فتى أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، فكان من سابقي الأنصار، شهد العقبة الثانية وكان ذكيا فطنا. وصفه النبي ﷺ بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، واختاره قاضياً وداعياً إلى اليمن. فما قصة معاذ بن جبل هذا الفتى الأنصاري الذي نشأ في كنف الخزرج؟ وكيف صار من كبار علماء الصحابة وهو في ريعان شبابه؟
اسمه ونسبه
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عديّ بن كعب بن عمرو بن أُدَيّ بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جُشَم بن الخزرج، الأنصاريّ، الخزرجيّ، ثم الجشميّ.
كُنّي بأبي عبدالرحمن وهو أحد السبعين الَّذِينَ شهدوا العقبة من الأنصار، وشهد بدرا وأحدا، والمشاهد كلها مع رَسُول الله ﷺ وآخى رَسُول اللَّهِ ﷺ بينه وبين عبدالله بن مسعود.
النشأة والشباب المبكر
كان معاذ بن جبل شاباً جميل الطلعة سمح الخلق. وصفه كعب بن مالك فقال: شاب جميل سمح من خير شباب قومه لا يُسأل شيئا إلا أعطاه حتى أدان دينا أغلق ماله.
وقيل إنه لما أسلم رضي الله عنه كان يكسر أصنام بني سلمة هو وثعلبة بن عنمة، وعبد الله بن أنيس.
يصفه أبو إدريس الخولانيّ فيقول: كان أبيض وضيء الوجه، برّاق الثنايا، أكحل العينين.
وكان ابن مسعود يسمّيه: الأمَّة القانت، أردفه النبيُّ ﷺ وراءه فكان رديفه، كما شيَّعه رسول الله ماشيًا في مخرجه إلى اليمن وهو راكب، وتوفِّي النبي ﷺ وهو عامله على اليمن، ولم يعقّب.
وروي إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر.
أسلم معاذ في ريعان شبابه، ولم يكن إذ ذاك يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فكان من السابقين إلى الإيمان من الأنصار.
مع النبي ﷺ
شهد معاذ بن جبل بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان له شرف المشاركة في بدر وهو ابن واحد وعشرين سنة. وآخى النبي ﷺ بينه وبين عبد الله بن مسعود. لم يتخلف معاذ عن مشهد من المشاهد، وغدا من أقرب الصحابة إليه ﷺ.
يروي معاذ بن جبل ذلك الموقف الجليل مع رسول الله ﷺ حينما أخذ بيده فقال: يا معاذ! والله إني لأحبك، أوصيك يا معاذ لا تدَعَنَّ في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. يروي البخاري في “الأدب المفرد” أن معاذ بن جبل رضي الله عنه ردَّ على النبي ﷺ فقال: وأنا والله أحبك.
عن عبدالله بن عمرو، قال: قال رسول الله ﷺ: خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة.
العالم الفقيه معاذ بن جبل
كان معاذ رضي الله عنه وعاءً ملئ فقهاً وعلما، حتى قال فيه النبي ﷺ: “أعلمهم بالحلال والحرام معاذ”. ولي معاذ الإفتاء على عهد النبي ﷺ، وروى عنه عدد من كبار الصحابة منهم: عمر، وابنه عبدالله، وأبو قتادة، وعبدالله ابن عمر، وأنس بن مالك وغيرهم.
ومن التابعين: جنادة بن أبي أمية، وعبد الرحمن بن غنم، وأبو إدريس الخولاني، وأبو مسلم الخولاني وغيرهم.
ومما يروى عنه أن رجلا جاءه ومعه أصحابه يسلمون عليه ويودعونه ويوصونه فقال له معاذ: إني موصيك بأمرين إن حفظتهما حفظت ما قال لك أصحابك : إنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج فآثر نصيبك من الآخرة على نصيبك من الدنيا فإنه يأتي بك أو يمر بك على نصيبك من الدنيا فيتنظمه لك انتظاما فيزول معك أينما زلت.
قاضي اليمن
يحكي جابر بن عبد الله فيقول: كان معاذ بن جبل، من أحسن الناس وجها، وأحسنه خلقا، وأسمحه كفا، فادان دينا كثيرا، فلزمه غرماؤه حتّى تغيب عنهم أياما فِي بيته، فطلب غرماؤه من رسول الله ﷺ أن يحضره، فأرسل إليه، فحضر ومعه غرماؤه، فقالوا: يا رسول الله خذلنا حقنا، فقال رَسُول الله ﷺ: «رحم اللَّه من تصدق عَلَيْهِ»، فتصدق عَلَيْهِ ناس، وأبى آخرون، فخلعه رَسُول الله ﷺ من ماله، فاقتسموه بينهم، فأصابهم خمسة أسباع حقوقهم، فقال لَهُم رَسُول اللَّهِ ﷺ: ليس لكم إلا ذلك.
فأرسله رسول الله ﷺ إلى اليمن، وقال: «لعل الله يجبرك، ويؤدي عنك دينك».
فأرسله رسول الله ﷺ إلى اليمن قاضياً ومعلماً، وقال لأهلها: (إني بعثت لكم خير أهلي). وحين ودّعهﷺ دعا له فقال: «حفظك اللَّه من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، ومن فوقك ومن تحتك، وأدرأ عنك شرور الإنس والجنّ» . وبقي معاذ في اليمن حتى توفي رسول الله ﷺ.
عبادته ومناجاته
كان معاذ رضي الله عنه كثير الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل يروي ثور بن يزيد، فيقول: كان معاذ إذا تهجد من الليل دعا: اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي الجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدي ترده إلي يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد.
وفاته في طاعون عمواس
يروي عمرو بن قيس: إن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال: انظروا، أصبحنا؟ فقيل: لم نصبح، حَتَّى أتي فقيل: أصبحنا، فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إِلَى النار، مرحبا بالموت، مرحبا زائر حبيب جاء عَلَى فاقة، اللَّهُمَّ، تعلم أني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
وقال الحسن: لما حضر معاذا الموت جعل يبكي، فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله ﷺ وأنت، وأنت؟ فقال: «ما أبكي جزعا من الموت إن حل بي، ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن إنما هي القبضتان، فلا أدري من أي القبضتين أنا».
توفي رضي الله عنه في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة، وقيل: سبع عشرة، وكان عمره ثمانيا وثلاثين سنة.
وبهذا انطوت صفحة بيضاء من صفحات التاريخ الإسلامي، لصحابي جليل عاش عمرا قصيرا لكنه ملأ الدنيا علماً وعملاً وجهاداً، حتى استحق قول النبيّ ﷺ: «معاذ أمام العلماء يوم القيامة برتوة أو رتوتين».