زخرت السنة بعدد من الأحاديث التي تتحدث عن مستقبل الإسلام والأمة الإسلامية، وقلما يخلو كتاب من كتب السنة مما يُعرف علميا بأحاديث (آخر الزمان) أو ما يُسمَّى (أحاديث الفتن) و(أشراط الساعة).
هذه الأحاديث في مجملها تنقسم إلى نوعين :
الأول : نوع يبشر بظهور الإسلام على الأديان كلها، وسيادة المسلمين على من سواهم، ويعِد بمستقبل مشرق للإسلام، كأحاديث نزول عيسى بن مريم، وظهور المهدي ، وكأحاديث بلوغ الإسلام ما بلغ الليلُ والنهار،ودخوله كل بيت من مدَر كان أو وَبَر.
الثاني: نوع يصف حال الأمة الإسلامية أنها تزحف نحو المستقبل من سيئ إلى أسوأ ، ومن كبوة إلى غيرها من الكبوات، وأن خيرية هذه الأمة وعافيتها في أولها فقط، وأنه لا يأتي على الناس زمان إلا وهو شر مما قبله، وهكذا حتى يلقى الناس ربهم، وأن الإسلام سيعود غريبا كما بدأ غريبا.
أي فائدة في ذكر فترات المستقبل المظلمة؟
وقد لا يحتاج إيراد النوع الأول إلى كبير تأمل؛ لأن التبشير بمستقبل واعد، من شأنه أن يخلق الأمل في النفوس، ويحدوها إلى العمل الجاد للوصول إلى تحقيق هذه البشارة، والعيش في كنفها، والتنعم بوارف ظلالها.
لكن إيراد النوع الثاني، يثير مجموعة من الاستفهامات حول سبب إيراده؟ أي نفع للأمة عساها تنتفع به حينما يوصف لها مستقبلها على هذا الوجه المعتم؟
أي أمل يبقى بين جوانح الصحابة حينما يسمعون رسول الله ﷺ يقول لعمار بن ياسر، يوم حفر الخندق: “بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية”. [1] فيعلمون أن هؤلاء الصحابة الذين يتقاسمون اليوم طعامهم، ويؤثر بعضهم بعضا المال على حبه وقلته، يعلمون أنه سيأتي عليهم يوم ويبغي بعضهم على بعض، ويقتتلون ويكون من بين القتلى : عمار بن ياسر؟
وانظر إلى هذا الحديث الذي رواه أحمد، وفيه، قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: ” نعم، أيما أهل بيت من العرب، أو العجم أراد الله بهم خيرا، أدخل عليهم الإسلام ” قال: ثم مه؟ قال: ” ثم تقع الفتن كأنها الظلل ” قال: كلا والله إن شاء الله قال: ” بلى والذي نفسي بيده، ثم تعودون فيها أساود[2] صبا، يضرب بعضكم رقاب بعض” [3]
فالرجل يسأل : ماذا سيكون بعد عز المسلمين بالإسلام، فيجيبه النبي ﷺ بأنه ستحدث فتن كثيفة، تكون في كثافتها مثل الجبال والسحب، فيتعوذ الصحابي من هذا المستقبل المخيف، فيقول : كلا، والله إن شاء الله، فيؤكد النبي ﷺ حدوث ذلك، ثم يصف حال الموجودين وقتئذ بأنه يفتك بعضهم ببعض كفتك الحيّات بفريستها بدون رحمة ولا شفقة![4]
فوائد هذا النوع من النبوءات
الجواب : أن في ذكر هذا النوع من الأحاديث عدة فوائد منها :
أولا : إشباع رغبة الإنسان في معرفة ما غاب عنه، وهذا ما يعبر عنه “علم النفس” بحب الاستطلاع Curiosity، ويقولون في تعريفه: “ميل يدفع الفرد إلى المعرفة، وخاصة معرفة الجديد من الأمور والأشياء، وإلى استطلاع كل غريب، ومعرفة المزيد عنه بالبحث والتقصي، واكتشاف المجهول، وفض غموضه.
