اقرأ أيضا:
ومنذ القرن الثاني الهجري لوحظ حدوث متغيرين كان لهما أثرهما على مؤسسة الكتاب، أولهما الزيادة الضخمة في أعداد الكتاتيب والمعلمين بها حتى كان لكل قرية كتاب، بل ربما وجد أكثر من كتاب، حتى أن ابن حوقل (ت: 369) عد أكثر من ثلائمائة معلم كُتاب في مدينة بُلرم بصقلية، صاحب هذه الزيادة تطور مماثل في بنية الكتاب فلم يعد بناء ساذجا يضم عشرات الأطفال، وإنما اتسع وضم عددا كبيرا من التلاميذ والمدرسين حتى صار شبيها بالمدرسة؛ ككتّاب أبي القاسم البلخي الذي ذكر ياقوت الحموي أنه كان يضم ثلاثة آلاف طفل حتى أن البلخي كان يحتاج إلى ركوب حمار حتى يتمكن من المرور على جميع التلاميذ والإشراف على تعليمهم[3]، وثانيهما اهتمام الدولة بأمر الكتاتيب التي بدأت بمبادرات أهلية ثم ما لبث الخلفاء العباسيون أن أولوها عنايتهم لإشباع حاجات الجهاز الإداري للدولة الذي بلغ أقصى اتساعه في ذلك العهد، وهنالك عدد من الوقفيات التي تبين مدى عناية الخلفاء وأفراد الأسر الحاكمة بتشييد الكتاتيب والإنفاق عليها.
والسؤال الذي يثور هنا هل كان الالتحاق بالكتاتيب حكرا على الصبيان دون الفتيات، وهنالك بعض الشواهد النصية التي يمكن أن تساعدنا في الإجابة منها قول القابسي في (رسالة المعلم) إن “من حسن النظر أن لا يخلط بين الذكران والإناث”، وقول سحنون بخصوص آداب المعلم “أكره أن يعلم الجواريَ ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهن” فهذان النصان يدلان على أن الإناث كن يتعلمن منذ زمن مبكر، وأنهن كن يقصدن الكتاتيب، ولكن اشترط في تعليمهن فصلهن عن الصبيان خشية الفساد.
مع ازدياد أعداد الكتاتيب والمعلمين بها، صارت هناك حاجة لوضع قواعد لضمان انتظام العملية التعليمية وضبطها، وهذه القواعد تشمل كلا من المعلم أو المؤدب والتلميذ أو الصبي.
أ–المعلم
أدرك المسلمون أن العلم لابد أن يضاف إلى التربية ليتمكن المدرس من دراسة نفسية الطفل، والنزول إلى مستواه والاتصال المعنوي والعلمي معه، وفي هذا يقول ابن عبدون: “والتعليم صناعة تحتاج إلى معرفة ودربة ولطف، فإنه كالرياضة للمهر الصغير الذي يحتاج إلى سياسة ولطف وتأنس حتى يرتاض ويقبل التعليم[4]، وهذه المعاني كانت ماثلة في أذهان العلماء الذين كتبوا كثيرا في مسألة التربية وصاغوا شروطا فيما يجب أن يتصف به المعلم، وهنالك شروط عدة علمية وخلقية ننتخب من بينها الآتي:
ب–التلاميذ
تحدث العلماء كذلك عن الآداب التي يجب أن يتحلى بها المتعلم، وقبل أن نذكر كلامهم في ذلك تجب الإشارة إلى مسألة هامة التفت إليها العلماء، وهي علاقة البيت بالمدرسة، وقد وصف الزرنوجي هذه العلاقة بأبلغ وأوجز تعبير قائلا “يحتاج في التعلم إلى جد الثلاثة: المتعلم، الأستاذ، الأب”، كما ذهب القابسي إلى أن الأب ملزم بتلقين ابنه الفضائل ومبادئ الدين، وهو ما يعني أن المعلم ينبغي أن يجد عونا من البيت وإلا ذهبت جهوده سدى، ولأجل هذا اشترطوا في التلميذ أو المتعلم شروطا عدة نذكر من بينها:
كان الطفل يرسل إلى الكتاب القريب من منزله وهو صغير السن وعادة ما كان سن السادسة وما بعدها أنسب لأن الطفل في هذه المرحلة يستطيع الاعتناء بشئونه من دون مساعدة، وكان يشرف على الكُتَّاب معلم قارئ ي للقرآن وقد يشترك أكثر من معلم واحد في كُتاب واحد إذا كان عدد الأطفال كثيرا، ولم تكن للحكومة أية رقابة على هذه الكتاتيب إلا متأخرًا حينما وُجدت وظيفة «المحتسب» الذي صار يتعهد الكتاتيب بالتفتيش والمراجعة، وكان الآباء ينتقون لأبنائهم الكتاتيب، ويتفقون مع معلميها على الأجر الذي يكون أسبوعيا أو شهريا، كما يشارطونهم على ما يجب أن يتعلمه أبناؤهم، ولم يكن الكُتّاب في الغالب دارًا متعددة الغرف، وإنما هو غرفة واسعة أو ضيقة أو غرفتان على الأكثر، متواضعة الفرش والأثاث، تتسع لعدد من الأطفال يشرف عليهم المعلم والنقيب.
