مقولة (قلب المؤمن دليله) ليست بحديثٍ نبويّ، وإنَّما هي تجري مجرى الأمثال، وهي تُفهم عند الناس على عِدَّة معان، بعضها صحيحٌ والآخر سقيم. علماء النفس قد أطلقوا على هذه الظاهرة اسم (الحدْس)، وعرَّفوه بأنَّه: معرفة الإنسان لشيءٍ دون أن يعرف كيف عرفه، والواقع أنَّ الحدس أو الإلهام القلبيَّ لا ينشأ من العدم، وإنَّما يحدث نتيجة استخدام المعارف والخبرات السابقة وتجميعها.
ثانيا: إنَّ القلب الذي نُعَرِّفه اليوم بأنَّه عضوٌ في الجهة اليسرى من الصدر، ووظيفته ضخُّ الدم إلى جميع أجزاء الجسم، هو معنى جديدٌ مبنيٌّ على علم التشريح وعلم وظائف الأعضاء التي ارتكز عليها علم الطبِّ الحديث، أمَّا القدامى فإنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ القلب منبع الروح وموطن العقل.
ففي اللغة: قلبُ الشيء هو وسطه ولُبُّه و خالصه، وكلمة القلب مُشتَقَّةٌ من (قَلَبَ) أي حوَّل الشيء عن وجهه، فهو منقلب ومتقلِّب، وسُمِّي القلب قلباً لتقلُّبه من ظرفٍ إلى آخر، بين سعادةٍ وحزن، وإيمانٍ وشكّ.
وقد استعمل العرب القدامى كلمة العقل للدلالة على القلب؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّ القلب هو مركز العقل، وبهذا كانت كلمة العقل مرادفة لكلمة القلب.
إنَّ عبارة (قلب المؤمن دليله) تُفهَم عند الناس على عِدَّة معان، بعضها صحيحٌ والآخر سقيم.
ومن الأفهام السقيمة والمغلوطة لهذه العبارة: أن يعتمد الإنسان على ما يُقذَف في روعه من أفكارٍ وتصوُّراتٍ دون أن تكون مبنيَّةً على أمورٍ منطقيَّة، ويتصرَّف في أمور حياته، ويأخذ بناءً عليها قرارات، ويخطو خطوات.
أمَّا المعنى الصحيح الذي يجب أن تُفهَم عليه، فهو أنَّ قلب المؤمِن الحقّ يدلُّه على الخير والشرّ، والصواب والخطأ، فيجعله يُقبِل على كلِّ ما هُو حَسَن، ويبتعد عن كلِّ ما هو قبيح.
وتفسير ذلك أنَّ قلب المؤمن يكون مُعلَّقاً بالله عزَّ وجلّ، فهو في معيَّته سبحانه وتعالى وفي رحابه، يهتدي بهدى الله، ويسير بنور الله، مصداقاً لقول النبيِّ ﷺ حكايةً عن ربِّه عزَّ وجلّ: “وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليَّ ممَّا افترضتُّه عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، وإن استعاذني لأعيذنَّه”رواه البخاري.
وعن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله ﷺ فقال: “جئت تسأل عن البِرِّ؟” قلت: نعم. فقال: “استفتِ قلبك، البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب. والإثم ما حاك في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك”رواه الإمام أحمد في مسنده بسندٍ حسن.
لذا فالقلب الذي يكون دليلاً لصاحبه هو قلبُ مَن مثل وابصة في إيمانه وتقواه لله عزَّ وجلّ.
من هذا نعلم أنَّ ليس كلُّ ما نشعر به في قلوبنا يكون صحيحاً إلا إذا شفت تلك القلوب وطهرت وصحَّت.
ولكن ما صفات قلب المؤمن الذي يكون بحقٍّ دليله؟
إنَّ قلب المؤمن هو الذي يتلقَّى أوامر الله بمنتهى التسليم والرضا، ويسير بالجسم على حسب أوامر الله بكامل القوَّة والحيويَّة والجديَّة، يقول الله عزَّ وجلّ: “يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليم”، وفي الحديث: “ألا إنَّ في الجسد مُضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب”متَّفقٌ عليه.
ومن هنا يتبيَّن أنَّ القلب هو مناط نظر الله، وأنَّ من أصلح قلبه في الدنيا هو الذي سيفوز في الآخرة، فكلُّ أمرٍ أو تكليفٍ من قِبَل الله عزَّ وجلَّ للإنسان إنَّما هو غذاءٌ ودواءٌ للقلب، وبإهمال أيِّ تكليفٍ فإنَّه بذلك يكون هناك نقصٌ في سلامة القلب.
