لقد حدث نزوح كبير للمسلمين تجاه الغرب في القرن العشرين، أوجد حالة فريدة تحتاج إلى دراسة وتحليل واستشراف للمستقبل.
فعلى طول تاريخ العلاقة بين الإسلام والغرب كان التمايز واضحًا في البلدان التي يسيطر عليها كلا الطرفين، حتى كان فقهاء الإسلام يقسمون العالم إلى: دار إسلام، ودار حرب (كفر).
أقليات هنا وهناك
وليس معنى ذلك خلو بلدان كلا الطرفين من بعض الأقليات التي تتمايز في الدين.
فمعلوم أن بلاد الإسلام احتضنت الديانات الأخرى وتعايشت معها، وكان هذا التعايش من خلال عقد الذمة الذي أرساه القرآن ورسول الإسلام -صلى الله عليه وآله وسلم.
وما كنا نعرفه أن الغرب انتشرت فيه المسيحية، ولم تزاحمه إلا اليهودية أثناء شتاتهم، ولكنا وقفنا على نص يغير هذه النظرة.
يقول ياقوت الحموي: “وأما أنا فإني وجدت بمدينة حلب طائفة كثيرة يقال لهم: الباشغردية، شقر الشعور والوجوه جدًّا، يتفقهون على مذهب أبي حنيفة -رضي الله عنه، فسألت رجلاً منهم استعقلته عن بلادهم وحالهم.
فقال: أما بلادنا فمن وراء القسطنطينية في مملكة أمة من الإفرنج يقال لهم: الهنكر، ونحن مسلمون رعية لملكهم في طرف بلاده نحو ثلاثين قرية، كل واحدة تكاد أن تكون بليدة، إلا أن ملك الهنكر لا يمكننا أن نعمل على شيء منها سورًا؛ خوفًا من أن نعصي عليه.
ونحن في وسط بلاد النصرانية؛ فشمالينا بلاد الصقالبة، وقبلينا بلاد البابا -يعني: رومية.
والبابا رئيس الإفرنج هو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم.
قال: وفي غربينا الأندلس، وفي شرقينا بلاد الروم قسطنطينية وأعمالها.
قال: ولساننا لسان الإفرنج، وزينا زيهم، ونخدم معهم في الجندية، ونغزو معهم كل طائفة؛ لأنهم لا يقاتلون إلا مخالفي الإسلام.
فسألته عن سبب إسلامهم مع كونهم في وسط بلاد الكفر.
فقال: سمعت جماعة من أسلافنا يتحدثون أنه قدم إلى بلادنا منذ دهر طويل سبعة نفر من المسلمين من بلاد بلغار، وسكنوا بيننا، وتلطفوا في تعريفنا ما نحن عليه من الضلال، وأرشدونا إلى الصواب من دين الإسلام، فهدانا الله، والحمد لله، فأسلمنا جميعًا، وشرح الله صدورنا للإيمان.
ونحن نقدم إلى هذه البلاد ونتفقه، فإذا رجعنا إلى بلادنا أكرمنا أهلها وولونا أمور دينهم.
فسألته: لم تحلقون لحاكم كما تفعل الإفرنج؟
فقال: يحلقها منا المتجندون، ويلبسون لبسة السلاح مثل الإفرنج، أما غيرهم فلا.
قلت: فكم مسافة ما بيننا وبين بلادكم؟
فقال: من ها هنا إلى القسطنطينية نحو شهرين ونصف، ومن القسطنطينية إلى بلادنا نحو ذلك”. [معجم البلدان، (1/323)].
وطبعًا فهذه الأقلية المسلمة لم تكن ظاهرة على طول أوروبا وعرضها.
على العكس من الوضع الحالي الذي مثّل المسلمون جالية كبيرة لا يستهان بها، وهذه الجالية تشكلت من معظم البلدان الإسلامية، من المغرب العربي وتركيا وشبه القارة الهندية وآسيا الوسطى والعراق ومصر والشام والدول الإفريقية.
وهذا كله غير مفهوم دار الإسلام ودار الحرب.
صدمة الهجرة
و”لا شك أن الانتقال إلى العيش في الغرب يعدّل علاقة الإنسان بالتدين السائد في بلده الأم، وذلك لثلاثة أسباب:
– انصهار الهوية والمجتمع العرقي الأصلي.
– وغياب السلطات الروحية الإسلامية الشرعية في البلد المضيف التي تحدد القواعد.
– وأخيرًا استحالة تطبيق الإلزام القضائي والاجتماعي والمجتمعي والتقليدي الذي يضع الممارسة الدينية في مصاف الأمور البدهية والتقليدية”. [أوليفييه روا: عولمة الإسلام، ص(86)].
والمسلم كان في وطنه الأصلي يرى صبغة الإسلام تصبغ المجتمع، وهذا الأمر يتغير جملة وتفصيلاً عند الانتقال إلى الغرب؛ فإن “الانتقال إلى الغرب يزيل الإسلام عن البيئة والبديهة الاجتماعية، والأمور التي كانت سهلة بفضل انخراطها في العادات والبدهيات والمسلمات”[أوليفييه روا: عولمة الإسلام، ص(87)]..
