يسأل بعضهم عن سر الإعجاز في بيان القرآن..؟! فما دامت ألفاظه وتراكيبه من هذا اللسان، فأين الإعجاز.. ؟!
والجواب عن ذلك بسهولة ويسر .. هو أن القرآن عندما يعبر عن معنى بأسلوب معين لإيصال ذلك المعنى.. فإن عمالقة البيان عاجزون عن التعبير عن ذلك المعنى نفسه مع الإيفاء بحقه، بأسلوب أو لفظ غير ما استعمله القرآن.
نعم قد يستعملون تراكيب للدلالة على ذلك المعنى من اللسان، لكنهم لا يستطيعون الإيفاء بحق ذلك المعنى تماما كما قصده القرآن، مع جمال اللفظ، وحسن السبك، ورونق التعبير، وجمال التصوير ..
وهذا ما لمسه بلغاء العرب قديما من أصحاب اللسان، فأرخوا له العنان، وجرهم من ألسنتهم إلى الإيمان.
فمثلا عندما نقف عند قوله تعالى: (وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ) الأنعام 100
فإن المتأمل في تركيب النظم، أنه جاء على هذا النحو العجيب من تقديم شبه الجملة الجار والمجرور (للهِ) وتقديم المفعول به الثاني ( شركاءَ) وتأخير المفعول به الأول (الجنَّ)، وكان حق التركيب بالترتيب أن يكون ( وجعلوا الجنَّ شركاءَ للهِ) ، فعل + فاعل +مفعول به أول + مفعول به ثان + شبه الجملة.
فلو عبر الناس بهذا التركيب، على هذا النحو من الترتيب المتوقع في اللسان العربي، هل سيؤدون المعنى نفسه المقصود في البيان القرآني؟!
يستحيل ذلك ولا يكون!
ذلك أن قولهم: وجعلوا الجنَّ شركاءَ للهِ. على هذا النحو من التركيب والترتيب؛ سيولِّد معنى موهما، وهو أن مشركي العرب اتخذوا الجن شركاءَ لله. وأن الاعتراض منصب على جعلهم الجن دون سائر الكائنات!
فلو جعلوا ما هو أعظم من الجن كالملائكة مثلا، لكان مسكوتا عنه وهان الأمر.
وهنا يختل ميزان البيان، ويتولد الوهم في الكلام، وهو غير مراد قطعا من مقصود نظم القرآن ..
فلم يكن لهم بد من نظم القرآن فحسب، على هذا النحو البديع الرفيع في النظم والترتيب والبيان، وهنا مكمن الإعجاز بالتحدي، أن يأتوا ببيان يؤدي مقصود القرآن على وجه الدقة، بتعبير مختلف لما ورد في بيان القرآن.
فقوله تعالى: ( وجعلوا للهِ شركاءَ الجنَّ) انصب فيه الاعتراض واتجه إلى كونهم جعلوا لله شريكا، وحقه ألا يكون له شريك مطلقا لا من الجن ولا من غيرهم.
فقدّم ما حقه التأخير وهو شبه الجملة (لله)؛ لأنها موضع العناية والاهتمام وهي نواة الجملة، وكوكبها التي تدور حوله مجرة الكلمات!
لله! …جعلوا لله! فالاعتراض ابتداء منصب على كونهم جعلوا لله!
ثم قدم المفعول الثاني على الأول فقال:شركاء! فانصب الاعتراض في المرتبة الثانية على جعلهم الشركاء عموما..
ثم أخّر ذكر الجن؛ لأنها ليست موضع العناية والاهتمام، وإنما ورد ذكرها من واقع الحال..
هذا هو الإعجاز في النظم المحكم المعبر عن المعنى المقصود بدقة وإحكام.
ولا مناص، لا مناص مطلقا، لبلغاء الكلام، وأمراء البيان، وأساطين الفصاحة، أن يأتوا بنظم مغاير معبر عن المعنى المقصود بدقة نظم القرآن.
وأمعن النظر وأنعم الفكر في قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة النحل 112]
إذ يستوقف هذا البيان المعجز أساطين اللغة، ويشد انتباهم إلى ما فيه من دقة النظم والإحكام؛ بما هو مغاير للمتوقع في مألوف الكلام!
ذلك أنَّ الإذاقة يلائمها الطعم للجوع والخوف؛ فيرد الكلام على نحو: ( فَأَذَاقَهَا ٱللهُ طعمَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
وأنَّ اللباس يلائمه لفظ الكساء؛ فيرد التعبير على نحو: ( فَكساهَا ٱللهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
لكن البيان المحكم المدهش لأرباب البلاغة ؛ خرج عن المتوقع فكان ( فَأَذَاقَهَا ٱللهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
وذلك ليعرج َ البيان الإلهي المعجز، فوق طاقات البشر البيانية في الدقة والإحكام! إذ استعمل الإذاقة للدلالة على إحساس الألم إحساسا مكينا، كتمكن ذوق الطعام في فم ذائقه.
واستعمل اللباس لبيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس؛ فجمع بذلك بين تمكن الإحساس بالألم وعمومه.
