(وأوفُوا الكَيْلَ إذا كِلْتُمْ وزِنُوا بالقِسطاسِ المُستقيم ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلاً) الإسراء 35.

نكتتان:

– إذا كلتم.

–  وأحسنُ تأويلاً.

لم يقل: وزِنُوا بالقسطاس المستقيم إذا وزنتم.

القسطاس:

–  الميزان.

–  العدل (القسط).

أحسنُ تأويلاً:

– أحسنُ مآلاً.

خيرٌ وأحسنُ تأويلاً:

خيرٌ لكم حالاً وأحسنُ لكم مآلاً.

أي: خيرٌ لكم في الدنيا وأحسنُ لكم في الآخرة.

إذا كِلتم:

أضيف إلى تفسيرها:

– إذا كنتم ممن يكيلون فتعلّموا أحكام عملكم (الكيل)، والحكم هنا هو الإيفاء (تعلّموا إيفاء الكيل إذا كنتم ممن يكيلون).

–  إذا تعلّمتم الحكم نظريًا فطبّقوه عمليًا (طبقوا في الواقع ما تعلمتموه في النظرية). تعلّموا العلم والعمل معًا. كثيرون يعلمون ولا يعملون.

–  وإذا لم توفوا الكيل فلا تكيلوا أنتم، دعوا الكيل للأمناء في الكيل. ويترتب على هذا مراقبة من يتولى الكيل، وعزله إذا لم يوفه، وتعيين آخر أمين بدلاً منه.  والله أعلم بمراده.

أقوال المفسري

البغوي: « وأحسنُ تأويلاً: أي: عاقبة».

الرازي: «اعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل. والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز منه. وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء. وقد يكون الإنسان غافلاً لا يهتدي إلى حفظ ماله. فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيًا في إبقاء الأموال على المُلاك، ومنعًا من تلطيخ النفس بسرقة ذلك المقدار الحقير (…).

ثم قال تعالى: (ذلكَ خيرٌ): أي: الإيفاء بالتمام والكمال خير من التطفيف القليل، من حيث إن الإنسان يتخلص بواسطته عن الذكر القبيح في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة.

(وأحسنُ تأويلاً): والتأويل ما يؤول إليه الأمر كما قال في موضع آخر:  (وخيرٌ مَرَدًا) مريم 76 (وخيرٌ عُقبًا ) الكهف 44 (وخيرٌ أمَلاً) الكهف 46. وإنما حكم تعالى بأن عاقبة هذا الأمر أحسن العواقب، لأنه في الدنيا إذا اشتهر بالاحتراز عن التطفيف عوّل الناس عليه، ومالت القلوب إليه، وحصل له الاستغناء في الزمان القليل. وكم قد رأينا من الفقراء لما اشتهروا عند الناس بالأمانة، والاحتراز عن الخيانة، أقبلت القلوب عليهم، وحصلت الأموال الكثيرة لهم في المدة القليلة! وأما في الآخرة فالفوز بالثواب العظيم والخلاص من العقاب الأليم».

أقول: قوله: (إبقاء الأموال) لعل صوابه: (إيفاء الأموال).

القرطبي: « وأحسنُ تأويلاً: أي عاقبة». 

ابن كثير: «(ذلك خيرٌ): أي لكم في معاشكم ومعادكم، ولهذا قال: (وأحسنُ تأويلاً) أي مآلا ومنقلبًا في آخرتكم.

 
قال سعيد عن قتادة: (ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلاً)، أي: خيرٌ ثوابًا وعاقبةً. وأما ابن عباس كان يقول: يا معشر الموالي إنكم وُلّيتم أمرين، بهما هلك الناس قبلكم: هذا المكيال وهذا الميزان! قال: وذكر لنا أن نبي الله كان يقول: لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك». 

أبو حيان: «التقييد بقوله: (إذا كلتم) أي: وقتَ كيلِكم على سبيل التأكيد، وأن لا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان ما، ثم يوفيه بعد، فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل. 