ويكمن حب الاستطلاع وراء ثراء المعرفة البشرية ونموها، وتقدم الاختراعات والصناعات، ويميل البعض إلى اعتبار حب الاستطلاع “غريزة” ودافعًا فطريًّا موروثًّا تستثيره المواقف والأشياء الغامضة أو المجهولة.[5]
وفي ذلك يقول ابن خلدون: اعلم أن من خواص النفوس البشرية التشوق إلى عواقب أمورهم، وعلم ما يحدث لهم من حياة و موت و خير و شر، سيما الحوادث العامة كمعرفة ما بقي من الدنيا، ومعرفة مدد الدول أو تفاوتها، التطلع إلى هذا طبيعة مجبولون عليها، و لذلك تجد الكثير من الناس يتشوقون إلى الوقوف على ذلك في المنام و الأخبار، من الكهان لمن قصدهم بمثل ذلك من الملوك و السوقة معروفة.[6]
ثانيًا: تأهيل النفس للمعايشة مع هذه الأحداث باتزان نفسي، حتى لا تستبد بها عند معاينتها دون تأهيل، فإن الصحابة لو لم يسمعوا شيئا عن هذا المستقبل المخيف، لربما طاش عقلهم عند معاينته، إنكارا لحدوثه، كما حدث لعمر بن الخطاب يوم موت رسول الله ﷺ، فإنه لما سمع بموته ﷺ ، قام فقال : والله ما مات رسول الله!
وقال حاكيا عن نفسه فيما بعدُ: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك[7] ، أي ما يقع في نفسي إلا أنه لا يموت، وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، فجاء أبو بكر، فكشف عن رسول الله – ﷺ-، فقبله، وقال: بأبي أنت طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده، لا يذيقنك الله الموتتين أبدا ، ثم خرج أبو بكر، فقال: أيها الحالف، على رسلك ، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر، وأثنى عليه، وقال: ألا، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] ، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].[8]
ثالثا : للإفادة من هذه الأحداث، فبمثلها استطاع الصحابة معرفة الفئة الباغية ممن بُغي عليها. وقد انتفع أبو ذر بذلك، فحينما سئل عن سبب اعتزاله الفتنة قال : أوصاني خليلي أبو القاسم ﷺ: ” إن أدركت شيئا من هذه الفتن، فاكسر حد سيفك، ثم اقعد في بيتك”[9].
رابعا : أن يتجرد الإنسان وهو يعمل للإسلام من انتظار أي مغنم، ولو كان هذا المغنم الانتصار الدائم للإسلام.فالعاملون للإسلام عليهم أن يؤدوا واجبهم، ثم يذهبوا، وواجبهم أن يختاروا الله، وأن يؤثروا العقيدة على الحياة، وأن يستعلوا بالإيمان على الفتنة وأن يصدقوا الله في العمل والنية. ثم يفعل الله بهم وبأعدائهم، كما يفعل بدعوته ودينه ما يشاء. وينتهي بهم إلى نهاية من النهايات التي عرفها تاريخ الإيمان، إما تمكين في الأرض، وإما غيرها كأصحاب الأخدود.
إنهم أجراء عند الله. أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا، عملوا وقبضوا الأجر المعلوم! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير! وهم يقبضون الدفعة الأولى طمأنينة في القلب، ورفعة في الشعور، وجمالاً في التصور، وانطلاقاً من الأوهاق والجواذب، وتحرراً من الخوف والقلق، في كل حال من الأحوال.
وهم يقبضون الدفعة الثانية ثناء في الملأ الأعلى وذكراً وكرامة، وهم بعد في هذه الأرض الصغيرة.ثم هم يقبضون الدفعة الكبرى في الآخرة حساباً يسيراً ونعيماً كبيراً.ومع كل دفعة ما هو أكبر منها جميعاً. رضوان الله، وانهم مختارون ليكونوا أداة لقدره وستاراً لقدرته، يفعل بهم في الأرض ما يشاء.[10]
[1] – رواه مسلم (2915)
[2] – جمع أسود، وهو أخبث الحيات وأعظمها.
[3] – مسند أحمد ط الرسالة (25/ 260)
[4] – الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (1/ 116)
[5] – انظر: “موسوعة علم النفس” د/ فرج طه، ص (297 – 298). نقلا عن فقه أشراط الساعة ، إسماعيل المقدم (ص: 24)
[6] – مقدمة ابن خلدون (448)
[7] – يعني عدم موته ﷺ حينئذ.
[8] – رواه البخاري (6/17)
[9] – مسند أحمد ط الرسالة (29/ 502)
[10] – معالم في الطريق، ص 182