ربما ..
يضحك عليك صاحبك حينما تدعوه لمشاهدة مسرحية يمثل فيها ممثل واحد فقط .. (المونودراما) يقول عنها البعض : إنها تمثيلية صغيرة يؤديها فرد قد يسانده أحياناً شريك أو أكثر لكنهم في الأغلب صامتون .. وكثيراً ما يكون الممثل وحيداً يسترسل في مونولوج طويل يستخلص منه حادثة أو عبرة من خلال ما تثار من أحداث .. مضحكة أو حزينة ..
ومادامت المونودراما تعتمد على الحوار الذاتي من خلال شخصية مسرحية متفردة تخاطب الجمهور لتوصيل الأفكار فهي – بلا شك –
مسرحية بكل ما تعنيه هذه الكلمة .. ذلك لأن حديث النفس نوع من الحوار الأناني .. إنه ذلك البوح الإنساني المتغلغل بجميعه في خبايا الروح ..
وكثيراً ما يكون هذا البوح حاراً أو دافئاً .. لما يعبر عنه من خلجات النفس في هدوئها وتوترها .. وبالأخص حينما يكون الكاتب دقيقاً في عباراته ذكياً في طرحه لموضوعه ..
إن هذا البوح في أكثر أحيانه يكون أشد تأثيراً في الحوار من مطولات الأحاديث وتشعبها لأنه يعبر بالضرورة عن حالة إنسانية تتشابه أو تتلاقى مع حالات تعيشها عشرات الأنفس .. وربما ينتج عن ذلك أيضاً تأثير مضاعف لكونها تنبع من دواخل صاحبها .. دون أن ترتبط بالخارج المشوب بالعلاقات المتداخلة الكثيرة .. والمعقدة ..
وبعد ..
ففي المقابل هنالك طرف آخر في الحياة يقبع وسط تلك الحالة من (العزلة) إنها (الوحدة) .. حيث تشعرك كلما انفردت بفراغ هائل .. وتحس بأنها غريبة عنك .. ثقيلة عليك فلا تطيق الإنفراد بها .. وإذا ما انفردت أحسست أن بينك وبين الحياة صحارى قاحلة وبيدٌ ليس لها من آخر سوى السراب ..
إنها تلجمك بأحوال فترى وكأن ما حولك ما هي إلا حفلات تنكر وانتقام مهما حاولت الهرب منها .. ولكنك تعود هارباً من نفسك التي بين جنبيك .. ودنياك التي تعيش فيها .. فتجرك إليها أو تجرها إليك في رحلة بحث شاقة
أما قبل ..
فانغمس في تلك الحياة لتملأ نفسك بمشاغل الدنيا .. فربما غرقتَ بوحدتك في لجة هدير المجتمع .. واتصلتَ وأحببتَ وكرهتَ ومشيتَ
وكتبتَ وتحدثتَ ووقفتَ وتأملتَ وصمتتَ وصرختَ وبكيتَ وضحكتَ .. و .. و .. و ..
وكنتَ تحس بأنك منفرداً .. ولكنك في ذات الوقت كنت مندمجاً في ذلك الحشد العظيم .. وإن لم يظهر شعورك ملياً .. ساعتها ..
وما هي إلا لحيظات خاطفة إلا وينفض السامر .. وتعود النفس لأدراجها
ووحدتها وظلامها .. مغلقة بين الجدران .. فيبدو الفراغ أهول مما كان عليه .. وتعود الوحدة أثقل .. فكأنها ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا ..
نعم ..
هنالك من وجد أن الشهرة لا تفيد إلا اسمه .. ولكن اسمه ليس منه .. ولا هو هو .. فأحب أن يغوص ليأنس (بالعزلة) وأن ينحو بإتجاه (الوحدة) .. فلم يجد من (العزلة) إلا اسماً لغير الشيء المقصود .. وأما (الوحدة) فليس لها في الدنيا وجود يذكر .. كما أنه يئس أن يجد عند الناس الاجتماع المطلق .. فقرر الاعتراف لنفسه بكل شيء .. !!
ولكن ..
هنا أقتبس مما قاله الإمام ابن الجوزي – رحمه الله – قبل مئات السنين : ((ما أعلم نفعاً كالعزلة عن الخلق ، فإنك لا تكاد ترى إلا شامتاً بنكبة أو حسوداً على نعمة ، ومن يأخذ عليك غلطاتك ، فياللعزلة وما ألذها ، سلمت من كدر غيبة وآفات تصنع ، وأحوال المداجاة ، وتضييع الوقت ، ثم خلا فيها القلب بالفكر ، لأنه مستلذ عنه بالمخالطة فدبر أمر دنياه وآخرته ، فمثله كمثل الحمية يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها ، وما رأيت مثل ما يصنع المخالط ، لأنه يرى حالته الحاضرة في لقاء الناس.
وكلامهم ، فيشتغل بها عما بين يديه . فمثله كمثل رجل يريد سفراً قد أزف ، فجالس اقواماً فشغلوه بالحديث عن ضرب البوق (أي الرحيل) وما تزود ، فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل والسلامة من شر المخالطة ، لكفى)) .
وهكذا ..
تتجلى خيوط المونودراما مع (الوحدة) قديماً أوحديثاً .. وتسير سيراً هادئاً لتصب في منبع (العزلة) .. وتستأنف أسرار البوح الذاتي مع المخالطة لتكون زاداً ومعيناً لا ينضب مهما حل وحصل على الطريق في سفر أو ترحال .. بين التوقف والحراك .. هنا أو هناك ..