يحتاج الناس في حياتهم إلى القضاء، فلم يخل مجتمع من المجتمعات من جهة تقضي بين الناس وتفصل بينهم في منازعاتهم وتنصف المظلوم وتردع الظالم، ولهذا السبب لم تغفل الشريعة عنه وإنما شرعت الأحكام لإيجاد مؤسساته، وبينت الشروط فيمن يتولى مهامه، وأرست أصوله، وشرع العلماء في تنزيل تلك الأصول وتحويلها إلى إطار مؤسسي له بنية داخلية محددة، وإجراءات تضبط عمله، وفي السطور التالية أسعى إلى التعرف على بنية النظام القضائي في الإسلام ومكوناته، والضمانات التي تكفل له تحقيق العدالة.
بنية النظام القضائي في الإسلام
يضطلع النظام القضائي في الإسلام بمهمة أساسية هي الفصل بين الأفراد وفقا للقانون الإسلامي والذي يتم تعريفه بأنه ” الأحكام الشرعية المستفادة من القرآن والسنة ومن المصادر المعتبرة شرعا في هذه الأحكام”[1] فهو الذي يحدد ما للأفراد من حقوق وما عليهم من واجبات. ويتألف نظام القضاء الإسلامي من ثلاثة أركان هي:
–أولا: القاضي، ويمثل الركن الأول من أركان المنظومة القضائية، فهو الذي يحسم الخلافات ويفض المنازعات، وتنعقد للقاضي ولاية القضاء من قبل ولي الأمر أو من يقوم مقامه كوزير العدل، فإذا لم تنعقد ولاية القضاء لا يكون قاضيا ولو اتفق المتنازعون عليه، والأصل أن يتولى ولي الأمر أو الإمام القضاء بنفسه لكنه لعظم مهامه وضيق أوقاته ينيب عنه من تتوفر فيه شروط القضاء: ومنها رجاحة العقل والنضوج العقلي، والبلوغ إذ لا ولاية للصبي على ذاته حتى تمتد لغيره، وسلامة البدن والحواس، والعدالة.
وثمة شرطان يثيران نقاشا فقهيا وهما: اشتراط الذكورة والإسلام، والذكورة شرط عند جمهور الفقهاء فلا يجوز عندهم تقليد المرأة القضاء، وحجتهم حديث “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” وخالفهم في ذلك كل من: الحنفية الذين أجازوا أن تكون المرأة قاضيا في غير الحدود والقصاص، و الإمام الطبري الذي ذهب إلى أن الذكورة ليست شرطا لتولي القضاء والإفتاء لا يشترط فيه الذكورة، وفقهاء الظاهرية الذين رجحوا أن الحديث يتعلق بالخلافة، وأنه ليس هناك دليل على منعها من ولاية غيرها من الولايات. وأما اشتراط الإسلام فقد قال به جمهور الفقهاء، وذهب الحنفية إلى جواز ولاية غير المسلم على غير المسلمين وعللوه بأن أهلية القضاء مثل أهلية الشهادة.
وإذا كان القاضي يستمد ولايته من الخليفة -ولي الأمر- فإن هذا الاستمداد في حقيقة الأمر هو من عامة المسلمين الذين اختاروه، وصار يمثلهم في مصالحهم ومنها حقهم في ولاية القضاء، فهو في تعيينه للقاضي يكشف عن إرادتهم في هذا التعيين، وضمانا لنزاهته يتقاضى القاضي راتبا من الخزانة العامة “بيت المال” بوصفه عاملا من عمال الدولة، ويحظر عليه جمهور الفقهاء الاشتغال بأعمال التجارة وبما يصرفه عن أعمال القضاء.
– ثانيا: الدعوى، وهي ما يدعى به إنسان على آخر من حق ويريد من القاضي أن يقضي له به، وتتألف من ثلاثة عناصر:
أ- المدعي، وهو طالب الحق الذي يتقدم إلى القاضي بالدعوى لاستخلاص حقه، ويشترط فيه أن يكون: ممن تقبل شهادته أمام القاضي، أن يتقدم بطلب النظر في الدعوى، وأن يكون حاضرا وقت إقامة الدعوى أو أن يقيم عنه وكيلا إن كان غائبا.
