حنين بن إسحاق مؤرخ ومترجم وأحد مؤسسي الطب الإسلامي، يعد من كبار المترجمين في العصر العباسي. كان بارعا في لغة اليونان وفي الترجمة عموما حتى لُقب بـ “شيخ المترجمين” لإتقانه عدة لغات كالسريانية والفارسية واليونانية. كما يشهد له بدور بارز في إزدهار اللغة العربية كلغة للعلم وكونه علاَّمة وقته في الطِب، ومُعرّب كتاب “إِقليدس” فضلا عن تأليفه العديد من الكتب القية التي لا زالات تُدرّس ليومنا هذا.
يعد حنين بن إسحاق أهم مترجم إلى العربية على مر العصور، وكان يجيد – بالإضافة للعربية- السريانية والفارسية واليونانية. قام بترجمة أعمال غالينوس وأبقراط وأرسطو والعهد القديم من اليونانية، وقد حفظت بعض ترجماته أعمال جالينوس وغيره من الضياع.
لا يمكن لأي طالب علم أو باحث متخصص أن ينكر جهود حنين بن إسحاق الشاقة في الترجمة، خاصة في جلب صفوة الأعمال والمعرفة الطبية اليونانية القديمة إلى الشعوب العربية والسيريانية، فقد جلب هذا المترجم العبقري والمؤرخ الفذ أسلوبا عمليا جعل من اللغة العربية لغة علم عالمية، من خلال ترجمته جميع المصطلحات الأجنبية في كتابته بمنتهى الحرص والدقة وعدم الاكتفاء بكتابتها ونسخها بحروف عربية.
من هو شيخ المترجمين حنين بن إسحاق؟
هو أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي (عـُرف في اللاتينية بإسم Johannitius) ولد في الحيرة عام (194هـ = 810م)، لأب مسيحي يشتغل بالصيدلة والصيرفة. ويعتبر حنين بن إسحاق مؤرخ ومترجم من كبار المترجمين في العصر العباسي، وهو من الأطباء النقلة الذين نقلوا كتب الطب وغيره من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي وذكر الذين نقلوا لهم، كان عالما باللغات الأربع غريبها ومستعملها العربية والسريانية واليونانية والفارسية ونقله في غاية من الجودة.
وقد جاء في كتاب “سير أعلام النبلاء” عن حنين بن إسحاق أنه “العِباديُّ النصرانِي علاَّمة وقته في الطِب، وكان بارعا في لغة اليونان. عرّب كتاب إِقليدس وله تصاننيف عدة. مات في صفر سنة ستين ومائتين. وكان ابنه إسحاق بن حنين من كبار الأطباء أيضا”.
عرف عن حنين بن إسحاق أن ترجمته للكتب من الإغريقية إلى العربية لا تحتاج أبدا إلى تصحيح، ولذلك لإتقانه اللغتين بدرجة كبيرة حتى لقب “بشيخ المترجمين”، وهو أحد مؤسسي الطب الإسلامي.
عينه الخليفة العباسي المأمون مسؤولا عن بيت الحكمة وديوان الترجمة، وكان يعطيه بعض الذهب مقابل ما يترجمه إلى العربية من الكتب. ورحل كثيرا إلى فارس وبلاد الروم وعاصر تسعة من الخلفاء، وله العديد من الكتب والمترجمات التى تزيد عن المائة، وأصبح المرجع الأكبر للمترجمين جميعا ورئيسا لطب العيون، حتى أصبحت مقالاته العشرة في العين، أقدم مؤلف على الطريقة العلمية في طب العيون وأقدم كتاب مدرسي منتظم عرفه تاريخ البحث العلمى في أمراض العين.
حياته العلمية وعلاقته بالخلفاء
عاصر حنين ابن إسحاق، بعد مقتل المتوكل على الله (232 ـ 247هـ) خمسة من الخلفاء العباسيين وتوفي أيام الخليفة المعتمد. وقد حاول في بداية حياته العلمية دراسة الطب في بغداد، أولا، على يد يوحنا ابن ماسويه، فلم يوفق بسبب موقف ابن ماسويه السلبي منه. فقد كان ابن ماسويه متعصباً لأهل الأهواز وكان يقلل من شأن أهل الحيرة، وربما نَفَرَ ابن ماسويه من كثرة أسئلة حُنين فانتهره فغادر حُنين بغداد إلى الأهواز ثم إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم، مصمماً أن يُتقِنَ اللغة الإغريقية وأن ينهي دراساته الطبية النظرية، وأن يبرهن على جدارته وأنه أهل لأن يتعلم الطب. وبذلك غاب عن بغداد بضع سنين ثم عاد إليها وقد بَرَعَ باللغة اليونانية، وصار قادراً على الترجمة منها بكفاية متميزة.
