مع تطور التقنيات الحديثة المتعلقة بالهواتف النقالة، وتعميم انتشار الرسائل النصية والمرئية والصور، خاصة عبر وسائل التواصل الإجتماعي، ظهرت العديد من الأمور التي ترسخت في ذهنيات الناس بشكل آلي وبأكثر تنظيم وحرص، ومن هذه العادات عبارة “جمعة مباركة” التي يرسلها الناس كل يوم الجمعة على شكل تهنئة من خلال بطاقة أو صورة ونص أو فيديو أو غيره.
ولقد شاع بين الناس في أيامنا هذه التهنئة بعبارة جمعة مباركة، ومما سهل عليهم الأمر شبكات وسائل التواصل الاجتماعي، فما يمر يوم جمعة إلا وعشرات الرسائل تأتي للمرء من كل حدب وصوب، تحمل رسائل مختلفة فيها من التهاني والتبريكات بجمعة مباركة ما لم يكن معروفا في القديم من الزمن.
من خصائص يوم الجمعة
ليس هناك أدنى شك أن يوم الجمعة من أفضل الأيام عند الله عز وجل، حيث يجب على المسلمين تعظيم هذا اليوم واغتنامه بالتقرب من الله تعالى، وعبادته، وقراءة سورة الكهف، والدعاء، والإكثار من الصلاة على النبي محمد ﷺ.
ويوم الجمعة يوم له طابع خاص وفضل مميز لما فيه من الخصائص التي جمعها ابن القيم في 33 خاصية نذكر منها:
- كان ﷺ يقرأ في فجره بسورتي “السجدة” و “الإنسان”.
- استحباب كثرة الصلاة على النبيﷺ فيه وفي ليلته.
- خيرة الله من أيام الأسبوع، وفيه صلاة الجمعة التي هي من أكثر فروض الإسلام تأكيدا.
- الأمر بالاغتسال في يومها، والتطيب فيه، والسواك فيه، وأنه يستحب أن يلبس فيه أحسن الثياب.
- التبكير للصلاة، وأن يشتغل بالصلاة والذكر والقراءة حتى يخرج الإمام.
- قراءة “الجمعة والمنافقين” أو “سبح والغاشية” في صلاة الجمعة، وقراءة الكهف في ليلة الجمعة ويومها.
- يوم تكفير السيئات، وفيه ساعة الإجابة، ويستحب أن يتفرغ فيه للعبادة.
- لما كان في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة، جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلا من القربان.
- للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام، والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور.
- يوم يتجلى الله عز وجل فيه لأوليائه المؤمنين في الجنة، وزيارتهم له، فيكون أقربهم منهم أقربهم من الإمام، وأسبقهم إلى الزيارة أسبقهم إلى الجمعة.
- يوم اجتماع الناس وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد، وهو اليوم الذي تفزع منه السماوات والأرض، والجبال والبحار، والخلائق كلها إلا الإنس والجن؛ مخافة قيام الساعة.
- يوم عيد متكرر في الأسبوع، لذا يكره إفراد يوم الجمعة بالصوم.
لكن السؤال هل هذه الخصائص التي اتسم بها يوم الجمعة دون غيره، مدعاة للتبارك بهذا اليوم لدرجة ارسال تهاني وتبريكات على شاكلة جمعة مباركة؟
الحقيقة أن مثل هذه العادات أو التهاني والتباريكات بيوم الجمعة من الأمور المحدثة التي لم تكن معروفة عند السلف الصالح، حتى أنه لا أثر لها في ميادين التراث الإسلامي ومشارف الثقافة الإسلامية. لكن هذا الأمر أصبح جزء من الحياة اليومية الأسبوعية للناس، بل أن البعض تمادى في إرسال هذه التهاني، فبرمج أجهزته الهاتفية واللوحية على هذه الرسائل في ساعة موحدة، ترسل للمضافين على قوائمه كل أُسبوع، فألزم بها نفسه أسبوعيا، وكأن الأمر من الضرورات الملحة التي لا ينبغي نسيانها أو السهو عنها.
بين المثوبة والإزعاج
لكن الأخطر والمؤثر في هذه العملية كلها، ليس فقط الإزعاج الأسبوعي المفرط الذي قد يتحمله أي شخص له حسابات على مواقع التواصل الإجتماعي أو إسمه مدرج في عشرات المجموعات عبر تطبيقات الهواتف النقالة، حيث يستلم عشرات – إن لم نقل مئات – الرسائل بمختلف أشكالها التي تحمل عبارة جمعة مباركة، مما يؤثر على سعة ومساحة هاتفه،كما يفرض عليه قضاء وقت طويل في التخلص من هذه الرسائل حتى لا يتعرض جهازه للتلف.
