سؤال يشغل بال الكثيرين وهو هل الذنوب تتفاوت ويكون بعضها أعظم إثما من بعض وأشد فحشا و جرما؟ أو هي متساوية لا تفاوت بينها في ذلك.؟
والذي سبب الإشكال هو أن الذنوب قد تتحد وقد تتفاوت بحسب الاعتبار. فهي باعتبار الجرأة على الله وتجاوز حدوده ومخالفة أمره، تكون كلها كبائر، وهي مستوية في هذه المفسدة. وذلك للاستهانة بأمر المطاع ونهيه وانتهاك حرمته، وهذا لا فرق فيه بين ذنب وذنب.
يقول ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء” ويوضح هذا أن الله سبحانه لا تضره الذنوب ولا يتأثر بها، فلا يكون بعضها بالنسبة إليه أكبر من بعض، فلم يبق إلا مجرد معصيته ومخالفته، ولا فرق في ذلك بين ذنب وذنب…
فلا ينظر العبد إلى كبر الذنب وصغره في نفسه، ولكن ينظر إلى قدر من عصاه وعظمته، وانتهاك حرمته بالمعصية، وهذا لا يفترق فيه الحال بين معصية ومعصية، فإن ملكا مطاعا عظيما لو أمر أحد مملوكيه أن يذهب في مهم له إلى بلد بعيد، وأمر آخر أن يذهب في شغل له إلى جانب الدار، فعصياه، وخالفا أمره، لكانا في مقته والسقوط من عينه سواء”.
ويمكن تقسيم الذنوب باعتبار آخر إلى نوعين، إلى: كبائر، وصغائر.
وهذا التقسيم هو الذي عليه أكثر أهل العلم؛ أخذا من نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى: { إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا } [سورة النساء: 31] .
وكقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف: 49]
وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ).
فظاهر هذه النصوص ونحوها يدل على تقسيم المعاصي إلى كبائر وصغائر.
وخلاصة ما ذكره أهل العلم في ضابط الكبيرة، كالغزالي في الإحياء، والذهبي في الكبائر، والهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر، وغيرهم، هو: أن الكبيرة هي كل ما وجب فيه حد، أو ورد فيه توعد بالنار، أو جاءت فيه لعنة، أو غضب أو حِرمان من الجنة.
وأما الصغيرة، ويعبر عنها باللمم أيضا، فهي: ما دون الكبيرة. ويذكر بعضهم ضابطا لها، وهو: أن تعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، من شرك وسحر وقتل قذف وأكل للربا والتولي عن الزحف ونحوها فإن نقصت مفسدة الذنب عن أقلّ مفاسدها فهي من الصغائر وإن ساوت مفسدتها أو زادت فهي فمن الكبائر، كدلالة الكفّار على عورات المسلمين، فهذا مفسدته أعظم من مفسدة الفرار من الزحف.
وتقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر هو تقسيم ثنائي للمعاصي، وهنالك تقسيم ثلاثي استشفه بعض أهل العلم من قوله تعالى: {الَّذينَ يَجتَنِبونَ كَبائِرَ الإِثمِ وَالفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ المَغفِرَةِ} [النجم: ٣٢]
فهنا جعلها ثلاثة أقسام: كبائر، وفواحش وصغائر، وهي: اللمم.
فالفواحش وإن كانت من جملة الكبائرِ، لكنها قد تميز فتكون قسما ثالثا؛ لما فيها من القبح ، فهي أعظم درجةً وأكثر تغليظاً.
ومن الذنوب التي وصفت بالفحش الزنا كما في قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32]، فأخبر عن فحشه في نفسه، والفاحش هو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقرّ فحشه في العقول حتى عند كثير من الحيوان، وأعظم منه قبحا وأشد منه إثما نكاح أزواج الآباء ولذا زيد في ذمه مع وصفه بالفحش قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22].
ووصفت جريمة اللواط بهذا الوصف بل زيدت بالتعريف مما يفيد أنّها جامعة لمعاني اسم الفاحشة وذلك في قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)} [الأعراف: 80] فنكّر الفاحشة في الزنى، وعرّفها في اللواط، لظهور فحشها وكمال قبحها غنيّة عن ذكرها، بحيث لا ينصرف اسم الفحش إلى غيرها كما يقول ابن القيم رحمه الله.
وذكر عن الحليمي، كما في الزواجر عن اقتراف الكبائر أنه قال: ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة وقد تنقلب الصغيرة كبيرة بقرينة تضم إليها، وتنقلب الكبيرة فاحشة بقرينة تضم إليها إلا الكفر بالله تعالى فإنه أفحش الكبائر وليس من نوعه صغيرة.
وهنالك تقسيم رباعي لدرجات الذنوب ودركاتها ذكره ابن القيم في كتابه الداء والدواء وهو أن الذنوب منها ما هو ملكي، ومنها ما هو شيطاني، ومنها ما هو سبعي، ومنها ما هو بهيمي، قال: ولا تخرج عن ذلك.
الذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصح له من صفات الربوبية: كالعظمة، و الكبرياء، و الجبروت، و القهر، والعلو، واستعباد الخلق، ومن هذا النوع الشرك بالله تعالى…، و هذا القسم أعظم أنواع الذنوب.
الذنوب الشيطانية:هي التشبه بالشيطان في الحسد، والبغي، والغش، والغل، والخداع، والمكر، والأمر بمعاصي الله و تحسينها، و النهي عن طاعته وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع و الضلال.
و هذا النوع يلي النوع الأول في المفسدة، و إن كانت مفسدته دونه.
الذنوب السبعية: ومنها العدوان، والغضب، وسفك الدماء، والتوثب على الضعفاء و العاجزين، والجرأة على الظلم، و العدوان.
الذنوب البهيمية: وهي الشره، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد: الزنا، و السرقة، و أكل أموال اليتامى، و البخل، والشح، والجبن، والهلع، وغير ذلك.
يقول ابن القيم: وهذا القسم أكثر ذنوب الخلق لعجزهم عن الذنوب السبعية و الملكية، و منه يدخلون إلى سائر الأقسام، فهو يجرهم إليها بالزمام، فيدخلون منه إلى الذنوب السبعية، ثم إلى الشيطانية، ثم منازعة الربوبية، و الشرك في الوحدانية”.
وخلاصة القول أن الذنوب تتفاوت فى درجاتها ودركاتها ومفاسدها، وينبني على هذا تفاوت عقوباتها فى الدنيا والآخرة.