(ذلكَ خيرٌ) أي: الإيفاء والوزن؛ لأن فيه تطييب النفوس بالاتّسام بالعدل والإيصال للحق.

( وأحسنُ تأويلاً): أي: عاقبة، إذ لا يبقى على الموفي والوازن تبعة، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو من المآل وهو المرجع كما قال: (خيرٌ مَردًا)، (خيرٌ عُقبًا)، (خيرٌ أمَلاً). وإنما كانت عاقبته أحسن، لأنه اشتهر بالاحتراز عن التطفيف، فعوّل عليه في المعاملات ومالت القلوب إليه».

أقول:

– فسّر: (إذا كلتم) بوقت كيلكم بلا تأخير، وفيه اقتراب من مبدأ المعجل خير من المؤجل! لكن أبا حيان لم يبين لماذا يكيل بنقصان ثم يوفيه بعد ذلك.

–  نقل عن الرازي ولم يُشِر إليه!

الشوكاني:  «أتمُّوا الكيل ولا تُخسروه وقتَ كيلِكم للناس.

(خيرٌ): أي خير لكم عند الله وعند الناس، يتأثر عنه حسن الذكر وترغيب الناس في معاملة من كان كذلك. 

(وأحسنُ تأويلاً) أي: أحسنُ عاقبة. مِن آل: إذا رجع». 

ابن عاشور: «زيادة الظرف في هذه الآية وهو (إذا كِلتم) دون ذكر نظيره في آية الأنعام، لما في (إذا) من معنى الشرطية، فتقتضي تجدد ما تضمنه الأمر في جميع أزمنة حصول مضمون شرط (إذا) الظرفية الشرطية، للتنبيه على عدم التسامح في شيء من نقص الكيل عند كل مباشرة له. ذلك أن هذا خطاب للمسلمين بخلاف آية (الأنعام)، فإن مضمونها تعريض بالمشركين في سوء شرائعهم، وكانت هنا أجدر بالمبالغة في التشريع (…).

و(خير) تفضيل، أي خير من التطفيف، أي خير لكم، فضل على التطفيف تفضيلاً لخير الآخرة الحاصل من ثواب الامتثال على خير الدنيا الحاصل من الاستفضال الذي يطففه المطفف.

وهو أيضًا أفضل منه في الدنيا؛ لأن انشراح النفس الحاصل للمرء من الإنصاف في الحق أفضل من الارتياح الحاصل له باستفضال شيء من المال.


والتأويل: تفعيل من الأول، وهو الرجوع. يقال: أوله إذا أرجعه، أي أحسن إرجاعًا، إذا أرجعه المتأمل إلى مراجعه وعواقبه؛ لأن الإنسان عند التأمل يكون كالمنتقل بماهية الشيء في مواقع الأحوال من الصلاح والفساد. فإذا كانت الماهية صلاحًا استقر رأي المتأمل على ما فيها من الصلاح، فكأنه أرجعها بعد التطواف إلى مكانها الصالح بها وهو مقرها، فأطلق على استقرار الرأي بعد الأمل اسم التأويل على طريقة التمثيل، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة. 

ومعنى كون ذلك أحسن تأويلاً: أن النظر إذا جال في منافع التطفيف في الكيل والوزن وفي مَضارّ الإيفاء فيهما، ثم عاد فجال في مَضارّ التطفيف ومنافع الإيفاء، استقر وآل إلى أن الإيفاء بهما خير من التطفيف؛ لأن التطفيف يعود على المطفف باقتناء جزء قليل من المال ويُكسبه الكراهية، والذمّ عند الناس، وغضب الله، والسحت في ماله مع احتقار نفسه في نفسه، والإيفاء بعكس ذلك يُكسبه ميل الناس إليه، ورضى الله عنه، ورضاه عن نفسه والبركة في ماله».

أقول: كلام ابن عاشور في: (إذا كلتم)، وفي المقارنة بين الآيتين، كلام متكلّف. ذلك أن ما قاله يتحقق بوجود العبارة أو بعدم وجودها!