائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} إلى آخر الآيات » [1]

 قال الشيخ المراغي في تفسيره: ” بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامى المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله- أردف ذلك دليلا ينفى الريبة عن عائشة بأجلى وضوح- ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله من أطيب الطيبين، فيجب كون الصّدّيقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق [2] .

وقال ابن كثير: «قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول. قال: ونزلت في عائشة وأهل الإفك.

وهكذا روي عن مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن بن أبي الحسن البصري، وحبيب بن أبي ثابت، والضحاك. واختاره ابن جرير، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم؛ ولهذا قال: {أولئك مبرءون مما يقولون} .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء» [3] .

والآية تدل على الانسجام والتناغم بين المتشابهين من الرجال والنساء من الطيبين والطيبات فيما بينهم، والخبيثين والخبيثات من الرجال والنساء فيما بينهم.

قال الشيخ المراغي:  ” هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع، وتبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء وكرة الهواء مطيعة لمجموعها، لما بينها من تناسب وتشابه فى الصفات، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا، وهم يكونون يوم القيامة كذلك، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون»[4].

ولعل سائلا يسأل: إن كان القرآن قد قال (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ ‌وَالطَّيِّباتُ ‌لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ)، فكيف يقع بعض الرجال الطيبين في نساء خبيثات، وكيف تقع نساء طيبات في رجال خبيثين؟

فالجواب: أن الآية تفهم بناء على دلالة الاقتضاء كما هو مقرر في علم أصول الفقه، ودلالة الاقتضاء هي أن نفهم اللفظ بمعنى لازم مقصود للمتكلم، بحيث يتوقف على فهم الكلام صدقه أو صحته من جهة العقل أو من جهة الشرع، فإذا قال الله تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ [آل عمران: 97]، ثم إننا نجد أن حرمة الحرم قد هتكت، كما في بعض العصور من القرامطة مثلا، فإن المعنى الذي يجب فهمه؛ بما يقتضي صدق كلام الله أن يكون المعنى: أمنوا من دخل الحرم، فيجب عليكم أيها المسلمون أن تجعلوا الحرم آمنا، لكن هذا قد يخرج من فعل الإنسان ومخالفته أمر الله تعالى.

وهكذا الحال يكون في ” الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات”، يعني يجب عليكم أن يكون الطيبيون للطيبات والطيبات للطيبين، فهذه هي القاعدة، لكن الإنسان قد يخالف ذلك باختياره، فيذهب الإنسان الطيب إلى امرأة خبيثة لجمالها أو نسبها أو مالها، ويخالف الشرع في عدم مراعاة الاختيار بناء على الدين، فإذا رأينا رجلا صاحب دين وخلق قد تزوج امرأة غير دينة؛ فإنه يكون بناء على اختياره، وقد خالف مفهوم الآية، أو نجد امرأة ذات دين عند رجل غير متدين، فإنه يكون بموافقة الولي واختيارها إن كان لها اختيار.

والآية حث من الشرع للمسلمين أن يتزوج الطيبيون الصالحون من الطيبيات الصالحات، وأن يتركوا زواج الخبيثات للخبيثين، فإن الطيور على أشكالها تقع، وذلك حتى يتميز الفريقان، ﴿‌وَلِكُلٍّ ‌وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148] .

كما أن الآية وإن كانت تتكلم عن العلاقة الزوجية؛ فإنه بناء على قاعدة:” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، قد يفهم من الآية أن على المسلم أن يحرص أن يكون مع الطائفة المؤمنة الطائعة، فلا يتطلع إلى المجتمعات الكافرة، ولا المجتمعات الفاسقة، بل عليه أن يصبر مع الطائفة التي ينتمي إليها، كما قال تعالى: ﴿‌وَاصْبِرْ ‌نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]، وهو معنى غاية في اللطافة؛ وجب التنبيه عليه والالتفات إليه.


[1] – «الروايات التفسيرية في فتح الباري» (2/ 845)

[2] – «تفسير المراغي» (18/ 92)

[3] – «تفسير ابن كثير – ت السلامة» (6/ 34)

[4] – «تفسير المراغي» (18/ 93)