حوادث ووقائع تسمع بها أو تقرأ عنها، ليس شرطاً أن تفهمها تجعلك تتساءل فجأة: كيف؟ فلا تجد إجابة بالطريقة التي ربما تريدها، وقد تترك البحث عن الموضوع أو تعيد الأمر إلى الزاوية الآمنة لك، التي إن لجأت إليها اطمأن قلبك، وسرت آمناً مطمئناً في حياتك، وكانت تلك الطمأنينة بمثابة طاقة شحن نووية لا تنفد، تعيش بها إلى ما شاء الله لك أن تعيش.

فما القصة؟

يخرج نبي الله يونس – عليه السلام – من قريته، بعد أن مكث فيهم حيناً من الدهر يدعوهم إلى الله ولكن دون نتيجة، حيث كذبوه وتمردوا عليه حتى خرج من القرية، وبقية القصة المعروفة وأهم مشاهدها، ساعة أن التقمه الحوت، فيدخل جوفه، لتتعطل فوراً قوانين الهضم عند هذا الحيوان الضخم، كيلا يتأثر نبي الله يونس بن متّى، لحكمة أرادها سبحانه. مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

يخرج نبي الله عُزير – عليه السلام – ذات يوم مع حماره، فيمر على قرية مهجورة خاوية على عروشها، فيتساءل بينه وبين نفسه ( أنّى يحي الله هذه بعد موتها ) فيموت من فوره بعد هذا التساؤل. ثم أحياه الله بعد مائة عام، فقام وقد شعر أنه نام أكثر من اللازم، حتى تبين له ما حدث وأدرك أن الله على كل شيء قدير. إنه فعلياً مشهد من مشاهد القيامة، لكن بقدرة الله يحدث هذا المشهد في هذه الحياة الدنيا. إن من يموت في الدنيا لا يعود ثانية إلا يوم القيامة، لكن أن يموت في الحياة الدنيا، ثم يعود من موته في نفس الحياة، فهذا مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

يجتمع الناس بالآلاف لرؤية نبي الله إبراهيم الخليل – عليه السلام – يلقى جزاء ما فعل بأصنامهم، حيث تقرر حرقه في نار كبيرة، فيؤتى به – عليه السلام – وقد وثقت يداه بالحبال، وألقي بالنار، فيخرج بعد قليل ولم يحترق منه شيء سوى الحبال المقيدة بها يديه، في مشهد أذهل كل من كان حاضراً حينها، وأذهل من سمع بها لاحقاً إلى يوم الناس هذا.. كيف يتعطل قانون الحرق الخاص بالنار، فلا تُحرق سوى الحبال؟ مشهد لا شك أنه مذهل، بل مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

نبقى مع خليل الرحمن وهو يمسك بيد ابنه إسماعيل – عليهما السلام – من بعد أن بلغ معه السعي، أي وصل الى السن الذي سيبدأ الأب يعتمد عليه في أموره ويكون عوناً له، فإذا وحيٌ من الله يأمره بذبح الابن ! ولك أن تتخيل شعور الأب، الشيخ الكبير وهو سائر لذبح ولده الوحيد الذي جاءه من بعد أن بلغ من الكبر عتيا. حتى إذا حانت ساعة الذبح، يتوقف قانون القطع في السكين، فلم تقطع رقبة إسماعيل – عليه السلام – بعد محاولات عدة، إلى بقية القصة المعروفة. مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

مريم العذراء تحمل جنيناً مباركاً في رحمها دون أن يمسسها بشر، ويعرف الناس بولادتها فتدور علامات الاستفهام حولها، فتدع الوليد يتكلم الوليد، ويكون كلامه جواباً أخرس كل الألسنة، وأذهل كل من كان حاضراً يسمع، ومن سيسمع بعد ذلك إلى يوم القيامة.. إن حمل المرأة يتم وفق قانون معروف، لكن أن يحدث حمل يناقض هذا القانون، كحال مريم العذراء، فهذا أمر لم ولن يتكرر. مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