ب-المدعى عليه، وهو الذي يصدر الحكم ضده، سواء كان واحدا أم جماعة ويشترط حضوره وقت حضوره وقت صدور الحكم عليه، لأنه لا يجوز الحكم على الغائب إلا إذا كان له من ينوب عنه.
ت- المدعى به، وهو الحق الذي يطالب به المدعي، وهو موضوع الدعوى، وفي العصر الإسلامي المبكر كان القاضي يحكم في جميع القضايا دون تخصيص، وحول هذا المعنى يقول ابن رشد “واتفقوا أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق، كان حقا لله أو حقا لآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى”، ومع اتساع دائرة المدعى به إلا أنه لا يصح أن تكون العبادات مما يصلح الادعاء به، فليس للقاضي أن يحكم في صحة الصلاة وأسباب الطهارة وإنما هي مما يدخل في باب الاستفتاء.
ثالثا: الحكم ، وهو يصدر عن القاضي بعد سماع حجج وبينات ودفوع أطراف الدعوى، وفيه يحكم على المدعى عليه سواء بالإدانة أو الإبراء، وسواء كان الحق لله تعالى أو للعبد أو لكليهما معا.
خصائصه المميزة
يمكن أن نستشف من خلال مكونات النظام القضائي أن هنالك خصائص تميزه عن غيره من النظم القضائية المعاصرة، ومنها:
– الشريعة مصدر القانون، فالله سبحانه وتعالى هو المشرع للقانون وليس للإنسان سوى تطبيقه عن طوع واختيار لا عن جبر وإكراه، والقاضي ليس إلا مبينا وكاشفا عن حكم الله.
– العدالة والمساواة، إذ لا يميز القضاء الإسلامي بين الناس حسب المكانة الاجتماعية أو الجنس أو العرق أو الشرف غيرها من أنواع التمييز فالجميع في ساحة القضاء سواء مهما تباينت منازلهم أو ألوانهم أو أجناسهم.
– الشمول، فهو يشتمل على شئون الأموال والأعراض والدماء وشئون الأسر، وشئون الحكم، والحرب والسلام، والعقود والتحكيم وغيرها، وهذا الشمول مستمد من شمول الشريعة ذاتها.
– وحدة القضاء، وهي واحدة من أهم مميزات القضاء الإسلامي؛ إذ أن الإنسان أمام القضاء الإسلامي ليس أمام قضاء متعدد الاختصاصات والجهات ومتباين المصادر، لكنه أمام قضاء واحد تندمج فيه كافة الاختصاصات وتتوحد فيه طرائق الدعوى والإثبات.
– اقتصاره على الأمور الحياتية دون الأمور العبادية، إذ على الرغم من أن مصدر القانون مصدر متجاوز وعلوي إلا أن القانون لا يحكم إلا في الأمور الحياتية[2]، وهذا الفصل هام للغاية إذ يرشدنا أن الحكم على الأمور العبادية ليس إلا لله وحده ومن ورائه الضمير الإنساني فليس لإنسان التدخل في كيفية أداء أحدهم لعباداته وصلواته وإلزامه بشروط صحتها وما إلى ذلك.
ضمانات العدالة والاستقلال
ثمة ضمانات وضعها رجال الشريعة عبر العصور من أجل ضمان تحقيق القضاء في الإسلام للعدالة بين الناس، وضمن هذا الإطار يمكن التحدث عن بعض القواعد الفقهية التي تم تضمينها في البنية القانونية لتضمن تحقيق العدالة للمتقاضين دون محاباة، ومن هذه القواعد قاعدة ” الحق لا يسقط بتقادم الزمان” وبمقتضاها يحق لأرباب الحق المطالبة قضائيا باسترداد حقهم مهما تطاول الزمان، حتى إن انقضت المدة الزمنية المخصصة لإقامة الدعوى، ومنها إجازة فسخ عقود المكره من بيع وشراء وهبة وغيره بعد زوال الإكراه الشرعي، فإن مات المكره انتقل الحق إلى ورثته. ومنها عدم قبول شهادة المستخدمين لصالح مخدوميهم في الدعاوى، وما إلى ذلك من قواعد ضبطت الممارسة القضائية وكفلت العدالة بها.