رؤية جديدة لمعنى الذمي
وقد كانت هناك أطروحات لمعالجة الرؤية للأقليات المسلمة في الغرب، ومنها رؤية طارق رمضان، والذي رأى أن “الذمي هو أي شخص من الأقليات سواء أكان مسلمًا في الغرب، أم مسيحيًّا في الشرق الأوسط، أم يهوديًّا في الإمبراطورية النمساوية المجرية”[أوليفييه روا: عولمة الإسلام، ص(74)]..
إشكاليات تواجه المهاجرين
وهناك إشكاليات كثيرة تواجه الجيل الأول المنتقل إلى الغرب:
– إشكالية اللغة فالمسلمون القادمون من بلدان شتى تختلف لغاتهم، وهذا يصعّب من إمكانية التواصل بينهم؛ فهذا يتحدث العربية، وهذا الأردية، وغيرها من اللغات، فيكون حاجز اللغة مانعًا من التواصل، وانكفاء كل جالية على نفسها.
لكن هذه الإشكالية تنحل بصورة شبه جذرية في الجيل الثاني والثالث؛ حيث تكون لغة البلد المضيف هي اللغة الأم، ولغة البلد الأصلية هي اللغة الثانية، إن لم تكن غير موجودة في الأجيال اللاحقة.
– إشكالية بلد المنشأ اختلاف الأعراق والأجناس والعادات والثقافات بين البلدان قد يؤدي إلى نوع من العزلة، والانكفاء على الذات، فتجد الجمعيات الخاصة بالأتراك، وأخرى بالباكستانيين… إلخ.
وهذا يكون واضحًا -أيضًا- في الجيل الأول، لكن الأجيال اللاحقة تصطبغ بثقافة البلد المضيف.
واستغراق أبناء المهجر في مشاكل بلدانهم الأصلية، وتوظيف الحكومات والأنظمة للجاليات التابعة لخدمة مصالحها، بغض النظر عن مصالح البلد المضيف قد يسبب الكثير من المشاكل للجاليات.
وعلى الأنظمة أن تستفيد من جالياتها بما لا يضر بهم في بلدانهم المضيفة.
– إشكالية المذهب الاعتقادي والمذهبي يذهب المسلمون إلى الغرب باختلافاتهم ومعاركهم المذهبية والفكرية، وبدلاً من توحيد الجهود لصياغة خطاب موحّد يتم التوجه به للبلدان المضيفة في الغرب، فإذا بالخلاف والتشرذم سيد الموقف، فإذا تم إدارة الخلاف وصياغة حوار داخلي حول الأولويات التي يجب تصديرها إلى الغرب، لتغير الوضع.
فهذا الخلاف يعطّل الإسلام من أن يضرب بجذوره في تلك الأراضي الجديدة.
الحقوق الدينية
في الغرب تكون الحريات المدنية مكفولة للجميع نتيجة للتجنس، لكن تبقى إشكالية الحقوق الدينية التي تسعى الجالية المسلمة للحصول عليها.
القومية الإسلامية
لقد فرّقت القوميات واللغات بين المسلمين، وقد يكون وجودهم في الغرب فرصة للتوحد؛ حيث يكون الإسلام هو العنوان والرابطة الروحية، وقد توحدت لغتهم على لسان البلد المضيف، والثقافة الجديدة قد تجعل هناك أرضية مشتركة في طريقة التفكير، يقول مقتدر خان: “في الواقع إن الفرصة التي تسنت للكثير من المجموعات العرقية المسلمة حتى تتجمع (في الغرب) لأجل قضية إسلامية، ومن دون أن تفرق بينها القوميات الغبية، قد ولدت بعد فترة مجتمعًا حقيقيًّا مصغرًا خاليًا من المشاعر القومية والثقافات العرقية”.
ولا بأس بأن يكون الإسلام دينًا وقومية، أو دينًا وعرقًا، إذ إن أخوة الإيمان جامعة ورابطة بين المؤمنين، “فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف”، “وسماحة وقوة، وخلق ومادة، وثقافة وقانون”.
ولا نختلف مع من يسميها “الأخوة الإسلامية”، أو “العصبية الإسلامية”، أو “الأمة الإسلامية”؛ إذ يذهب إلى ذلك د. طه جابر علواني -رحمه الله- فيرى “أن القومية تُبنى على أرض وليس على قيم”، و”الأمة تعني مجتمعًا مبنيًّا على قيم معينة”.
ووجود تلك الرابطة في صالح تلك الجالية المسلمة بدلاً من تفرقها وتشرذمها، واليهود جعلوا الدين أساس وحدتهم، وصنعوا اللوبي اليهودي في أمريكا، والذي يسخّر كل إمكاناته لخدمة الكيان الصهيوني ماديًّا ومعنويًّا، ولا يتعارض ذلك مع كونهم أمريكيين.