إن المذاهب الفقهية من مآثر هذه الأمة، من حيث الفكر والرؤية والاستنباط، وكانت من أعظم الرحمات لها، حتى يكون الناس في سعة من أمرهم.

وقد حاول البعض أن يصور العلاقة بين المذاهب الفقهية بأنها كانت متوترة، وأن التعصب لها كان هو السمة الغالبة والأصيلة.

فيأتي بشاذ الأقوال من المذاهب التي يقدح بعضها في بعض مثل: القول بمنع التزواج بين أصحاب المذاهب، أو ترك الصلاة خلف أئمة المذاهب الأخرى.

فقد جاء في الفتاوى البزازية أن الإمام السفكردري قال: “لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من شافعي المذهب، ولكن يتزوج منهم.

وسمعت عن بعض أئمة خوارزم أنه يتزوج من المعتزلي ولا يُزوج منهم، كما يتزوج من الكتابي ولا يزوج منهم، ولعله أخذ هذا التفصيل عن كلام أبي حفص السفكردري”([1]).

وقد سمى الشيخ محمد الغزالي هذا الكلام سفهًا([2]).

وقد كان الواقع على غير هذا التصوير للحالة المذهبية؛ فأصحاب المذاهب كان يتعلم بعضهم على يدي بعض، ولا يوجد إشكال في الزواج أو الصلاة أو ما شابه.

وقد تجلت مسألة عدم التعصب للمذهب في الشيخة المسندة الجليلة ست الوزراء الحنبلية التي كانت إحدى رواة مسند الإمام الشافعي، وتخرج على يدها كبار العلماء من شتى المذاهب الفقهية.

– الاسم والكنية : هي ست الوزراء بنت القاضي شمس الدين عمر ابن العلامة شيخ الحنابلة وجيه الدين أسعد بن المنجَّى بن أبي البركات بركات بن المؤمل التنوخية.

وتكنى بـ: أم محمد، وأم عبد الله.

وتدعى: وزيرة([3]).

– المولد : ولدت الشيخة وزيرة بدمشق في الربع الأول من القرن السابع الهجري، وعلى وجه التحديد أول سنة أربع وعشرين وستمائة (624هـ)، وهذا ما أجمع عليه المؤرخون إلا الشيخ شمس الدين الجزري في تاريخه الذي حدد سنة مولدها بسنة ثلاث وعشرين وستمائة([4])

– أسرتها : هي سليلة بيت عريق في العلم والرئاسة؛ فأبوها هو القاضي شمس الدين أبو الفتح التنوخي عمر بن أسعد بن المُنَجّى بن أبي البركات، الفقيه الحنبلي.

ولد بحران إذ كان أبوه على قضائها في الدولة النورية، ونشأ بها وتفقه على والده، ثم قدم دمشق، وأفتى ودرس، وقد وليَ قضاء حرّان مدةً، وكان صدرًا نبيلاً وافر الجلالة بصيرًا بالأحكام.

وآخر من حدَّث عنه بنته المعمَّرة المسندة سِتُّ الوزراء.

توفي في ثامن عشر ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وستمائة وله أربع وثمانون سنة.

أما أخوها فهو الإمام الفقيه، الصالح الزاهد، عماد الدين أحمد التنوخي، الحنبلي.

سمع مع أخته -وهي أكبر منه- “صحيح البخاري”، ولم يرو.

توفي سنة (666 هـ) في جمادى الآخرة، وكانت جنازته حفلة كبيرة، وعمره حوالي أربعين سنة.

وهو واقف حلقة العماد برواق الحنابلة([5]).

– مشايخها : لم يذكر المؤرخون لست الوزراء من العلماء الذين تتلمذت على أيديهم إلا أباها الذي سمعت منه جزءين، وشيخها الشيخ الإمام الفقيه الكبير مسند الشام سراج الدين الحسين بن أبي بكر المبارك الحنبلي المشهور بـ: ابن الزبيدي، مدرس مدرسة الوزير عون الدين بن هبيرة.

وقد وُلد سنة خمس أو سنة ست وأربعين وخمسمائة.

روى ببغداد، ودمشق، وحلب، وكان إمامًا، ديّنًا، خيرًا، متواضعًا، صادقًا.

وقد حدثت عنه ست الوزراء بنت المنجَّى مع خلق كثير.

فقد أخذت عنه صحيح البخاري وحدثت به، وبمسند الشافعي في دمشق، ثم بمصر سنة 705هـ عدة مرات.