المؤثر في هذه العملية أن الأمر تطور بشكل لم يعد يقتصر على إرسال رسائل فقط سواء تعلق الأمر بعبارة جمعة مباركة أو عبارات أخرى مشابهة، بل أن المُرسِل يحثك على ضرورة إعادة الإِرسال إلى جهة أو جهات أخرى، حتى لا يضيع عنك الأجر والثواب، وأحيانا يحدد لك عدد الأشخاص الذين يجب أن تحول لهم عبارة جمعة مباركة أو غيرها، والويل لك إذا نقص منهم واحد، سيتم إشعارك أنك من المخطئين والساهين وغير المبالين بدينهم وعقيدتهم، ظنا منه أو منهم أن ذلك في سبيل البحث عن -كما يزعمون- عنْ الأجر والثواب من الله “وهُمْ يَحَسبُونَ أَنهمْ يحسِنُونَ صُنعًا” (الكهف- 104).
جمعة مباركة وأحد مبارك !!
وهناك أمر آخر، وهو أن في هذه التهنئة المحدثة تشبُه بالنصارى، فالنصارى يعتقدون في يوم الأحد، ويرسل بعضهم لبعض: “أحد مبارك” فجاءنا من قال: “جمعة مباركة” وما أكثر ردود الأفعال التي نحدثها كردة فعل لأفعال اليهود والنَّصارى!، وقد حذر النبي صَلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: “لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ” قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ “فَمَنْ” (متفق عليه).
وقد تحدث عن هذا الأمر عدد من العلماء حول التهنئة برسائل الجوال كل يوم جمعة وأن ذلك لم يعرف عن السلف بتهنئة بعضهم بعضا يوم الجمعة.
أصل التهنئة بعبارة “جمعة مباركة”
لم يرد في أمر التهنئة بيوم الجمعة عن النبي ﷺ حديث يصح، كل ما ورد حديث مكذوب لا يرقى للعمل به، فقد رُوي عن ابن عباس يرفعه “مَن لَقِيَ أَخَاه عِند الانصراف مِنَ الجمعة، فليقل: تَقبّل اللَّه منّا ومنك، فإنّها فريضة أَدَّيْتموها إلى ربكم”، والحديث حكم عليه علماء الحديث بوضعه، منهم الشوكاني في “الفوائد المجموعة”، والكتاني في “تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة”، والألباني في “سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة.
ولا أحد يدري من أين جاءت تهنئة جمعة مباركة وغيرها من التهاني والتبريكات، ومن أين جاء ترتيب الثواب والأجر على هذه الممارسات والأفعال، فلا يوجد أي دليل من الكتاب أو السنة أو حتى قول صادر من الصحابة رضوان الله عليهم، حتى يمكن الالتزام بمثل هذه التهاني.
لقد أدرك -ﷺ-، مئات الجمع، وأدرك أصحابه آلاف الجمع، وأدرك سلف هذه الأمة عشرات الآلاف من الجمع، لم يعرف عن واحد منهم أنه هنأ أو بارك في دخول يوم الجمعة، فهل نحن على هدي خير من هديهم؟ هل أخفى الله هذا الفضل عنهم، وحرمهم منه وادخره لنا؟ كما لم تنقل تهنئة الجمعة عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن السلف رحمهم الله تعالى.
الجواز أو المنع
على الرغم من ذلك، ولعل هذا الأمر هو الذي يجعل البعض متمسك بجمعة مباركة كتهنئة أسبوعية ولا يتردد في إرسالها، وهو أن البعض يميلون إلى البعد عن التحريم في مثل هذه الأمور، ويقولون أن الجواز هو الأليق والأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية وذلك لعدة أسباب نذكر ما يلي:
- أن التهنئة في الجمعة وفي غيرها من أمور العادات لا العبادات، وما كان من أمور العادات ففيه متسع كبير.
- أن الأصل في هذه العادات الإباحة، ويبقى الأمر على إباحته ما لم يرد في ذلك نص يحرم.
- أنه لم يرد نص يمنع من مثل هذه التهنئة، وما لم يرد نص يمنع فيبقى الأمر على أصله، والأصل في الأشياء الإباحة.
- أن هذا من التحية التي يتعارف عليها الناس، وما لم يكن في التحية مخالفة فلا بأس بها.
- أن المقصود من التهنئة التودد وإظهار الفرح والسرور، وليس هناك من مانع أن يسر العبد ويفرح بما وفقه الله من إتيان طاعة، والله يقول “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا” (يونس- 58).
- لا مانع من هذه التهنئة ما دامت مصحوبة بالتذكير بما في يوم الجمعة من سنن وآداب.
- قياس ذلك على التهنئة بيومي الفطر والأضحى، فحيث جازت التهنئة في العيد السنوي فلا مانع منها في العيد الأسبوعي، وقد نقلت التهنئة عن الصحابة والتابعين في عيدي الفطر والأضحى.
وترى هذه الفئة من الناس أن عبارة “جمعة مباركة ” تدخل ضمن عوائد الناس الطيبة، و أن الأصل في العوائد الحِلُّ لأنها من باب المعاملات بينهم، و من تذوقات الأخلاق و الأخلاق ذوق، و لو كان مكررة فليس هناك مانعا منها، خاصة و أنها لا يعتَقَدُ فيها أجرا مخصوصا، و مثلها مثل: صباح الخيرِ، أو مساء الخير، فلم يأت ما هو مُثبِتٌ لنقلها عن الأوائل، و التشديد فيها مما لا يتَّجهُ نحو قبول تام.