غير أن هذه القواعد وحدها ما كانت لتكفل العدالة لولا مبدأ استقلال القضاء عن باقي السلطات في الدولة، وهذا الاستقلال على شاكلتين:
– استقلال ذاتي داخلي، يراد به فصل القضاء عن نوازع القاضي الذاتية التي قد يختل بها مقصد العدل، ويشمل سلامة القاضي في صفاته: الذاتية والخلقية والدينية، وتحرره من الخوف والحاجة، ومن هذا الاستقلال الذاتي للقاضي غير المنصوص عليه في القوانين ينبع استقلال النظام القضائي بأسره، لأن نابع من ضمير القاضي ومراعاته لأحكام الشريعة ومبادئها.
– استقلال خارجي، يتعلق بمنع تدخل غير القاضي وتأثيره على القاضي، وهو يتضمن الاستقلال الوظيفي ويعني قيام القاضي بواجبه القضائي دون تدخل من أي جهة أو تأثير، والاستقلال العضوي الذي يعني إفراد القضاء بسلطة منفصلة عن باقي السلطات.
وثمة ضمانات وضعها العلماء تكفل استقلال القضاء من قبيل، وضع شروط ذاتية وخلقية فيمن يتولى القضاء، وحصر تولية القاضي في الإمام أو من ينوب عنه، وعدم نقل قضية دخلت في ولايته بلا سبب مشروع، وعدم جواز عزله إلا بطلب منه أو بمقتضى مصلحة شرعية، وعدم نقض حكم القاضي من أي جهة حتى وإن كان السلطان ذاته، إذ الأصل صحة الحكم القضائي ولا يبطل منه إلا ما خالف نصا شرعياً أو خالف إجماعاً قطعياً أو ظنيا أو خالف القواعد العامة، وعدم جواز نظر القاضي دعوى يمثل هو أو أحد أقاربه طرفا فيها، وحظر منح الهبات والهدايا للقضاة. وهي ضمانات تكفل في مجموعها تحقق الاستقلال بنوعيه.
وقد ناقش الفقهاء مسألة تدخل ولي الأمر في عمل القاضي واعتبروه معصية، واستدلوا على ذلك بالقاعدة الشرعية ” لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، وأن السمع والطاعة لولي الأمر يكون في غير معصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وذهبوا إلى أنه إذا أصر ولي الأمر على التدخل رغم ممانعة القاضي وجب عليه الاستقالة حفاظا على استقلاليته، لأنه ليس بإمكانه التنازل عنها لأنها ليست حقا شخصيا له وإنما هي من حقوق الله تعالى التي لا يجوز التنازل عنها[3].
واستقلال القاضي لا يمنع من مراقبة أعماله وتفقد أحواله، ولولي الأمر أن يطالبه بعدم تأخير الدعاوى بغير مبرر، وأن ينظر في أقضيته وأحكامه التي يصدرها فإذا تبين أنه أخطأ في بعضها جاز عزله عند بعض الفقهاء، وإذا قصرت الرقابة عن الوصول لهدفها من مراقبة القضاة وتقويمهم ووقع من بعضهم الخطأ أقرت الشريعة التشكي فيجوز لأحد المتداعيين في الدعاوى أن يتشكى من انحياز قاضيه إلى خصمه أو بوجود عداوة سابقة معه أو غير ذلك من الأمور، ويجب عليه أن يرفع شكواه لولي الأمر الذي ينظر فيها وأن يعاقب القاضي أو يعزله إن ثبت جوره وظلمه.
الخلاصة، أن المؤسسة القضائية الإسلامية كانت تتشكل من بنية هرمية محددة الأركان والمهام، وأنها تمتعت بالاستقلال عن السلطتين التنفيذية والتشريعية بفضل مجموعة الضمانات التي كفلتها الشريعة واستنبطها الفقهاء، وهو ما أمكنها من تحقيق مبدأ العدالة القضائية.
[1] عبد الكريم زيدان، نظام القضاء في الإسلام، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1989، ط2، ص 5.
[2] محمد فاروق النبهاني، النظام القضائي في الإسلام، الرياض: التضامن الإسلامي، 1972.
[3] عبد الفتاح أبو غدة، قبسات من تاريخ القضاء في الإسلام، الكويت: الوعي الإسلامي، ع 58، 1969، ص 65.
[4] عبد الكريم زيدان، المرجع السابق، ص 72-73.