وهي آخر من حدث بالمسند بالسماع عاليًا.

توفي ابن الزبيدي في الثالث والعشرين من صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة([6]).

– تلاميذها : لقد تخرج على يد الشيخة ست الوزراء الكثير والكثير من العلماء الأثبات، وذوي القوة والسلطان الذين حكموا البلاد والعباد، وقد تم استدعاؤها إلى مقر الحكم في مصر في قلعة الجبل لتعقد مجالس السماع هناك.

فهذا السلطان الملك الناصر أبو الفتح محمد بن الملك المنصور قلاوون الصالحي سمع من ست الوزراء.

وهذا الحافظ الإمام العلامة ذو الفنون أقضى القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن عبد اللطيف بن يحيى بن علي بن تمام السبكي الشافعي الذي ناب في الحكم.

وعمر بن أرغون الذي ولي نيابة الكرك وصفد، وحفظ قلعة الجبل بالقاهرة في واقعة يلبغا.

والقاضي بهاء الدين بن ريان ناظر الجيش.

وجمال الدين بن ريان الذي تولى نظر الجيش، ونظر الكرك ووكالة بيت المال.

وكذا القاضي محب الدين كاتب الأمير بدر الدين جنكلي.

والقاضي شهاب الدين بن فضل الله إمام أهل الآداب، أحد رجالات الزمان كتابة وترسلاً.

وابن الزين الخضر بن محمد كاتب الإنشاء بالديار المصرية.

وأحمد بن خضر الشافعي أحد موقعي الدست.

وأشهر تلامذتها الحافظ الذهبي الذي قرأ عليها مسند الشافعي.

وعلي بن محمد بن إبراهيم خازن الكتب صاحب تفسير “التأويل لمعالم التنزيل”.

وكان من بين تلامذتها المالكية والشافعية والأحناف إلى جانب الحنابلة، كلهم جنبًا إلى جنب([7]).

– مذهبها الفقهي : ست الوزراء من أسرة عريقة في المذهب الحنبلي، وكان المؤرخون ينسبونها إلى المذهب الحنبلي فيقولون: ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجى التنوخية الحنبلية([8]).

– رحلة زمانها : من شدة علم ست الوزراء وتفردها طلبها الناس، فصاروا يقصدونها للسماع، أو يطلبونها للذهاب إليهم والتحديث في ديارهم.

قال ابن تغري بردي: “صارت رحلة زمانها، ورحل إليها من الأقطار”([9]).

وقال الصفدي: “روت الكثير، وطُلبت إلى مصر”([10]).

وقال ابن حجر: “حدثت بدمشق ومصر”([11]).

وقال اليافعي: “حدثت بالصحيح ومسند الشافعي بدمشق ومصر مرات”([12]).

– زواجها : قال الصفدي: “تزوجت بأربعة، رابعهم نجم الدين عبد الرحمن بن الشيرازي، وكان لها ثلاث بنات”([13]).

ولا أعرف هل تعدد زيجات وزيرة جاء بسبب موت أزواجها عنها، أم كان لعلة الطلاق؟

ولكن قد رأيت أن المشاهير والشخصيات العامة ينجحون في حياتهم العامة، ويكثر فيهم الفشل في حياتهم الزوجية، ولكن ليس معنى هذا أني جازم بفشل الحياة الزوجية للشيخة ست الوزراء.

– أقوال العلماء فيها : قد جرت أقلام المؤرخين بمدح ست الوزراء والثناء عليها، فوصفها تلميذها الذهبي بأنها: “مسندة الوقت”، ثم قال: “وكانت على خير”([14]).

وقال الصفدي: “ست الوزراء الشيخة الصالحة المعمرة مسندة الوقت… وكانت ثابتة، طويلة الروح على طول المواعيد”([15]).

وفي موضع آخر يقول: “ست الوزراء الشيخة الصالحة المعمرة مسندة الوقت…

كانت مسندة العصر، وخريدة الرواية في القصر، رزقت الحظوة الباهره، وطالت بذاك النجوم الزاهره، فحدثت بالصحيح مرات، وفازت من ذاك بالصلات والمبرات، وكانت ثابتة على طول التسميع، مديدة الروح على الشروط وما يطرأ عليها من التفريع؛ إلا أنها انثالت عليها الجوائز، ولم تكن كمن عداها من العجائز”([16]).