وفي بغداد اتصل بأبي عيسى جبرائيل بن بختيشوع، وبعد ذلك رغب إلى يوسف بن إبراهيم أن يُطْلِعَ ابن ماسويه على أنموذجٍ من ترجماته، ففعل ذلك، وكانت هذه الترجمات من الدقة بحيث أن ابن ماسويه كاد أن لا يصدق ما يرى ويسمع. ثم بعدها سأل يوسف بن إبراهيم أن يُصْلِحَ الأمر بينه وبين حُنين ففعل. وعادا إلى التصافي والتعاون، حتى إن ابن ماسويه أهدى إلى حُنين أحد أهم كتبه وهو “الفصول”.
أهم مترجمي بغداد ورئيس أطبائها
وصلت شهرة حنين بن إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي طلب منه القيام بترجمة بعض النصوص اليونانية الهامة إلى العربية كما طلب إليه تصحيح بعض الترجمات القديمة وغدا حُنين من المقربين في بلاط المأمون وبلاط المعتصم بعد وفاة المأمون، وكان أيضاً على صداقة قوية بسلمويه بن بنان، رئيس أطباء بغداد، وكانت هذه الصداقة معيناً لحنين في بلاط الخلفاء العباسيين، فقد كان يحضر مجالس كبار العلماء الذين كانوا في بلاط الخليفة الواثق (227-232هـ).
استمر نجم حُنين في الصعود أيام المتوكل على الله (232 ـ 247هـ)، فصار من أهم مترجمي بغداد ورئيسا لأطبائها، إلا أنه عانى معاناة شديدة من مزاج الخليفة المتقلب، الذي نكبه مرتين: الأولى عندما رفض حُنين أن يصف للخليفة سُماً لقتل أحد أعدائه، وذلك بسبب رادع الدين لديه وأخلاق مهنة الطب عنده؛ والثانية عندما اتُهِمَ حُنين بالزندقة، ورضخ المتوكل لوشاية حُسَّاد حُنين من أطباء بغداد ودسائسهم؛ لكن المتوكل ما لبث أن أعاد الاعتبار لحنين واعتذر له، إلا أن مكتبة حُنين التي صُودِرَت في نكبته الثانية لم تعد إليه لأنها تفرقت وضاعت. وكانت هذه المكتبة تحتوي على أندر المخطوطات التي قام برحلاتٍ كثيرة وطويلة على مدى سنين يجمعها، من الجزيرة الفراتية والشام وفلسطين ومصر وبلاد الروم.
حنين بن إسحاق والطّب
خلال حياته كتب حنين بن إسحاق 116 كتابا في مختلف العلوم والطب، منها 21 كتابا في الطب. وقد شاركه في عمله في ترجمة الكتب الإغريقية ابنه إسحاق بن حنين، وكذلك ابن عمه “حبيش”، الذي كان يترجم الكتب السريانية إلى العربية ويلخصها، مما جعل العلماء والأطباء العرب في خلال مائة عام ملمون بجميع المعلومات في الطب الإغريقي، وأضافوا إليه الكثير بعد ممارستهم الطب وزادت خبرتهم في مجال تشخيص الأمراض التي لم تكن معروفة قبل ذلك الوقت. وأضافوا طرق علاج جديدة لمختلف الأمراض.
ومن أهم مؤلفاته كتاب “الأجلوكان في شفاء الأمراض”، وهو ملخص كتاب “جالينيوس”، بجانب خبرته في تشخيص وعلاج الأمراض. ويتكون الكتاب من جزئيين، وبه تفاصيل كاملة عن الحميات والأمراض الالتهابية المختلفة، بجانب وصف كامل لتحضير عدد 150 دواء.
تقنيات حنين بن إسحاق في الترجمة
كان حنين بن إسحاق على عكس المترجمين في الحقبة العباسية، فكان ضد ترجمة النص كلمة بكلمة، بل كان يحاول الحصول على المعنى من الموضوع والجمل بالكليه ثم يعيد كتابة المعلومات في مخطوطة أخرى باللغة السريانية أو العربية.
