إن المعرفة ترقي الحياة وتمنحها معنى وقيمة، وتثمر رصيدا معنويا مقاوما لصعوبات الحياة ولحظات الانهيار.. وما أجمل الإنسان حين يرتقي إلى أفق المعنى، ويكتسب قدرة على الصمود.. ولا يتحقق له ذلك إلا بالمعرفة.

والمعرفة حاجة وضرورة مستمرة، وعادة ما توفر لنا حلولا في المنعطفات الحياتية الحادة.. والإنسان متعلم بطبعه وذوقه.. والتعلم همزة وصل وأداة تواصل بين الأجيال والمعارف.

ويعد الاهتمام بلماذية المعرفة، خطوة أولى في سعينا لمساعدة الطلاب في التأسيس لمشروعاتهم المعرفية.

ماهية المعرفة

يرتبط الإنسان بالمعرفة ارتباط وجوديا بوصفها غذاء لعقله في مقابل الطعام لجسمه.. وإذا كان الإنسان متميزا بالعقل، فإن العقل تميزه المعرفة وتنميه..

ويرتبط الإنسان بالمعرفة ارتباطا آخر، يتمثل في الانتماء كحلقة وصل بينه والمجتمع. إن الانتماء الواعي تصنعه المعرفة وتبرره وتغذيه..

ويرتبط الإنسان بالمعرفة لدورها كموفر لاحتياجاته وضرورات حياته من غذاء ودواء وأمان وطاقة..

وما دامت المعرفة ذات أهمية بالغة في حياتنا، فمن المهم أن يصبح التعلم مشروعا مستمرا، نبذل له الأوقات ونوجه نحوه الموارد.

إن النقلة المؤثرة في مسار المتعلم قد تكون في تبنيه جملة أفكار ومفاهيم فعالة عن المعرفة والتعلم.. وهذا ما نطلق عليه التأسيس المعرفي.

المعـرفة في مصفوفة الأنشطة

وتتصدر المعرفة أخواتها في مصفوفة الأنشطة حسب نموذج آسك، وتتضمن المصفوفة إلى جانب المعرفة، أنشطة الرياضة والعمل والتطوع، في حزمة تعرف بالأنشطة الجارية لدى الطلاب.. وتتكامل المعرفة مع الأنشطة الأخرى وترتبط جميعها بالبيئة والمكان. إن التطوع من ضروب العمل، والعمل نفسه من ضروب المعرفة بوصفه تطبيقا لها ودرجة من درجات التعلم.. ولا تخفى أهمية الرياضة كضرورة صحية ونفسية.

وفي علاقة البيئة بالأنشطة الأربعة، عادة ما نوجه الطلاب إلى الاهتمام بمدى ملاءمة أنشطتهم للمكان والجغرافيا.. وفي برامج تعزيز الأنشطة نستخدم نموذج آسك لاكتشاف العلاقات بين الأنشطة وأكثر الأماكن ملاءمة لها. 

ومما يجدر ذكره هنا، أن المناطق الهادئة تزداد فيها فرص الإنتاج الذهني بعكس المناطق المزدحمة أو ذات الضجيج المرتفع.. وفي المدن الكبيرة تتسع فرص التعلم والنمو المعرفي والإبداع المهني بعكس المدن الصغيرة والأرياف.

من الأنشطة إلى مجالات العـمل

وتعمل الأنشطة على اكتشاف ميول الطلاب وتفضيلاتهم الدراسية والمهنية.. وعادة ما يعتمد الطلاب في اختياراتهم على الرغبة والميول، أو مجاراة الرفقة والزملاء.

إن الخطوة المهمة قبيل الاختيارات الدراسية، أن يتعرف الطالب على المجالات المهنية كاحتياجات للمجتمع، وعلى الدراسات الجامعية بوصفها تأهيلا للطلاب لتلبية تلك الاحتياجات، وعلى الاختيارات الدراسية كاختيارات مهنية، وإن كانت أولية وغير حاسمة دائما.

إن مجالات العمل أشبه بتطبيقات الهاتف حيث يعمل كل منها على تلبية احتياج من احتياجات المستخدم. وتظل المعرفة وفية للإنسان بتوفير ما يستجد له من احتياجات ما دام مدركا لأهميتها ومجتهدا في تحصيلها وإثرائها.

وتعد مساعدة الطالب في اكتشاف ميوله والتعرف على مجالات العمل، مساهمة مبكرة في التأسيس لمشروع معرفي مبني على اختيارات دراسية ملائمة لتفضيلاته وقدراته ومراعية لاحتياجات المجتمع.

