طرحت قضية حرية التفكير والإبداع أول ما طرحت خلال العقد الثاني من القرن الماضي حين أصدر علي عبد الرازق كتابه (الإسلام وأصول الحكم) وتبعه طه حسين بكتاب (في الشعر الجاهلي)، وعلى إثر الملاحقة القضائية للرجلين ومصادرة كتابيهما وضع سلامة موسى كتابه (حرية الفكر وأبطالها في التاريخ) ولم تكد تمر أشهر على أزمة كتاب الشعر الجاهلي، وساق خلاله نماذج لمفكرين اضطهدوا في ظل الحضارة الإسلامية، الأمر الذي يوحي أن سيرورة الاضطهاد لم تنقطع من الماضي إلى الحاضر وأنها سمة مميزة للحضارة الإسلامية، فلماذا تمت ملاحقة أهل الفكر والإبداع في الحضارة الإسلامية، وما الأسباب الداعية لذلك، وأي دور للدين ورجاله في ذلك؟.

تبع سلامة موسى في دعواه كثيرون من الشرق والغرب كرروا ما ذهب إليه من اضطهاد المفكرين والفلاسفة، وبالإمكان النظر إلى هذا الادعاء من ثلاث مستويات مختلفة؛ المستوى التاريخي وأناقش خلاله بعض العوامل التاريخية التي أفضت إلى التنكيل بالمفكرين وعلى الأخص ظاهرة الزندقة وما أفضت إليه من تداعيات على مستوى حرية التفكير والتعبير، والمستوى التمثيلي المتعلق بمعاناة بعض المفكرين وأسوق مثالا لذلك بالفيلسوف ابن رشد، وأخيرا مستوى علاقة رجال الشريعة بالتنكيل الذي طال بعض المفكرين.

ظاهرة الزندقة وتداعياتها

بلغت الحضارة الإسلامية أوج عظمتها المادية والروحية في القرنين الثالث والرابع الهجريين إذ اتسع العمران وتأسست معاهد العلم ونشطت حركة التأليف والترجمة والنشر، وحين تبلغ أي حضارة هذا المبلغ تكون قد قاربت على استنفاذ قواها وتأخذ عوامل التحلل والاضمحلال في التسرب إليها شيئا فشيئا، وعادة ما تتخذ مظهرا دينيا فتأخذ الزندقة -أو روح الإلحاد- طريقها إليها عبر أقوال الشعراء والأدباء والمتعبدين الزاهدين أو في كتابات الفلاسفة أو علماء الطبيعة والطب والفلك وما إلى ذلك.

وتأسيسا على هذا بدأت ظاهرة الزندقة في الظهور منذ القرن الثالث، وانجذب إليها نفر من الشعراء والمبدعين لأسباب متفاوتة، فريق تزندق بداعي العصبية القومية التي حملته على أن يتعصب لدين آبائه من المجوس والثنوية والمانوية كما فعل ابن المقفع وبشار بن برد وابن الراوندي، وفريق تزندق فرارا من تكاليف الدين وطلبا لسلوك مسلك الحياة الماجنة وهذا بالنسبة لكثير من الشعراء ممن انتسبوا إلى “عصبة المجان” الذين تزعمهم أبو نواس، وفريق تزندق وخرج عن الملة بداعي الثقة بالعقل وقدرة العلم أن يحل بديلا للإيمان وهو مسلك جابر ابن حيان والكندي والفارابي.

أفضى انتشار الزندقة وتلبسها برداء الشعوبية إلى عواقب وخيمة حيث أخذت السلطات الإسلامية المتعاقبة في السيطرة على الآراء والضمائر، وأُخذ الناس حتى بالشبهة زودا عن العقيدة ولاسيما بعد أن ظهر من الخوارج وأهل المذاهب الباطنية ما أرهق الإسلام وأهله زمنا طويلا، وانزعج العامة من أي ملمح من ملامح التعبير الحر عن الأفكار والمعتقدات الذاتية ورموا قائله بالزندقة.

مأساة ابن رشد

تلقي معاناة فيلسوف قرطبة ابن رشد جانبا آخر من الضوء على العوامل التي تقف وراء معاناة الفيلسوف والمبدع في التاريخ الإسلامي، فقد عاش ابن رشد في الأندلس خلال القرن السادس الهجري، وشهد في الشطر الثاني من حياته تأسيس دولة الموحدين التي شاع عنها إيثار العلماء الخلفاء، وتشجيع العلم والعلماء وإباحة كتب الفلسفة وعلم الكلام حتى صارت قرطبة في عهدهم ” قرارة أهل الفضل والتقى، ووطن أهل العلم والنهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجر العلوم”.

اتصل ابن رشد بالخليفة يوسف أبو يعقوب، وكان محبًا للعلم مطلعا على علوم اليونان الفلسفية، واسع الأفق والنظر، وهو الذي شجعه على الانكباب على الفلسفة وتلخيص كتب أرسطو طاليس، وفي هذا يذكر ابن رشد أن صديقه ابن طفيل- صاحب كتاب حي بن يقظان- استدعاه وأخبره أن الخليفة يتشكي من عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أفكاره، واعتقاده أنه لو تمكن أحدهم من تلخيص عبارته ووضعها في عبارات يسيرة لأمكن للجمهور استيعابها، ولما كان ابن طفيل كان قد طعن في السن ولم يعد بمقدوره إنجازه فقد اقترح أن ينهض  ابن رشد لهذا الغرض، فأقدم على تلخيص كتب أرسطو وشرحها.