كما يجمع نصوصا من مجموعات مختلفة من كتب تدور حول موضوع ما، يعدلها ويحسّن معنى الموضوع، فساعدت طريقته خلال 100 سنة بجمع كل المعرفة اليونانية تقريبا في الطب.
كان تلامذته يبتعدون في ترجماتهم عن أسلوب النقل الحرفي وعن التقيد الألفاظ، ويحرصون على المعنى بأبسط الصور وأوضحها، لذلك نجحت ترجماتهم نجاحا ملفتا، وقد لاحظ حنين مدى افتقار اللغة العربية إلى المصطلحات العلمية والفلسفية التي تزخر بها اللغات الأخرى كاليونانية والسريانية والفارسية، فلجأ إلى أساليب عدة في وضع المصطلح العلمي بالعربية، كالاشتقاق والمجاز أو الافتراض. وحرص على اختيار المصطلحات الفنية المناسبة التي لم يتمكن التراجمة الأوائل من وضعها، وقام ُحنين بهذه المهمة وحيدا، وقد كتب المصطلحات التي استعملها دون الاستعانه بجهود اللغويين، فثبتها كل المؤلفين الذين جاؤوا بعده.
“أسئلة عن الطب” و”علم أمراض العيون”
مؤلفات حنين بن إسحاق كثيرة ولها دور رئيسي في تاريخ الطب، ومن المعروف أن حنين بن إسحاق لم يمتلك الوقت الكافي لممارسة التطبيب عمليا، في عيادة خاصة به.
وكتابه “أسئلة عن الطب” من الكتب المهمة في التدريس لطلبة الطب، ويعد دليلاً رائعاً للأطباء في بداية حياتهم المهنية. ومحتوياته في شكل أسئلة عن جوانب الطب ثم الإجابة عليها بطريقة واضحة كبداية لفهم المعلومات المعقدة بعد ذلك، أثناء الدراسة والممارسة.
ومن التخصصات الطبية التي أتقنها حنين بن إسحاق، علم أمراض العيون. ويعد كتابه بعنوان “عشرة وثائق في أمراض العيون”، مرجعا مهما في علم أمراض العيون. فهو يشرح فيه تكوين العين والأمراض التي تصيبها من التهابات وتقرحات بالقرنية وطرق علاجها بالدواء والعمليات الجراحية. ويبين هذا الكتاب خبرة حنين بن إسحاق ليس فقط كطبيب ماهر، ولكن أيضاً جراحاً بارعا.
مؤلفات وترجمات حنين بن إسحاق
لحنين بن إسحاق العديد من الكتب والترجمات، وقد نقل عنها المؤلفون أو اختصروها أو شرحوها، وأصبحت بفضل هذه الشروح مادة لتدريس طلبة الطب في مدارس دمشق، حتى القرن الثالث عشر الميلادي. ويوجد العديد من الكتب التي ألفها وترجمها حنين بن إسحاق تزيد على المائة كتاب.
ومن هذه المؤلفات والترجمات مايلي:
- تاريخ العالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم، إلى زمنه.
- الفصول الأبقراطية، في الطب.
- سلامان وأبسال: قصة مترجمة عن اليونانية.
- القول في حفظ الأسنان واستصلاحها.
- الضوء وحقيقته: رسالة كتبها بالسريانية وترجمها إلى العربية ابن هلال الصابئ.
- حلية البرء: كتاب مما ترجمه عن جالينوس.
- التشريح الكبير: عن جالينوس أيضاً.
- المدخل إلى علم الروحانيات.
- المسائل في الطب للمتعلمين.
- المسائل في العين: كتاب على طريقة سؤال وجواب.
- العشر مقالات في العين: وهو من أشهر كتبه الطبية.
- الأدوية المفردة.
- قوى الأغذية: ترجمه عن جالينوس.
- تدبير الأصحاء: عن جالينوس أيضاً.
وفاته
بعد حياة حافلة بالإنجازات العلمية، توفى حنين بن إسحاق عام 873م، تاركاً حجر الأساس في تأسيس الطب الإسلامي، الذي أصبح بعد ذلك أساساً لقيام النهضة الطبية الأوروبية الحديثة.