– وفاتها : يذكر الذهبي أن مسندة الوقت ست الوزراء ماتت فجأة ليلة الخميس ثامن عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة، ووافقه ابن حجر وابن العماد واليافعي والمقريزي([17])، إلا أن الصفدي ذكر أن وفاتها في سنة سبع عشرة وسبعمائة، ووافقه ابن تغري بردي([18]).

وقد دفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون([19]).

والظاهر أن تأريخ الذهبي أضبط؛ إذ إنه تلميذها المباشر، ومن أعرف الناس بها.


([1]) الفتاوى البزازية، (2/6).

([2]) دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، ص(70).

([3]) انظر: تاريخ الإسلام، (13/787)، والعبر في خبر من غبر، (4/44)، والدرر الكامنة، (2/263، 6/174)، وتبصير المنتبه بتحرير المشتبه، (4/1471)، والوافي بالوفيات، (15/73)، والمنهل الصافي والمستوفي بعد الوافي، (5/382)، والنجوم الزاهرة، (9/237)، وشذرات الذهب، (8/73)، والبداية والنهاية، (14/90)، والسلوك لمعرفة دول الملوك، (2/521)، ومرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، (4/192)، وأعيان العصر وأعوان النصر، (2/398)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، (32/247)، وتاج العروس، (14/361، 40/34)، وتوضيح المشتبه في ضبط أسماء الرواة وأنسابهم وألقابهم وكناهم، (9/103)، والأعلام، (3/78).

([4]) انظر: تاريخ الإسلام، (13/787)، والدرر الكامنة، (2/263)، والوافي بالوفيات، (15/73)، وأعيان العصر، (2/399)، والسلوك لمعرفة دول الملوك، (2/521)، والنجوم الزاهرة، (9/237)، والمنهل الصافي، (5/382)، ونهاية الأرب، (32/247)، والأعلام، (3/78).

([5]) انظر: تاريخ الإسلام، (14/390، و15/127)، وسير أعلام النبلاء، (23/80-81)، والعبر في خبر من غبر، (3/241-242)، والوافي بالوفيات، (22/265).

([6]) انظر: سير أعلام النبلاء، (22/357-359)، والعبر، (4/44)، والدرر الكامنة، (2/263)، وتبصير المنتبه، (4/1471)، والوافي بالوفيات، (15/73)، والمنهل الصافي، (5/382)، وشذرات الذهب، (8/73-74)، ومرآة الجنان، (4/192)، والبداية والنهاية، (14/90)، والنجوم الزاهرة، (9/237)، وأعيان العصر، (2/398-399)، وتاج العروس، (14/361، 40/34)، والأعلام، (3/78).

([7]) انظر: العبر، (4/124، 133، 196)، وذيل تذكرة الحفاظ، ص(43، 47، 54، 59-60)، والدرر الكامنة، (1/149، 2/242، 3/51، 4/116، 181، 185، 260، 5/206)، وإنباء الغمر، (1/147، 2/180)، والوافي بالوفيات، (5/192، 8/163-164، 12/24، 228، 13/211، 15/226-227، 17/132-133)، و طبقات الشافعية الكبرى، (10/370)، والمنهل الصافي، (2/356، 5/382-383)، وأعيان العصر، (1/175، 2/398-399)، وشذرات الذهب، (8/233-235، 302)، ونهاية الأرب، (32/247)، والوفيات لابن رافع، (2/191)، والرد الوافر، ص(50)، والطبقات السنية في تراجم الحنفية، (1/285، 2/146-147، 4/172).

([8]) انظر: الدرر الكامنة، (2/263)، والوافي بالوفيات، (15/73)، والمنهل الصافي، (5/382)، و أعيان العصر وأعوان النصر، (2/398)، والأعلام، (3/78).

([9]) النجوم الزاهرة، (9/237).

([10]) الوافي بالوفيات، (15/73).

([11]) الدرر الكامنة، (2/263).

([12]) مرآة الجنان، (4/192).

([13]) الوافي بالوفيات، (15/73).

([14]) العبر، (4/44).

([15]) الوافي بالوفيات، (15/73-74) باختصار.

([16]) أعيان العصر، (2/398) باختصار.

([17]) انظر: العبر، (4/44)، والدرر الكامنة، (2/263)، وشذرات الذهب، (8/73-74)، والسلوك، (2/521)، ومرآة الجنان، (4/192).

([18]) انظر: الوافي بالوفيات، (15/73)، والمنهل الصافي، (5/382-383).

([19]) البداية والنهاية، (14/90).