يقوم النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – من فراشه ليلاً ليرافق سيد الملائكة جبريل – عليه السلام – على دابة البراق، لتسري بهما من مكة إلى الأقصى في لمح البصر، ثم تعرج بهما إلى السماوات العلا، ويتوقف جبريل عند مقام معين، ليواصل النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – العروج إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى حتى يصل إلى مقام لم يصله مخلوق قط، فيرى من آيات ربه الكبرى. ثم يعود بعد ذلك إلى فراشه في بيته بمكة، والذي كان لا يزال دافئاً ! فأي عقل وأي منطق يمكن أن يستوعب هذا المشهد؟ فإن تسافر في ذلك الزمان من مكة إلى المسجد الأقصى وعلى ظهور الإبل، كان في العادة يستغرق شهراً ذهاباً وبالمثل إيابا، فكيف يسافر النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – وبحسب وصف الرحلة، ثم يعود إلى مكانه، في أجزاء من الثانية، أو في اللا زمن؟

إقرأ أيضا :

رحلة الإسراء والمعراج .. مقدمات ومقاصد

كيف يرتفع إلى السماوات وما يعني ذلك الخروج من المجموعة الشمسية فالمجرة، ثم تليها مجرات ومجرات حتى يصل إلى حافة الكون وأبعد، في رحلة تستغرق ملايين السنين لبلوغها، على افتراض وجود مركبات تسير بسرعة الضوء؟ كيف يقوم بها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم – في دقيقة أو أقل وفق الحسابات البشرية؟ لا شك أنه مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

مثال أخير نختم به سرد المشاهد الخارقة للنواميس والقوانين الكونية، هو مشهد فتية الكهف، الذين فروا بدينهم من ملك ظالم طاردهم ليس لشيء، سوى أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. فدخلوا كهفاً بعيداً عن المدينة، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم. وما إن استقروا في الكهف حتى نزلت عليهم السكينة، فناموا، ليس يوماً أو بعض يوم، بل ثلاثمائة وتسع سنوات !

وجه الغرابة والدهشة أن أجسامهم لم تتغير وتبلى، على عكس القانون المعروف الخاص بالأجسام البشرية التي تبلى وتتحلل بعد حين من الدهر قصير، بحيث لا يبق منها سوى عجب الذنب. أما أصحاب الكهف، فقد توقفت القوانين والنواميس مع أجسامهم مدة ثلاثة قرون وازدادوا تسعا. إنه مشهدٌ لا تفسير له في عالم القوانين والنواميس.

زبدة الكلام

الله سبحانه وتعالى حين يخرق قوانين وسنن الكون على شكل معجزات ليشاهدها الناس، أو أحياناً دون أن يشاهدها أحد سوى المعنيين بالحدث فقط، فإنما لحكم معينة. واحدة منها أن المعجزة أو الحدث غير المعهود للبشر، عبارة عن رسالة إلهية مؤيدة للرسول، بمعنى أنه مرسل من الله، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. ومنها، وهي الأهم من سابقتها، أن الله يفعل ما يشاء، وقتما يشاء، وأينما يشاء وكيفما يشاء.

إن من وضع القانون هو القادر على أن يخرقه. وإن خرق القوانين والسنن ليس بأكبر من خلق موجودات هذا الكون، الذي لا زال يتمدد ويتوسع، بل إن كل تلك المخلوقات ليست بأكبر من مشهد خلق الكون نفسه من لا شيء، أو مشهد الفتق العظيم أو ما نسميه بالانفجار العظيم.. والله سبحانه أكبر وأجل وأعظم.

نحن مطالبون بالإيمان والتسليم التام أن الله حق، وأن ما يفعله حق، وإن لم تستوعب عقولنا المحدودة وقلوبنا، الحكمة من وراء بعض الحوادث الخارقة للسنن والقوانين الكونية المعروفة. وإن الثبات على هذا الإيمان التام واليقين الراسخ، هو التحدي الأكبر عند الإنسان. فليس شرطاً أن تؤمن بالذي يتوافق وعقلك وفهمك دوماً، وذلك لسبب وجيز هو أن عقل الإنسان – كما أسلفنا – مهما بلغ، فسيظل قاصراً ناقصاً محدودا، وإن الاعتماد عليه في مسائل الإيمان، قد لا يأتي بنتائج تسر صاحبه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أبوبكر الصدّيق – رضي الله عنه – لم يرفض معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لكل قوانين السرعة والجاذبية والضغط وغيرها، بل صدّقها من فوره، فصار صديقاً، في الوقت الذي ارتد عدد من الذين أسلموا في تلك الفترة، وهم يسمعون القصة من فم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا هو الفرق بين الإيمان الراسخ العميق، والإيمان السطحي غير المستقر.. فاللهم إيماناً راسخاً لا يتزحزح ولا يتزعزع، واللهم { ربنا لا تزغ قلوبنا بعـد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب }.