أجمع العلماء على إمامة أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم صاحب المستدرك على الصحيحين في العلم والدين وفي خدمة السنة النبوية على وجه الخصوص، وأنه ممن له قصب السبق ويد بيضاء في تمييز بين الصحاح والسقيم من الأحاديث، ومن الذوّادين عن حياض السنة النبوية من عبث العابثين.

قال الخطيب متحدثا عن مكانة هذا العلَممن أعلام السنة: “كان من أهل الفضل والعلم والمعرفة والحفظ، وله في علوم الحديث مصنفات عدة”.[1]

وقال ابن كثير:” وكان من أهل العلم والحفظ والحديث، وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع[2].

وقال الذهبي:” الإمام الحافظ، الناقد العلامة، شيخ المحدثين، أبو عبد الله بن البيع الضبي الطهماني النيسابوري، الشافعي…صنف وخرج، وجرح وعدل، وصحح وعلل، وكان من بحور العلم على تشيع قليل فيه[3] ولم يكن رافضيا حاشاه ذلك، ومن رماه بالرفض من أجل روايته حديث الطير[4] ونحوه في مستدركه فقد أبعد النجعة، لأنه أورد نظائره -من حيث الضعف والرد- في فضائل الخلفاء الراشدين الثلاثة، فلا دخل لمسألة الرفض أو التشيع في الباب.

فإنما يحمل عليه من ناحية تساهله في تصحيح الروايات الواهية، بل قد سئل الحاكم عن حديث الطير فقال: “لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي عليه الصلاة والسلام”.

قال الذهبي: “هذه حكاية قوية”[5] ورأى بعض العلماء كالسبكي[6] أن يكون قد أخرج الحديث من كتابه وبقي في بعض النسخ، ومهما يكون فإن تصرف الحاكم في عامة كتبه يقضى على برائته من تهمة الرفض وعلى تعظيمه للخلفاء الراشدين الثلاثة وتقديم مناقبهم على مناقب علي رضي الله عنهم كما هو معتقد أهل السنة والجماعة.

إمامة أبي عبد الله الحاكم في حسن التصنيف

شهد له العلماء بحسن التصنيف والتأليف، ورزق تصانيف كثيرة في علم الحديث، حتى قال ابن عساكر: وقع من تصانيفه المسموعة في أيدي الناس ما يبلغ ألفا وخمسمائة جزء[7].

وقال الحافظ أبو حازم العبدوي: سمعت الحاكم أبا عبد الله إمام أهل الحديث في عصره يقول: شربت ماء زمزم، وسألت الله أن يرزقني حسن التصنيف[8].

وسُئِلَ الحافظ أبو القاسم الزنجاني أيّ الحفّاظ الأربعة تعاصروا (الدارقطني، عبد الغني الأزدي، ابن منده، الحاكم) أحفظ؟ فقال: … وأما الحاكم فأحسنهم تصنيفاً.[9]

وقال ابن الصلاح في المقدمة: سبعة من الحفاظ أحسنوا التصنيف، وعظم الانتفاع بتصانيفهم في أعصارنا، وذكر منهم الحاكم.

وقال ابن حجر رحمه الله: وشربه – أي ماء الزمزم- الحاكم أبو عبد الله لحسن التصنيف ولغير ذلك فصار أحسن أهل عصره تصنيفاً[10].

هل كان الحاكم متساهلا؟

من الخطأ الشنيع وسم الإمام الحاكم بالتساهل على الدوام وحيث ذكر اسمه يقرن به، فنعت هذا الإمام الحافظ بالتساهل بهذا الطريق ينافي إمامته المجمع عليها، وإنما أخذ العلماء عليه أنه متساهل في كتابه المستدرك من خلال حكمه على الأحاديث بالصحة، فلا يطلقون نسبته للتساهل إلا من هذه الجزئية فقط، وأما خارج المستدرك فإنه كبقية أئمة النقد الذين هم المعول عليهم في هذا الشأن.

قال عنه الذهبي: “إمامٌ صدوق، لكنه يصحّح في مُستدرَكِهِ أحاديثَ ساقطة، ويُكثِرُ من ذلك. “[11]

قَال ابن حجر: “والحاكم أجل قدراً وأعظم خطراً وأكبر ذكرا من أن يذكر في الضعفاء[12].

قال السيوطي: “إن الحاكم مظلوم في كثير مما نسب إليه من التساهل[13].

