لم تكن الأساطير أداة للتسلية كما نعتقد، بل هي تحايل عقلي لتحقيق ما نعجز عن تحقيقه في الواقع، فنحن نطوي رغباتنا المقموعة في اللاوعي، فيتم إشباع الرغبة من خلال أساطير تتحقق فيها رغباتنا عبر أبطال أو رموز الأسطورة..

فعلينا أن نقرأ الأساطير “بخبث علمي” وليس للترفيه، فمثلا لماذا اخترع العقل الأسطوري فكرة الغول؟ أو العنقاء..؟ إنه نفس السبب الذي يدفع الطلاب لكتابة أشعار الحب أو رسم القلوب على مقاعد الدراسة، فالحب هو فخ الجنس، فالعالم “جيزا روهيم” يرى أن النزعة الجنسية هي تعبير عن القاعدة التي تأسست عليها بطريقة لاواعية الأبعاد الروحانية في النص الأسطوري، فمثلا: ما هي العلاقة بين النطفة (الحيوان المنوي (sperm والروح؟ وبعد تحليله لعدد من الأساطير القديمة في شعوب مختلفة اكتشف العلاقة بين الجانبين على النحو التالي:

ترى الأساطير أن العضو الذكري مهدد في حالة الانتصاب و التزاوج بالانفصال عن الجسد والذي يتمثل في العقدة التي أجمع عليها كل علماء النفس (فرويد وويونغ وإدلر وماسلو ولاسويل…الخ) وهي عقدة الخوف من “ألخصي”..وهي عقدة غائرة في اللاوعي(أي في العقل الباطن)، وتسلل هذا المعتقد إلى لاوعي الناس العاديين، فمثلا وجد علماء النفس أن أفراد قبيلة الـ “ماوريس” يعتبروا أن النشوة الجنسية عبارة عن ضياع للروح و خصوصاً عند قذف النطاف لدى الذكور إلى الخارج، أي أن الروح عبارة عن شكل آخر للحياة المتمثلة بالنطاف الذكوري، أما الموت فهو يتمثل في العضو التناسلي الأنثوي (القبر الذي تدفن فيه الروح)، ونفس الفكرة نجدها في أسطورة “موي” الذي يرمز للحياة عند التقائه مع “هيني-نوي- التي تتسبب في موته بعد تزاوجهما ،لذلك فإن أفراد القبيلة كانوا يرددون أقوالا تحمي الروح، ولكن مفردات هذه الأقوال تنصب على العضو الذكري وحمايته من الموت عند التزاوج.

كذلك فإن الأرض تأخذ صيغة المؤنث في كل أساطير العالم، فالأرض أنثى في كل اللغات والثقافات، ففي أسطورة أخرى نجد الأرض تقول لأحد أشخاص الأسطورة وهو “رانجي” “عند الموت ستعودون جميعا عندي”، وعند العرب نقول “منها وإليها”..وعند اليونان “تخرجون من الأرحام وتعودون لرحمي” وعند الهنود “تهبطون من فروج أمهاتكم فيتلقفكم فرجي” وفي إفريقيا تقول أسطورة اليوروبا “أنا الذي أعانقكم في حضني للأبد” وفي بلاد المايا في أمريكا اللاتينية يتساءل أحد أشخاص أسطورة الجوف بالقول”أخبرني يا نورس ما الفرق بين رحم أمك ورحمي كلاهما مظلم وهادئ.

الأرض تعبر عن فناء الجسد، بينما السماء أو الطبقات العليا ترمز إلى الذكورة كما هو الحال عند الإغريق، ففي الأسطورة اليونانية نجد “أورانوس” هو الغلاف الجوي الذي يحيط “غايا” إلهة الأرض، كما يظهر ذلك عند الصينيين في “اليانغ و الين”، ونجد الشيء نفسه مع رمز الجنة و النار، فلدى قبائل “الكارينز”، يطلب من المرء عبور جسر رمحي ما بين الأرض و السماء للوصول إلى الجنة لا يجتازه إلا بعض الرجال القادرين على المرور.

الأسطورة مصدر للمعرفة
الأسطورة مصدر للمعرفة

أما الذين يستصعب عليهم اجتيازه يتساقطون منه ليتحولوا إلى نساء على الأرض، (أي أن النساء عند هذه القبيلة عبارة عن رجال مذنبين تم عقابهم بواسطة ألخصي أي حرمانهم من عضوهم الذكوري)، بينما الأمر عند زرادشت يختلف بعض الشيء فهو “صراط مستقيم أحد من السيف وأدق من الشعرة لكنه مرتبط بالعمل وليس بالجنس”، ولأن الشعوب لم تكن تعرف في الزمن القديم كيف تتم عملية الإنجاب، كانوا يخافون على ضياع نطفهم، فنسجوا أساطير تربط بين عملية القذف والموت، والغريب أن قبائل الهنود الحمر لديهم أساطير عن “استرجاع النطاف” بواسطة تعاويذ سحرية وذلك لضمان بقاء الروح، و بما أن عملية القذف مترابطة مع تلقي الأنثى له، تم ربط العضو التناسلي الأنثوي مع مفهوم الموت، و لهذا ربما نجد في معظم الأساطير و الأديان مفهوماً قهرياً للمرأة ليلقى على عاتقها مسؤولية الشر و العذاب واتهامهن بـ”الكيد العظيم”.

لا شك أن الخوف من ألخصي عند الذكور في الأساطير يعزز ذلك، فمثلا نجد في أسطورة أوزوريس المصرية الفرعونية والتي تتحدث عن بدء الخلق عراك ما بين الأب و أولاده من أجل الإناث ، فقام أوزيريس بخصي أباه، وهذا يذكرنا بعملية قتل الأب البدائي في المرحلة الطوطمية، عندما تم استبدال الطوطم بالأب لترتفع مرتبته مع الأيام إلى الأعلى، طبعاً هذه الجريمة تسببت في نشوء عقدة الذنب، و التي نراها في ثقافات وأساطير و أديان عدة.

أما قضية الحياة ما بعد الموت وكأنها بداية حياة جديدة وبالتالي السعادة الأبدية فهي تعبير لدى الكثير من علماء النفس عن عجز الإنسان على التوفيق بين الرغبة في البقاء من ناحية وبين قناعته بأنه سيموت من ناحية أخرى، لذلك تم حل المشكلة برواية أسطورة الحياة الأخرى ليطمئن على أنه سيعود، والأمر ليس إلا تحايلا معرفيا لتهدئة قلق العقل الباطن وتناقضاته.

والتحنيط هو نفس الشيء، لهذا يعتقد أن فكرة التحنيط نفسها قائمة على نفس الفكرة، فقام الإنسان بتعويضها في مكان آخر أي تعويض السعادة الأرضية بسعادة واهية أبدية خارجة عن حدود الأرض و العقل. كما نجد عند تعمقنا أكثر في بعض القوانين القديمة الاجتماعية أن اعتقاد الإنسان الطوطمي في وجود كائنات حية وراء بعض الظواهر الطبيعية ما هو إلا محاولة منه للحفاظ على الحياة، فتبادل الأرواح بين الإنسان وطوطمه، على حسب تفسير “فريدزر”، و انتقال الطاقة الحياتية بين الكائنات الحية كانت سبباً من أسباب خلق الإنسان للأبدية.

حقا كما يقول جالتنج “الإنسان حيوان أسطوري”…وهنا الأهمية القصوى للأسطورة إنها تريحنا نفسيا لكن عقول علمائنا أعادتنا للقلق..وهذه إحدى مساوئ المعرفة من الناحية النفسية.