عند الحديث عن أدب السفراء في الحضارة الإسلامية، نجد أن الحضارة الإسلامية قد عرفت السفارة منذ العهد النبوي، وتوالت السفارات المُكلفة بمهام محددة، أبرزها إقرار السلم بين المتحاربين، وصياغة المعاهدات بين الدول، والاتفاق على التحالفات السياسية والعسكرية، غير أن الخلافة الأموية لم تعرف السفارة إلا قليلا، نظرا لانشغالها أغلب الوقت بالفتوح والغزو، ومنها سفارة الإمبراطور البيزنطي “قسطنطين الرابع” إلى دمشق عام (58هـ) عقب محاولة المسلمين لفتح القسطنطينية، إذ كانت العلاقات مع الإمبراطورية البيزنطية قائمة على الصراع.
مع الخلافة العباسية أخذت الأمور تتبدل، نسبيا، إذ هدأت حركة الفتوح، وأصبح للسفارة موضعها في العلاقة بين الدولة الإسلامية وما يجاورها من إمارات وممالك، وكان من أهمها رحلة “أحمد بن فضلان” إلى ملك بلغار نهر الفلوجا أو ما كان يسمى وقتها مملكة الصقالبة عام (310هـ=922م).
سفارة “ابن فضلان” و”الغزال”
في العام (309هـ=921م) خرجت من بغداد بعثة دبلوماسية ذات أهداف دينية بتكليف من الخليفة العباسي “المقتدر بالله” متجهة إلى أرض الصقالبة تلبية لطلب ملكها “ألموش بن يلطوار[1]” للتعرف على الإسلام، ورأس البعثة الفقيه والأديب والمؤرخ “أحمد بن فضلان” الذي تميز إلى جانب سعة علمه بقوة الملاحظة والقدرة على التحليل والحوار.
استمرت الرحلة قرابة العام، لكنها تركت أحد أهم الكتب في تاريخ روسيا القديم، إذ ساهم تدوينه للرحلة في تقديم معلومات نادرة عن شعوب وقبائل خاصة في روسيا، قفَدَّمت وصفًا رائعًا ودقيقًا لروسيا وسكانها؛ فوصف كلَّ ما يتعلَّق بحال الرجال عندهم، ومكانة المرأة بينهم، وحال سكنهم وطرق عيشهم، وحالهم في دفن الموتى، وعقيدتهم.
كانت رحلة “ابن فضلان” أساساً لرواية “أكلة الموتى” Eaters of the Dead، لـ”مايكل كرايتون”[2] Michael Crichton والتي صورت كفيلم روائي باسم “المقاتل الثالث عشر The 13th Warrior” للمخرج “جون مكتيرنان”، وأساسا لكتاب “مغامرات سفير عربي” لـ”أحمد حسن البقالي” الذي جمع بين الرواية العربية والغربية لرحلة “ابن فضلان”، وذكر المستشرق الالمانى فراهن Christian Frähn في تقديمه لترجمته للرحلة بالألمانية: “إذا كان الغرب قد أغفل روسية، فإن العرب تحدثوا عنها، فألقى العرب أنواراً كثيرة على تاريخ الغرب القديم، وأدلوا بمعلومات ناقصة، وخاصة عن البلغار وروسية في العهد البعيد”.
أما سفارة الشاعر الأندلسي “يحيى بن الحكم البكري الجياني” الشهير بـ”يحيى الغزال” عام 232هـ، فكانت من السفارات الأندلسية المهمة إلى بلاط “هوريك الأول” ملك النورمان، وهي رحلة استمرت عشرين شهرا، فبعد مهاجمة أسطول “الفايكنج” لشواطيء الأندلس وبعض مدنها الكبرى خاصة إشبيلية، وانتصار الأندلسيين على “الفايكنج”، رغب “هوريك الأول” في عقد هدنة مع قرطبة، لذا أرسلت قرطبة شاعرها وأديبها “يحيى الغزال” إلى مقر الفايكنج، التي تقع حاليا في الدنمارك، فكانت رحلة شديدة المخاطرة، واحتوت تفاصيل في حسن تعامل السفير مع الأزمات والمواقف الحرجة، وكشفت عن أهمية الأدب للسفراء في الوصول إلى قلوب الناس والاستحواذ على إعجابهم وإقناعهم، ومن المواقف التي تضمنتها الرحلة، دخول “الغزال” على “هوريك الأول”، حيث اشترط “الغزال” ألا يسجد للملك أثناء الدخول، لأن السجود لا يكون إلا لله، فأمر “هوريك الأول” بتضييق باب الدخول حتى يضطر “الغزال” للسجود، ففطن “الغزال” لذلك؛ فجلس على الأرض، وقدم رجليه ودخل زاحفا، فلما تجاوز الباب استوى واقفا، ثم ألقى السلام على الملك.
كان “الغزال” معبرا عن روح الإسلام في سفارته، يقول المؤرخ “محمد عبد الله عنان”:” كان الغزال رجلاً خلاباً وسيم الطلعة -ومن ثم سمى بالغزال- يتمتع بصفات السياسي البارع وخِلاله ومؤثراته، ويستخدمها دائماً بفطنة ونجاح.
السفارة العثمانية
يحفل التاريخ العثماني، بكثير من أدب السفراء في الحضارة الإسلامية، ويأتي في مقدمتها “سفارة نامة فرنسا” أو كتاب السفارة إلى فرنسا، هو أول نص كتبه باللغة التركية السفير العثماني ” محمد جلبي أفندي” عن رحلته إلى فرنسا عام 1721م، والتي استمرت عاما كاملا، حاملاً رسائل من السلطان العثماني “أحمد الثالث”، والصدر الأعظم ” إبراهيم باشا داماد” إلى ملك فرنسا ورجال دولتها، حيث أُتيح للسفير أن يزور معالم “باريس” العمرانية والعلمية والصناعية، ويتعرف إلى أنماط الحياة فيها، فقد كان مثقفا، وقادرا على الامساك بمعالم التحديث الفرنسي الثقافي والعسكري والقتني والعمراني والاجتماعي.