ولا يمكن بحال تأدية هذا المعنى بغير ما استعمله بيان القرآن، فلو قيل ( فأذاقها الله طعم الجوع والخوف)
أو ( فكساها الله لباس الجوع والخوف) لخفت بذلك بريق المعنى وانحسر نبع البيان وغار !
وهنا تنحني ناصية البلاغة، وتتوارى ربات الخدور من الكلمات في معاجم اللغة، في عجز واضح أن تحل كلمة، أو تغاير ترتيبها، عما هو في واسطة عقد هذا البيان، المحبوك المسبوك، الفائق في سبكه قلائد العقيان.
ولك أن تنظر بعين البصيرة، وتتأمل بذائقة البيان أرقى بيان بشري عربي قبل نزول القرآن، وهو الشعر الجاهلي الذي ذاع صيته في أمة البيان، التي تفردت من بين أمم الأرض بأن أقامت للكلمة سوقا، إذ كانت المفاخرات الشعرية، والمبارزات البيانية صورة بارزة واضحة لهذا السمو البياني، في اللسان العربي، فبلغوا من اللغة مبلغا عظيما، أصابوا بها الشوارد والأوابد، وأبانوا بها عن كل سانحة وبارحة؛ حتى إذا أخذت لغتهم زخرفها وازيَّنت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها؛ نزل القرآن ببيانه المعجز الآسر الذي طوّح بقواهم البيانية، وانحنت نواصيهم أمام ناصية بيانه، وجرهم من ألسنتهم وزمام البيان، إلى محاريب الإيمان!
وعندما نتحدث عن الإعجاز الذي انماز به البيان القرآني على غيره من بيان البشر هنا، وعلو كعبه في أسلوبه وصوره البيانية على سائر البيان العربي؛ فإن أدل شواهد الإعجاز على ذلك هي الموازنة بين صور المعاني، و كيف عبر الشعراء في بيانهم البشري عن معنى من المعاني، وكيف ورد تعبير القرآن عن المعنى نفسه؛ لنقف على سر التميز؛ و نستبصر آفاق العروج البياني في التعبير والإحكام.
وإنه ليسحرك البيان العالي في قوته وبراعة نظمه وسبكه؛ وينماز عن غيره ببراعته وقوة تأثيره وعمله في النفوس.
ويمكننا الوقوف أمام موازنة دقيقة لصور المعاني في ضروب الشعر وكيف ورد المعنى نفسه في القرآن؛ لنستبصر علو كعب البيان القرآني وأنه خارج عن حول الطاقة البشري، وإليك أيها القارئ المتذوق دلائل نتلمسها على هذا البرهان.
وذلك من خلال أرقى بيان عربي، وهو الشعر الجاهلي السابق لتنزل القرآن، فإليك البيان.
يقول تأبط شرًا:
ويومٍ كيومِ العيكَتَيْنِ وعَطْفَةٍ
عطفتُ وقد مسَّ القلوبَ الحناجرُ
ضع هذا بجوار السبيكة البيانية مما ورد في القرآن ( وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ )
فأمامنا صورتان لمعنى واحد في مقام واحد، وهو مقام الخوف الشديد في القتال (مسَّ القلوبَ الحناجرُ) و ( وَبَلَغَتِ ٱلۡقُلُوبُ ٱلۡحَنَاجِرَ )
وتأمل فوارق التعبير والصورة بين البيانين؛ لتقف بنفسك وتحلق بفكرك في معارج البيان القرآني، وعلو كعبه على البيان البشري، ذلك أن قول الشاعر: (مسَّ) استعمل فعل المس وهو دون ( بلغ) في الدلالة؛ على شدة الخوف والفزع؛ لأن (بلغ) فيه دلالة على بلوغ المنتهى في الفعل والقصد، وهو كذلك إذ بلغت القلوب أقصى ارتفاعها فزعا ووجلا وتحركت من مكانها، اضطرابا ووجيبا وحركة، حتى انتهت إلى الحناجر في ارتفاعها، وهو ما لا نجده في قول الشاعر من دلالة المس في هذا المقام.
ثم إن الشاعر قلب الصورة الحركية، إذ جعل الحناجر هي التي تنكمش باتجاه القلوب، فجعلها فاعل المس، والقلوب ثابتة في مكانها لاتتحرك، فضعفت الصورة الحركية هنا، عما هي في البيان القرآني، الذي جعل القلوب هي المتحركة بخفقانها واضطرابها حال شدة الفزع والخوف، وهذا أنسب؛ لأنها مكان المشاعر والخوف، وهو ما يجده الإنسان على وجه الحقيقة عند شدة الفزع من اضطراب قلبه، وشدة خفقانه، وانتفاخه؛ حتى يعسر عليه التنفس والكلام، وهو ما لايكون في الصورة المقلوبة لدى الشاعر من انكماش الحناجر حتى تمس القلوب، وهي صورة تناسب حال شدة الظمأ منها إلى تصوير الفزع!
فظهر لنا علو كعب البيان القرآني ودقة إحكامه في الصورة الموافقة لمقتضى الحال، وذاك لعمري ماليس في طاقة البشر من قدرات البيان!