قال العلامة المعلمي:” ذكرهم للحاكم بالتساهل إنما يخصونه بالمستدرك، فكتبه في الجرح والتعديل لم يغمزه أحد بشيء مما فيها فيما أعلم”[14].

والحاكم إمام من أئمة الصنعة إلا في كتابه المستدرك فإنه متسامح في التصحيح

سبب تأليف الحاكم كتابه المستدرك

جاء مقصد تأليف المستدرك وليدة الشبهة المثارة في عصر الإمام الحاكم، إذ أشاعت طائفة مبتدعة دعوة الاكتفاء بما ورد في الصحيحين من الحديث ونبذ ما سوى ذلك، مع أن صاحبا الصحيحين لم يستوعبا جميع الصحيح ولم يدعيا ذلك في صنيعهما، بل ما في طيات عنوان كتابيهما يدل على أنهما أرادا الاختصار لا الاستيعاب، فحقيقة دعوة القوم إن هي إلا طعنا في السنة وأصول الدين، ولما أصبحت فكرتهم تسود وتنتشر وعندها قام الإمام الحاكم بواجب النصيحة والدفاع الفعلي عن شرف بيضة السنة النبوية ليؤلف كتاب المستدرك على الصحيحين.

وقد قال في خطبة الكتاب: “قد نبغ في عصرنا هذا جماعة من المبتدعة يشمتون برواة الآثار بأن جميع ما يصح عندكم من الحديث لا يبلغ عشرة آلاف حديث وهذه الأسانيد المجموعة المشتملة على الألف جزء أو أقل أو أكثر كلها سقيمة غير صحيحة”[15] فألقمهم الحاكم الحجر في الرد على زعمهم وخطتهم بإكثار رواية الزوائد على حديث الصحيحين.

أهم الأسباب التي أدت إلى أخطاء الحاكم وغفلته في المستدرك

لكثرة الأوهام والمغالطات المكشوفة في المستدرك مع جلالة المؤلف في علم الحديث والحفظ والفهم دعى العلماء إلى البحث عن دوافع تلك الزلات وأخرجوا بعدة أسباب، ومنها:

السبب الأول: أنه بدأ تأليف “المستدرك” سنة 393ه لما بلغ 72 سنة في آخر عمره، وانتهى منه قبل وفاته بسنتين، وإن عهد المشيب والشيخوخة عادة يعتريه الضعف والعجز عن النشاط العلمي.

السبب الثاني: أن الهاجس الأكبر لدى الحاكم هو الرد على أهل البدع -السالف الذكر- القائلين بانحصار الأحاديث المقبولة في الصحيحين، وهذا الهاجس قد أدى به إلى التساهل في الإكثار من زوائده على الصحيحين.

السبب الثالث: تشعب الأسانيد وطولها مع اختلاف الرواة في ذلك العصر، والحق أنه كلما تأخر زمن الرواية يزيد معه احتمال الخطأ والوهم في النقل والنقلة، ولا شك أن مظنة الخطأ والسهو في هذه الحالة ستكون أقرب إلى الإمام الحاكم ممن سبقه من أئمة الحديث

السبب الرابع: أنه لما ألف الكتاب بيض جزءا منه ولم يتيسر له تنقيح جميع الكتاب قبل الوفاة، فالجزء الذى أملاه على الناس قل فيه التساهل من بقية الأجزاء التي أخذوا عنه بالإجازة

قال الحافظ ابن حجر:” وإنما وقع للحاكم التساهل لأنه سود الكتاب لينقحه فأعجلته المنية، قال: وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني من تجزئة ستة من المستدرك: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم، قال: وما عدا ذلك من الكتاب لا يؤخذ عنه إلا بطريق الإجازة، فمن أكبر أصحابه وأكثر الناس له ملازمة البيهقي، وهو إذا ساق عنه من غير المملى شيئا لا يذكره إلا بالإجازة، قال: والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده “[16]

السبب الخامس: فرحة الحاكم -كعادة المحدثين – بأسانيد عالية التي وقعت له في حديث الكتاب دون التحرير والكشف عن أحوال رجالها.  

الموقف الصحيح من حديث المستدرك

من الغلو الزائد أن ينسف جميع أحاديث المستدرك نسفا فيخرج من دواوين السنة وكتب الحديث، أو أن يجعل ما صححه الحاكم في منزلة ما صححه صاحبا الصحيحين، فكلا من طرفي الإفراط والتفريط محجوج بواقع الكتاب، والصواب هو التوسط في النظر والتأمل لحال الكتاب ثم تنزيله منزلة المناسب، وهذا هو السبيل المحمود الذى سلكه المحققون.