لكن الأهم في الكتاب هو تصحيح نظرة النخبة العثمانية عن التحديث الغربي، إذ كانت تعيش النخبة في تصورات جامدة عن الغرب، كما كان للكتاب تأثيره الكبير في تبني الدولة العثمانية للنموذج الفرنسي في التحديث والإصلاح، إذ كانت الغاية تجديد مؤسسات الدولة العثمانية من خلال تطعيمها بتجربة مغايرة، قد تساهم في النهوض، بعد النكبات والهزائم التي أصابتها، لذا جمع الكتاب بين الإنبهار بمشاهد التحضر المادي، والتحسر على مآل الدولة العثمانية وتراجعها.
تحدث الكتاب عن ملاحظات مهمة، منها: حضور المرأة في المجال والحياة العامة، ومما قاله:”في مملكة فرنسا إكرام النساء غالب على إكرام الرجال”، كما جاءت السفارة مع حدوث وباء الطاعون في عدد من المدن الفرنسية، فوقف “جلبي أفندي” على حجم الانضباط والاجرءات المتقدمة في الرعاية والحجر الصحي، كذلك شاءت الأقدار أن تأتي السفارة في ظل تطوات سياسي كبير داخل المجتمع الفرنسي، وهوعملية انتقال السلطة إلى الملك “لويس الخامس عشر” بعد وفاة والده “لويس الرابع عشر” وهو ما استدعى مقارنة ذلك بما يجري في الدولة العثمانية، التي كانت انتقالات السلطة فيها غير سلسلة ودموية في كثير من الأحيان، كما أبدى السفير إعجابه بتعدد المناصب الوزارية، وتخصص الوزراء وتعددهم، مقارنة بتركز السلطات في يد السلطان أو الصدر الأعظم.
يحفل الكتاب بكثير من تفاصيل الحياة الباريسية، والحضارية والعمرانية، ولفت انتباهه اهتمام الفرنسيين الفائق بالوقت، والعجيب أن اسطنبول كانت حاضرة، دوما، في وجدانه عند النظر لباريس، لكن نظرته كانت ثاقبة عند النظر للتقدم العسكري والتقني الفرنسي، ساعيا إلى معرفة أسباب ذلك التفوق.
كان التقرير بمنزلة المرشد والمعين للسفراء والدبلوماسيين العثمانيين الذين قصدوا فيما بعد أوروبا سواء على مستوى الكتابة والتأليف، أو من أجل فهم طبيعة المجتمع الأوروبي والتحولات التي عرفها، ونتج عن السفارة تأسيس أول مطبعة عربية في اسطنبول عام 1727م بمبادرة من سعيد محمد أفندي ابن السفير الذي تأثّر بالغ التأثر بالثقافة الفرنسية وخاصة بدور الطباعة والنشر، واستطاع أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام وفرمانًا من السلطان “أحمد الثالث” بهدف تأسيسها، وتكليف “إبراهيم متفرقة” بالمشروع…
وفي كتاب “أدب السفراء في الحضارة الإسلاميةفي عهد الديركتوار والإمبراطورية” Deux ottomans a paris: Relations d’ambassade الذي ترجمه إلى الفرنسية “ستيفان يراسيموس” Stéphane Yerasimos متضمنا روايات السفيرين العثمانيين “علي سيد أفندي” و”السيد عبدالرحيم محبّ افندي”، وتصدر الكتاب بمقدمة زادت على الستين صفحة تحدثت عن تأثير ودور أدب السفراء في الحضارة الإسلامية في فهم التحديث وضروراته، وطبيعة العلاقات الحضارية والثقافية خلال تلك الفترة، فالكتاب يحوي نصوصا وضعها سفيران عثمانيان في باريس غداة الثورة الفرنسية، وقبل وأثناء وبعد حملة “نابليون بونابرت” لاحتلال مصر.
أما كتاب ” أسير الكفار: جندي عثماني في إمبراطورية هابسبورغ”[3] لـ”فريدريك هيتزيل” Frédéric Hitzel ، فهو ترجمة لمذكرات الضابط العثماني “عثمان آغا” Osmân agha الذي تعرض للأسر أحد عشر عامًا (1688-1699) في المجر والنمسا، فتعلم اللغة الألمانية، ودون ملاحظاته ومذكراته، وهو يحوي معلومات ذات أهمية عن الجغرافيا وعلم الاجتماع والتاريخ وأيضًا عن حالة أسرى الحرب الأتراك في إمبراطورية هابسبورغ، ونظرة العثمانيين لإمبرطورية مسيحية وهي على أعتاب عصر التنوير.
[1] سمّى نفسه جعفر بن عبد الله بعد اعتناقه للإسلام، فكان أول الحكام المسلمين لمملكة الصقالبة، التي تعرف في المراجع الحديثة باسم دولة فولغا بلغاريا، وتوجد حاليا في روسيا.
[2] يقول “كرايتن” في مقدمة روايته “أكلة الموتى”: “يعتبر مخطوط ابن فضلان أقدم تسجيل معروف، كتبه شاهد عيان، عن حياة ومجتمع الفايكنغ الإسكندنافيين؛ فهو وثيقة فريدة من نوعها، تصف بدقة متناهية أحداثاً وقعت منذ أكثر من ألف سنة”.
[3] عنوان الكتاب باللغة الفرنسية ” Prisonnier des infideles: Un soldat ottoman dans l’empire des habsbourg “