ثقافة ما بعد الأخلاق : داخل هذه الكلمة المركبة، تتداخل معانٍ من مجالات معرفية فلسفية، وأخرى ثقافية ترسم أسلوب الحياة وفلسفتها، فالمجال المعرفي هو مَدلولها كما يتعيَّن في المعاجم الأخلاقية ودراسات فلسفة القيم؛ أما المجال الثقافي فهو الأقرب إلى أسلوب الحياة المتعيّن، وسنشير إليه بعد أن نستكمل المدلول المُعجمي. “فما بعد الأخلاق في مدلولها الاصطلاحي تتَّجه نحو التَّمايُز عن الأخْلاق المعيارية، فهي لا تهتم بما هو “أحسن” بل بمدلول كلمة “الأحسن”، والكلمات الأخرى من نفس الصِّنف: مثل “عدل”، “صدق”… إلخ.

هذه الانشغالات لا يمكن -ولا تستطيع- أن تكون لسانية محضة؛ لأنَّ التَّحليل الدِّلالي للمصطلحات الأخلاقية الأساسية يؤدي حتمًا إلى فحص المشاكل التي ليست كذلك، إنَّه يتعلَّق بأسئلة مفاهيمية، إبستمولوجية، دلالية، نفسية، أنطولوجية (مبحث الوجود)، وتُعدُّ الأكثر مناقشة وتداولًا، وهي:

● هل يمكننا استمداد أحكامنا الأخلاقية من أحكام واقعية؟

● كيف نبُرِّر أحكامنا الأخلاقية؟ ما هي مدلولات كلمة الخير؟

● هل بياناتنا الأخلاقية صحيحة أم خاطئة؟

● هل تحتوي أحكامنا الأخلاقية -بالضَّرورة- على دافع للعمل؟

● هل خصائص القيمة الأخلاقية موجودة في رؤوسنا فقط؟ [1].

إن أسئلة ما بعد الأخلاق تتضمَّنُ داخلها ارتيابًا من الأخلاق المعيارية التي ينحصر دورها في تعيين قيمة الأشياء والأفعال انطلاقًا من مقولات: الخير والشر، أو المحمود والمذموم، إنها -أي ما بعد الأخلاق- لغة خَلْفَ اللُّغة الأخْلاقية، ونزولٌ إلى أعماق المبادئ الأولى لإنارتها ومُكَاشَفتها، إن أسئلة ما بعد الأخلاق حول الأخلاق هي من نوع من الأسئلة التحتية التي تستخرج شروطَ إمكان الأخلاق ومعايير تبرير أوامرها. كما أنَّ من سماتها المعرفية: تعدد المقاربات التحليلية في تناول المسألة الأخلاقية، مثل المقاربة المنطقية، والمقاربة النَّفسية، والمقاربة الأخلاقية أيضًا، وتتنزَّل علميًّا ضمن حقول البحث التي تتقاطع فيها التَّخصُّصات وتتداخل فيها أدوات التَّحليل والمعرفة؛ وفي نصٍّ آخر للكاتبة الفرنسية المتخصّصة في الأخلاق “مونيك كانتو سبيربير”، يَظهر لنا التَّقابل أيضًا بينها وبين الأخلاق المعيارية normative éthique، مُشيرة إلى “أن التَّمايز بين ما بعد الأخلاق المعيارية” قد عرف حُضوره في الفلسفة الأنجلوفونية (التّحليلية)، وبظاهرة لافتة للنّظر…