 وقد تعقب الذهبي قول أبى سعيد الماليني:” طالعت المستدرك الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثا على شرطهما” فقال الذهبي:” هذه مكابرة وغلو، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا، بل في المستدرك شيئ كثير على شرطهما، وشيئ كثير على شرط أحدهما”[17] وقال فى موضع آخر:”  ففيه جملة وافرة على شرطهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما” [18]

وقال ابن كثير في: في هذا الكتاب أنواع من الحديث كثيرة، فيه الصحيح المستدرك، وهو قليل، وفيه الحسن والضعيف والموضوع أيضا”[19]

وقال البدر بن جماعة:” والصواب أن يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الصحة أو الضعف”[20]

ومن أحسن من قسم أحاديث المستدرك وبين حال كل قسم هو الحافظ ابن حجر في النكت، ثم جاء الشيخ سعد الحميد بزيادة التوضيح والبيان وفصل فيه تفصيلا واسعا وواضحا، يمكن تلخيصه في الأحوال الآتية:

  1. أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين ويذكر أنهما لم يخرجا تلك الأحاديث، أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم، وبعد النظر والبحث نجد الشيخين قد أخرجا تلك الأحاديث في صحيحيهما، وأن الحاكم واهم في حكمة
  2. أحاديث أخرجها الحاكم بأسانيد احتاج البخاري ومسلم برواتها في صحيحهما أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم ويكون الحاكم قد أصاب في حكم كله.
  3. أحاديث يخرجها الحاكم ويحكم عليها بالصحة على شرط الشيخين أو على شرط البخاري أو على شرط مسلم فيكون الحاكم قد أخطأ في حكمه على هذه الأحاديث
  4. أن يخرج الحاكم أحاديث ويصححها، ولكن ليس على شرط الشيخين ولا أحدهما، وبعد النظر نجد أن الحديث صحيح الإسناد كما قال الحاكم
  5. أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط، دون أن يذكر شرط الشيخين ، وبعد البحث نجد أنها حسنة الإسناد فقط، والسبب في ذلك أن الحاكم – رحمه الله – لا يفرق بين الصحيح والحسن
  6. أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو يصححها فقط وهي ضعيفة، ليس هناك ما يشهد لها أو يخرجها ويصححها وهي شديدة الضعف
  7. أحاديث يخرجها الحاكم ويصححها على شرط الشيخين أو أحدهما أو
    يصححها فقط، وهي موضوعة، وفي “المستدرك” من هذا الصنف نحو مائة حديث، وقد ذكر الذهبي في “سير أعلام النبلاء” أنه أفردها في مؤلف جمع فيه هذه الأحاديث المائة.

ويضاف إلى ما سبق أن تساهل الحاكم في الموقوفات وفي فضائل الأعمال أشد لتصريحه بذلك نفسه.

والحاصل أنه لا يجوز إهدار تصحيح الحاكم بالجملة بحجة أنه مستاهل، وكذلك لا يعنى سكوت الذهبي عما صححه الحاكم أنه إقرار منه على حكم الحاكم.

وعلى كل حال فإن كتاب المستدرك على الصحيحين كتاب مفيد كما قال الذهبي[21]


[1]  تاريخ بغداد 3/509

[2]  البداية والنهاية 11/409

[3] سير أعلام النبلاء 12/571

[4]  هو حديث أنس رضي الله عنه حيث قال:” كان عند النبي طير فقال : ” اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير ”  فجاء علي فأكل معه” ولم ينفرد الحاكم بروايته بل رواه جمع من أهل العلم

[5]  المصدر السابق

[6]  الطبقات 4/ 169

[7]  طبقات السبكي 3/64

[8]  سير أعلام النبلاء 12/576

[9]  المصدر السابق 12/574

[10]  جزء في حديث “ماء زمزم لما شرب منه” ص: 35

[11]  ميزان الاعتدال 3/608

[12]  لسان الميزان 7/256

[13]  البحر الذي زخر 2/824

[14]  التنكيل 1/ 315

[15]  مقدمة المستدرك 1/ 2

[16]  تدريب الراوي 1/113

[17]   سير أعلام النبلاء 12/571

[18]  تدريب الراوي 1/113

[19]  اختصار علوم الحديث. ص:27

[20]  تدريب الراوي 1/ 113

[21]  سير أعلام النبلاء 12/176