“أن تعلمنِ مما علمت رشدا”.. ألم تمر بك حوادث ووقائع وتعاملات مع البعض، حاولت فيها أن تظهر لهم أنك الأشد فهماً أو أنك تدري ما يقولون ويتحدثون فيه، ولا تتردد في مقاطعة شخص يتحدث إليك في موضوع، ليس لشيء سوى أن تثبت له أنك تعلم وتفهم ما يتحدث بشأنه؟ ألم يحدث لك أن احتقرت معلومة أو علماً ما من شخص يقل عنك مرتبة أو وجاهة أو مكانة علمية أو عملية؟ ألم تحدثك نفسك يوماً أن تبتعد عن مصادر التعلم إن كانت تلك المصادر أقل شأناً أو درجة أو أقل عمراً منك؟ لا تقل لي: لا، لم يحدث، لأن الأمر لا يسلم منه إنسان غالباً.
التعلم في قصة موسى مع الخضر
قال تعالى: { قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ۚ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أن تعلمنِ مما علمت رشدا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } (الكهف : 64 -67)
يقول الشيخ السعدي في تفسيره : لما اجتمع موسى عليه السلام بالخضر؛ قال له على وجه الأدب والمشاورة والإخبار عن مطلبه: {هل أتَّبعُك على أن تعلمنِ مما علمت رشدا}؛ أي: هل أتَّبِعك على أن تُعَلِّمني مما علَّمك الله ما به أسترشدُ وأهتدي وأعرف به الحقَّ في تلك القضايا، وكان الخضر قد أعطاه الله من الإلهام والكرامة ما به يحصُلُ له الاطلاع على بواطن كثيرٍ من الأشياء التي خَفِيَتْ حتى على موسى عليه السلام.
وجاء في تفسير مجالس النور : القرآن لم يُشِر بدايةً إلى الغاية من قصد هذا المكان، ولكن السياق يقودنا إلى أنَّ الغاية كانت مُلاقاة الرجل الصالح، والذي لم يُسمِّه القرآن أيضًا، ولكن الثابت في الأخبار أنه الخضِر عليه السلام كما سيأتي، ويبدو من السياق أيضًا أن الله قد كلَّف موسَى بمُلاقاة هذا الرجل والتعلُّم منه {قَالَ لَهُۥ مُوسَىٰ هَلۡ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰۤ أن تعلمنِ مما علمت رشدا}.
التعلم عملية مستمرة
هناك من يعتد بنفسه، ويعتقد أنه الأعلم والأشد فهماً وقدرة على تحليل ظواهر الأشياء وتفسيرها، وربما يتعدى ذلك ويزعم فهم بواطن الأمور أيضاً.. وهذا الاعتقاد أو الاعتداد بالنفس والقدرة على الفهم بطبيعة الحال يعود إلى مشكلة في الفهم أو التركيبة النفسية لهذا الشخص، وربما تذكر أنك اضطررت مرة التعامل مع أمثال هؤلاء، فصرت تحاول أن تتجنب خوض أي نوع من التعاملات مستقبلاً معهم إلا ما أنت مضطر إليها.
إنَّ مسألة التعلم لا يجب أن يكون فيها كبير أو صغير، وجيه أو حقير، رجل أم امرأة، بل يتطور الأمر ليصل إلى ألا يكون هناك فرق بين إنس أو طير أو أي دابة من دواب الأرض. إننا نتعلم من بعضنا البعض، ونتعلم من الطير والحيوان، والبعض منا يتعلم من الجن أيضاً بغض النظر عن محتوى ما يتعلمه منهم.. أليس كذلك؟!
لا تقل إنك تعلم وتفهم وتدري أكثر من غيرك، ولا تكن مثل نبي الله موسى عليه السلام في هذه الجزئية التي لم يسلم هو منها أيضاً حين سأله واحد من بني إسرائيل إن كان هناك من هو أعلم منه من البشر، فقال بلا تردد: لا، حتى أخبره الله عكس ذلك، فكانت قصته المعروفة مع الخضر عليه السلام.
حاول أن تتعلم وتتعلم. لا تتحرج من الصغير أو الفقير أو من هذا العِرق أو ذاك أو غيرهم كثير هنا وهناك.. استفد من كل معلومة وكل علم ومهارة من الآخرين.
تعلم وادرس حتى آخر لحظة في حياتك، أطال الله عمرك وبارك فيه.