صوت شجي يسري مع نسمات ليل المدينة، يشق سكونه ويأسر قلوب السامعين وتخشع له أرواحهم. إنه صوت أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، الذي توقف لصوته رسول الله ﷺ مستمعاً، متأثراً، مقراً بجماله، حتى قال له: “لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود”. صوت أمهات المؤمنين يقمن في الليل للاستماع إليه، وجعل أهل المدينة يعلمون بقدوم الأشعريين من سماع أصواتهم بالقرآن قبل أن يروهم.
النسب والمولد
هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حرب بن عامر بن الأشعر، يكنّى بأبي موسى الأشعري. الإمام الكبير، صاحب رسول الله ﷺ. أُمُّه ظَبْيَة بنت وهب، أسلمت وماتت بالمدينة.
كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قصيرا، أثط، خفيف الجسم. وهو من قوم أحبهم رسول الله ﷺ وقال فيهم لمّا نزلت الآية: { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } (المائدة: 54) “هم قومك يا أبا موسى”، وأومأ رسول الله ﷺ بيده إليه رضي الله عنه.
رحلة الإيمان والهجرة
أسلم أبو موسى رضي الله عنه في مكة قديماً، ثم عاد إلى قومه داعياً. وحين سمع بهجرة النبي ﷺ، خرج مع أخويه أبي بردة وأبي رهم وبضع وخمسين رجلاً من قومه مهاجرين. فقذفت بهم الرياح إلى الحبشة، فالتقوا هناك بجعفر بن أبي طالب وأصحابه. وعندما قدموا على النبي ﷺ في خيبر، كانت قلوبهم تنبض بالشوق، وألسنتهم تردد: “غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه”.
فقيل إنهم أول من أحدث المصافحة في الإسلام من شدة فرحهم بلقيا النبي ﷺ.
المزمار الرباني
حبى الله تعالى أبا موسى صوتاً ندياً في تلاوة القرآن، حتى شهد له النبي ﷺ فقال: “لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود”. مرّ النبي ﷺ وعائشة به ذات يوم وهو يقرأ في بيته، فاستمعا لقراءته، فلما أصبح، أخبره النبي ﷺ فقال: “لو أعلم بمكانك لحبرته لك تحبيرا”.
وقال أبو عثمان النهدي: “ما سمعت مزمارا ولا طنبورا ولا صنجا أحسن من صوت أبي موسى الأشعري; إن كان ليصلي بنا فنود أنه قرأ البقرة، من حسن صوته”.
فضائل ومناقب أبو موسى الأشعري
كان أبو موسى ممن دعا لهم النبي ﷺ فقال: “اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما. وقال في فضل قومه: “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة؛ جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم”.
قال عنه الحسن البصري: “ما أتى البصرة راكبٌ خير لأهلها من أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقال عنه النبي ﷺ: “إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار”.
علمه وفقهه
قال الشعبي: “يُؤخذ العلم عن ستة: عمر بن الخطاب، وعبدالله بن مسعود، وزيد بن ثابت، يشبه علمهم بعضه بعضًا، وكان علي بن أبي طالب، وأُبَيُّ بن كعب، وأبو موسى الأشعري، يشبه علمهم بعضه بعضًا، يقتبس بعضهم من بعض”.
روى أبو موسى ثلاث مئة وستين حديثًا، وله في “الصحيحين” تسعة وأربعون حديثًا، وتفرَّد البخاري بأربعة أحاديث، ومسلم بخمسة عشر حديثًا. وهو معدود فيمن قرأ على النبي ﷺ. أقرأ أهل البصرة، وفقههم في الدين. قرأ عليه حطان بن عبد الله الرقاشي، وأبو رجاء العطاردي.
وسمع أبو إسحاق الأسود بن يزيد يقول: “لم أر بالكوفة أعلم من علي وأبي موسى”. وقال مسروق: “كان القضاء في الصحابة إلى ستة: عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي، وزيد، وأبي موسى”.
القاضي الحكيم
روى ابنُ سعدٍ عن قتادة أن أبا موسى قال: “لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتى يتبين له الحق، كما يتبين الليل من النهار”، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فقال: “صدق أبو موسى”.
قال أبو كنانة: “جمع أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الذين قرءوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاث مائة، فعظَّم القرآنَ، وقال: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار”.
عبادته وزهده
كان أبو موسى صواما زاهدا عابدا، جمع بين العلم والعمل والجهاد وسلامة الصدر.
قال مسروق بن الأجدع: “خرجنا مع أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في غزاة، فقضينا الليل في بستان; فقام أبو موسى يصلي، وقرأ قراءة حسنة، وقال: اللهُمَّ، أنت المؤمن تحب المؤمن، وأنت المهيمن تحب المهيمن، وأنت السلام تحب السلام”.
الوالي القائد
كان أبو موسى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عامل النبي ﷺ على زبيد وعَدن وغيرهما من اليمن وسواحلها، ولما مات النبي ﷺ قدم المدينة شهد فتوح الشام ووفاة أبي عبيدة، واستعمله عمر على إمرة البصرة بعد أن عزل المغيرة وهو الذي افتتح الأهواز وأصبهان، وأقره عثمان على عمله قليلًا، ثم صرفه، واستعمل عبدالله بن عامر، فسكن الكوفة وتفقَّه به أهلها حتى استعمله عثمان عليهم بعد عزل سعيد بن العاص.
وفاته
توفي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه بالكوفة، وقيل: مات بمكة سنة اثنتين وأربعين، وقيل: سنة أربع وأربعين وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وروى موسى الطلحي إن أبا موسى اجتهد قبل موته اجتهادًا شديدًا، فقيل له: “لو أمسكت ورفقت بنفسك؟” قال: “إن الخيل إذا أرسلت فقاربت رأس مجراها، أخرجت جميع ما عندها، والذي بقي من أجلي أقل من ذلك”.
هكذا عاش أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، صوتاً ندياً عذباً شنّف الأسماع ورويت منه القلوب. وورعاً زاهداً مخلصا ترك ميراثاً عظيماً يضيء دروب السالكين. فرضي الله عنه وأرضاه، وجعله قدوة لنا في العلم والعمل.