ومن المهم أن يتزامن إدراك الطالب لوظيفية المجالات المهنية، مع إدراكه لأهمية الانتماء كشعور دافع للعطاء وبذل الجهد. إن ولاءنا للمجتمع وحبنا له مؤشر وعي ومعرفة وأداة إشعال لجذوة المثابرة والتفاني في العمل.

في دوائر الاهتمام

إن ما نطمح إليه من تقدم معرفي، يتطلب وجودنا في ميدان مهني كبير؛ حيث تتراكم معرفتنا باضطراد، حتى نبلغ مستوى يؤهلنا للمساهمة في حل مشكلاته وتطوير أدواته وتقنياته، وذلك عبر دوائر الاهتمام بوصفها روافع مهمة لمشروعاتنا المعرفية.

وتمثل دائرة الاهتمام المعرفي آلية للتركيز على مشكلات محددة في المجال، ومن ثم بذل جهد معرفي في معالجتها وتجاوز صعوباتها، بتعزيز المعرفة وتطوير أساليب العمل وتقنيات الأداء، وعادة ما يرتبط اختيارنا لدوائر الاهتمام بتجاربنا الشخصية، وما تلاقيه مجتمعاتنا من عناء وصعوبات.

وتساعد دائرة الاهتمام في توجيه التعلم وتنظيم الجهد المعرفي، وترقيته من تحصيل كمي مبدد للطاقة، إلى تعلم نوعي متصل بمشروع مستمر للمتعلم.

وتعمل برامج تعزيز الأنشطة على مساعدة الطلاب في الاقتراب من دوائر اهتمامهم مبكرا. ويوفر نموذج آسك أسلوبا جيدا لاكتشاف العلاقات بين الأنشطة المعرفية الجارية والطموحات المهنية والاجتماعية للطالب، مما يسهم في تشكيل ملامح اهتمامه المعرفي.

ما أسرار التميز المعرفي ؟

استعدادنا للتعلم في مختلف الظروف.. وإيماننا بأهمية توجيه الموارد نحو المعرفة.. واهتمامنا بمشاركة التجارب مع الآخرين.. والتزامنا بتوثيق الخواطر والكتابة حول قضايا المجال.. تلك أبرز أسرار التميز المعرفي.

يتفاوت الأشخاص في استجاباتهم وتفاعلهم مع المتغيرات لا سيما الطارئة والحادة منها. ويتطلب النجاح في مشروع التعلم، تنمية استعداداتنا للتأقلم مع تقلبات المناخ والأوضاع.. والعمل على توظيف أسوأ الظروف لتحقيق أفضل نتائج ممكنة. 

إن اهتمامنا بالمعرفة وحاجتنا للنمو، يعبر عنهما معدل إنفاقنا على التعلم من مواردنا وأوقاتنا. إن الوقت مورد محدود وغير متجدد، ويعد بذله في التعلم أهم العوامل تأثيرا في تحقيق النجاحات المعرفية.

إن الإنفاق على التعلم والاستثمار في المعرفة، يحققان عوائد عالية للمتعلم ولمحيطه الاجتماعي، بزيادة سعات الإدراك ومساحات الوعي ومستوى الاهتمامات، فضلا عن العوائد المادية المباشرة للمتعلم.

وتترافق رغبتنا في التعلم والنمو، مع احتياجنا النفسي للتواصل مع فريق يمنحنا الحب والأمان.. وتعمل فرق المعرفة على تعزيز نجاحات المتعلم، حيث يمثل الفريق منصة للتواصل وصنع مزيد من إتاحات التعلم، والإسهام المعرفي، ومشاركة التجارب والأفكار والفرص.

وتوفر فرق المعرفة مناخات محفزة من شأنها إثارة دوافع الطلاب وتنمية استعداداتهم للمضي قدما في مشوار التعلم.

أما الكتابة حول قضايا المجال، فإنها تعمل على تحسين مستوى الاتصال بين المتعلم ومشروعه المعرفي مما يزيد من فرص نجاحه وتقدمه.

وتوفر الكتابة في دائرة الاهتمام، قدرا عاليا من الطاقة العقلية، وإدرارا أكثر للأفكار والخواطر، حين يستجمع الذهن طاقته في دائرة محددة النطاق نظريا، وإن كانت متصلة بغيرها حسب طبيعة المشكلات والمجالات. وتمثل الكتابة في دائرة الاهتمام، حوارا مع الذات، وتشاركا مع الآخرين، وإثراء للمعرفة، وبناء لتراكم معرفي متصل، وحفظا للأفكار، وبذرا لأخرى في ذات الدائرة، ومؤشرا لقدرة الطالب على الالتزام المعرفي، وتأسيسا لمراحل تالية في رحلة المعرفة.