وعادة ما كان الطفل يحضر إلى الكتاب في وقت مبكر بعيد صلاة الفجر أو ما بعدها، وكان يبدأ يومه الدراسي بحفظ حزب من القرآن الكريم، وبعد أن يحفظه يبدأ بالنسخ والكتابة والتمرن على تجويد الحفظ إلى وقت الظهر، ثم يعود إلى بيته للغداء أو يتغدى في الكتاب، ثم يبدأ عمله ثانية بعد صلاة الظهر حتى فترة العصر يقرأ ويكتب إلى حين الانصراف إلى أهله بعد العصر، وهو يمنح إجازة أسبوعية تمتد من منتصف الخميس حتى صبيحة السبت.
وكانت مدة بقاء الطفل في الكُتَّاب خمسة أعوام أو ستة على الأكثر، يحفظ خلالها القرآن الكريم كله أو بعضه عن ظهر قلب أو روايةً وإتقانًا، ويتقن فنَّي الكتابة والخط، ويلم بمبادئ العربية، ومبادئ الحساب الأولية.
وطريقة التعليم في الكتاب تقوم على الحفظ والتلقين ابتداء وهي أن يقرأ المعلم آية من القرآن ثم يرددها الطفل حتى يحفظها، فينتقل إلى آية أخرى سواها، أو يكتب الآيات المطلوبة في لوح من الحجر أو اللخاف أو العظام أو الجلود ثم يحفظها، فإذا حفظها محاها في إجانة ماء يلقى به في مكان طاهر فتبتلعه الأرض.
وكان في الكُتَّاب عقوبات يتلقاها الطفل المخطئ أو المهمل أو الكسول، وأول تلك العقوبات التوبيخ وحده ثم أمام زملائه، ثم التهديد العلني ثم الضرب باليد أو العصا.
وإذا أتم الطفل مدة الدراسة في الكُتّاب وحفظ القرآن أو رواه امتحنه المعلم لمعرفة ذلك والتأكد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل ﺑ «الختمة»، ثم يدخل معركة الحياة العملية، أو يبدأ دراسته المتعمقة في المساجد إذا ما أراد ذلك[6].
كانت تلك مجمل الطريقة المتبعة في الكتاتيب في مختلف أرجاء العالم الإسلامي مع اختلافات طفيفة هنا وهناك، وربما استهجنها بعض المعاصرين لبساطتها واعتمادها على الحفظ والتلقين، إلا أنه إذا نظرنا بتجرد وحيدة إلى مخرجات العملية التعليمية لوجدنا ما يفيد كفايتها ومتانتها؛ فالنتائج التي حصل عليها التلاميذ كانت جيدة للغاية فقد حفظ قتادة القرآن في سبعة أشهر، وأتم سهل بن عبد الله التستري القرآن وله ست أو سبع سنوات، ويروي ابن العديم أنه ذهب إلى المكتب وعمره سبع وختم القرآن وله تسع سنوات، وقرأ بالقراءات العشر وله عشر سنين.
المواد المنشورة في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي إسلام أون لاين