لم تكن رغبة الخليفة وحدها الدافع وراء تلخيص كتب أرسطو، كما يرجح محمد يوسف موسى، بل إيمان ابن رشد العميق بضرورة اتصال الشريعة بالفلسفة والتأليف بينهما، ويبدو أن الفكرة ملكته حتى لقد خصص لها ثلاثة من أنفس تآليفه، وهي: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، والكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وتهافت التهافت- والأخير نقض لكتاب تهافت الفلاسفة للإمام الغزالي-، وبهذا المعنى يكون ابن رشد هو أكثر الفلاسفة المسلمين دأبا وإصرارا على درء الهوة بين الفلسفة والدين، إذ أن محاولات سابقيه لم تزد عن رسالة قصيرة كتبها الكندي.

وأيا ما كانت الدوافع فإن ابن رشد نهض بمهمته في شرح وتلخيص الفلسفة اليونانية وتقريبها من الفكر الإسلامي وسط أجواء عدائية إذ لم يكن أهل قرطبة والأندلس عامة من محبي الفلسفة ويدلنا على هذا قول المقري إن ” كل العلوم لها حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظ عند خواصهم، ولا يُتظاهر بهما خوف العامة، فإنه كلما قيل: فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم، أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه فإن زل في شبهة رجموه أو حرقوه قبل أن يُرفع أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقربًا لقلوب العامة، وكثيرًا ما كان يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت”.

 وهذا الوصف ينطبق أكثر ما ينطبق على الخليفة المنصور الذي حل بعد وفاة أبيه يعقوب، وقد أوغر بعضهم صدره ضد ابن رشد، وزعموا أنه يكتب في ملخصاته الفلسفية ما يناقض الشريعة فاستدعاه الخليفة إلى الجامع الأعظم بقرطبة، وجمع له رجال الشريعة والأعيان، وأجريت له محاكمة لا ظل للعدالة فيها انتهت بلعنه وطرده من موطنه وطرد من يؤمن بقوله، وإحراق كتب الفلسفة كلها، وتجريم دراستها.

علماء الشريعة والفلسفة

إذا كانت السلطة المسئول الأول عن أزمة ابن رشد إلا أن رجال الشريعة متهمون أنهم شركاء في الجرم؛ ليس لأنهم أدانوا ابن رشد في محاكمته الجائرة بل لأنهم كانوا سببا رئيسا وراء معاناة الفلاسفة بكتاباتهم التي تزدري الفلسفة وتكفر المشتغلين بها، واستحلوا بذلك دماء الفلاسفة، فما هي علاقة علماء الدين بأزمة الفلاسفة في التاريخ الإسلامي، وهل كانوا سببا في التحريض على سفك دمائهم.

يسوق القائلون بهذا الرأي طائفة من أقوال العلماء في تكفير وإدانة بعض الفلاسفة؛ ومن ذلك قول ابن القيم في (إغاثة اللهفان) عن الفارابي: ” وكان على طريقة سلفه – يعني أرسطو- في الكفر بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر”، وقوله في الكندي: ” وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه، قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم، فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب ولا خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله تعالى.”، على حين يذكر ابن تيمية في (درء التعارض) أن كلام ابن رشد في الإلهيات “فيه من الخطأ الكثير والتقصير العظيم مما هو ظاهر لعقلاء بني آدم”.

وهذا التشدد يمكن تفسيره تاريخيا ورده إلى لحظة الصدام الأولى بين أعلام الفقه الإسلامي والمعتزلة، حين اتجه الشافعي إلى تدوين أصول الفقه في (الرسالة) ردا على واصل بن عطاء المعتزلي، وما ذهب إليه ابن تيمية وابن القيم ومن قبلهما الغزالي هو حلقة أخرى من حلقات الصدام بين الفلاسفة الذين أرادوا توسعة دور العقل حتى يكون موازيا للنص، وبين الفقهاء الذين ارتأوا أولوية النص وحاكميته على ما عداه. ومع هذا فإنه ينبغي الالتفات أن العلماء لم يلقوا بتهم الكفر والتجديف جزافا، فإن أحدا لم يكفر ابن رشد بل وظلت كتبه الفقهية عمادا للفقه المالكي ولم يحظر تداولها قط، ومن جانب آخر فإن تكفير الفقهاء للفلاسفة لم يكن هو الباعث على اضطهادهم لأنه صدر بعد وفاتهم بفترات طويلة، وإنما هو بيان للرأي الشرعي فيهم وتنبيه لمن ظن أن أمرهم خيرا، كما يقول الغزالي.

خلاصة القول، أن معاناة بعض الفلاسفة والمفكرين في السياق الإسلامي كانت وراءها عوامل متشعبة تاريخية وفكرية ومجتمعية ولا يمكن اختزالها في عامل وحيد هو العامل الديني.