أما من جهة المفهوم، فما بعد الأخلاق أو الميتا-إتيقا هي دراسة معنى المصطلحات الأخلاقية والعلاقة المنطقية بين الأحكام الأخلاقية وأشكال أخرى من الأحكام، والوضع الإبستمولوجي للأحكام الأخلاقية (هل يمكننا الحديث عن معرفة بشأنها؟ هل هي تعبير عن شعور؟)، وكذا عملية تبريرها والوضع الميتافيزيقي للخصائص الأخلاقية بغض النَّظر عن أيِّ تصور إتيقي خاص. إن الذين يُقسِّمون الأخلاق بهذا الشَّكل يرون أنه يتيَّعن على الفلسفة الأخلاقية أن تهتم أساسًا إن لم يكن حصرًا بالميتا-إتيقا[2]. وواضح -إذن- المنحى التَّحليلي والتَّفسيري للصفات الأخلاقية، إنها كفٌّ عن الإصغاء إلى أوامر القيمة، والنظر إليها بوصفها علامات تُحيل إلى وضعيات نفسية وجسدية معيَّنة، أو ملفوظات خالية من المعنى. وقد كان لها -بوصفها جزءًا من أجزاء المعرفة- دور في إفراغ الحياة الطيِّبة من التَّوجيهات الأخلاقية، ويمكن القول عنها إنها تهيئة معرفية لا تُقَدَّرُ لثقافة ما بعد الأخلاق أو المجتمعات ما بعد التَّخليقية السائدة.

وإذ تعيَّن معنى ما بعد الأخلاق التحليلي، فإننا نكتفي به ونمضي إلى صرف المعنى نحو المضمون الثقافي لما بعد الأخلاق أو ما بعد الواجب أو الحرية الأخلاقية أو العتبة الثانية من العلمنة الأخلاقية. إن سمات ما بعد الأخلاق هي ضدُّ سمات العقلنة الأخلاقية أو ثقافة الواجب التي عرفت صياغتها الفلسفية مع “إيمانويل كانط“، ويظهر هذا الإقرار في كون الأخلاق الجديدة أصبحت تُغلِّبُ سعادتها الخاصَّة على التَّفاعل مع الأوامر القطعية واللَّامشروطة، وتُدْمِنُ المُتَع وتُثابر على مشتهيات النفس بدلًا من الكفِّ عن الممنوعات، وتقدم الإغراء على الالتزام، إنها ثقافة تآكلت فيها ثقافة الواجب المُطلق والمصالح المتعالية لصالح الفردانية والسَّعادة الخاصة والحقوق الذاتية، والأكثر أنها أصبحت أسلوبًا للحياة، أي خطابًا.

أما عن استتباعات ثقافة ما بعد الأخلاق، فتظهر في نجاح “العصر الفرداني الجديد” في تحقيق إنجاز إصابة المثل الأعلى الغيري بالضُّمور في وعي الناس ذاته، ونَزْع التأثيم عن الأنانية، وإضفاء المشروعية على الحق في العيش من أجل النفس، وإذا كانت وجة نظر الأخلاق المثالية أنَّه ليس للأنا حقوق ولكن واجبات فقط، فيبدو أنَّ ثقافة ما بعد التَّخليقية تعمل في الاتجاه المعاكس، إنّها تُنمِّي مشروعية الحُقوق الذاتية… إن روح التضحية والمثل الأعلى لتفضيل الآخر فَقَدَا مصداقيتهما: مزيدٌ من حقوق العيش لأجل أنفسنا، لا إلزام بِنذْر النفس للآخرين”[3]. إنَّه أسلوب حياة يتَّبع مطالب النفس ويبذُل جَهده لأجل تلبية دوافعها تفنُّنًا في الملذات النَّفسية، وإقبالًا دائمًا على الرَّفاهية والاستهلاك والاستمتاع. إن إنسان ما بعد الأخلاق قد مسح بإسفنجة الحقوق الذاتية حقوقَ الغير والواجبات تجَاهَهُم، لا واجب إلا تجاه النفس ولا معنى لحركة إلَّا من أجل الحقوق الذاتية، إنه أسلوب حياة بمعزل عن الخير والشر، وبمعزل عن المعاني الكبرى مثل: المثال الأخلاقي، والحق للجميع، والفضاء العام. إن ثقافة ما بعد الأخلاق هي نِسبة العالم إلى الذات، ورؤية إلى العالم عِمادها جودة الحياة والرفاهية والنَّرجسية الممتعة، أما الإلزام من الخارج -والمُفرط في إلزاميته- فهو شيء مناف للذوق الجمالي الذَّاتي.


[1] Monique canto-sperber, Ruwen Ogien ,

[2] Monique canto-sperber,

[3] ليبوفتسكي، جيل، أفول الواجب،