ويقول العلماء : لا يصل القلب إلى أن يكون مؤمناً خالص الإيمان إلاَّ إذا وصل إلى معرفة الله معرفةً صافية، والإنسان بقدر معرفته بالله يزداد خضوعاً لأحكامه، وتطبيقاً لها، والتزاماً بها، وأخذاً بقوَّةٍ لها.
وينبغي لنا هنا من وقفة، فكثيرٌ من الملتزمين يكرِّسون جهدهم في الإكثار من العبادات دون الالتفات لتحصيل القلب، أو ينشغلون بالدعوة كذلك دون الالتفات لتحصيل القلب، بينما نجد الصحب الكرام يعلِّموننا الحقيقة قائلين: “كنا نؤتَى الإيمان قبل أن نؤتَى القرآن”.
إنَّ غاية القلب التي تصل به إلى السلامة هي التعرُّف على الربّ، وهي ليست معرفة كتب العقيدة التي تملأ المكتبات الآن، والتي شُغِل بعضها بعلم الكلام دون أن يصبَّ تركيزه على حياة القلب بهذه العقيدة، فهي ليست معرفة العقل بوجود الإله، ولكن بأن يعرف قلبك الإله صفةً تِلْوَ صفة، فيحبُّه قلبك، ويخاف منه، وحينها يستسلم للتكاليف استسلام المحبِّ تارة، واستسلام الخائف تارة، وحينها فقط يكون القلب هو القلب السليم، الذي عرف الله وامتثل لتكاليفه، ولكنَّنا اليوم قد نجد من يؤدُّون التكاليف إمَّا لأنَّهم يجب عليهم أن يؤدُّوها، أو من باب أنَّهم اعتادوا ذلك، ولكن القليل هم الذين يؤدُّون العبادة؛ لأنَّها طريقهم إلى القلب السليم، ولأنَّها الطريق لمعرفة الله.
إنَّنا كثيراً ما نتحدَّث عن إقدام الصحابة، وتضحيات الصحابة، وأفعال الصحابة، ولكنَّنا ننسى تلك القلوب التي كانت سبباً في هذا كلِّه، وما قصة “يا سارية الجبل” عنَّا ببعيد، فالفاروق عمر رضي الله عنه لم يكن في المعركة، إلا أنَّ الله يريه موضع سارية، فيحذِّره، فيسمع سارية صوته وهو في ساحة القتال، سبحان الله، قائد المعركة لم يتنبه لذلك، وتنبَّه للجبل مَن لا يرى الساحة التي تُدار فيها المعركة، ولا شكَّ أنَّ سارية أيضاً سليم القلب، حيث يصله صوت عمر رضي الله عنه.
والقلب إذا صفا سما بصاحبه، فإذا به يستعذب القرآن، ويستمتع بالعبادة، ويتلذَّذ بالطاعة، ويكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، أمَّا إذا ارتكس حتى يكون كالكوز مُجَخِّياً فإنَّه آنذاك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرِب من هواه، وهو حينئذٍ يهوي بصاحبه، فلا يستعذب طاعة، ولا يعرف للخشوع معنى، ولا يتلذَّذ بصلاةٍ ولا قرآن، وما لم تتدارك رحمة الله صاحبه يهلك.
وقد ذكر الإمام ابن القيِّم رحمه الله علاماتٍ لصحَّة القلب، منها : أنَّه يدفع صاحبه للتوبة والإنابة، ولا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يفتر عن عبادته، وإذا فاتته عبادة، وجد ألماً أشدَّ من فوات ماله، وأنَّه يجد لذةً في العبادة أشدَّ من لذة الطعام والشراب، وأنَّه إذا دخل في الصلاة ذهب همُّه وغمُّه في الدنيا.
وذكر أيضاً علاماتٍ لمرض القلب وخبثه، وعدم صلاحيَّته للاحتكام إليه، منها: أنَّه لا تؤلمه الذنوب والمنكرات، وأنَّه يجد لذةً في المعصية وراحةً بعدها، وأن يقدِّم الأدنى على الأعلى، فيهتمَّ بتوافه الأمور على حساب شؤون الأُمَّة، وأنَّه يكره الحقَّ ويضيق صدره به، والوحشة مع الصالحين والأُنس بالعصاة، والخوف من غير الله، وأنَّه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً ولا يتأثَّر بموعظة.
وبهذه المقاييس نستطيع أن نقيس مدى صفاء قلوبنا وشفافيتها، وصلاحيَّتها لننظر من خلالها للأمور، أيِّ أمور.
ومن وسائل إصلاح القلوب السقيمة والوصول بها إلى الشفافية والصحة: التوبة النصوح، وقراءة القرآن بتفكُّر، وذكر الله تعالى، والصيام، وقيام الليل .
فتحي عبد الستار5>