المال في الإسلام ركن من أركان الدين، كما هو ركن من أركان الدنيا. أما كونه من أركان الدنيا فأمر يعرفه الجميع ولا يجادل فيه أحد، وقد قالوا: المال قِوام الأعمال، والمال قوام الحياة. وهو معنى مذكور في قوله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا} [النساء: 5].
وأما كونه من أركان الدين فيتجلى أولا في الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو ركن الزكاة. فالزكاة مال وعبادة مالية، وركن مالـيٌّ من أركان الإسلام.
ثم إن أركانا أخرى في الإسلام تتوقف إقامتُها على المال. فالصلاة تحتاج إلى بناء المساجد وتجهيزها والقيام على خدمتها، وكل هذا يحتاج إلى المال. وفريضة الحج تتوقف كثيرا على المال. وأعمال البر والإحسان والصلة والصدقة والوقف… كلها مال في مال. والعلم والتعليم بحاجة إلى المال. ومعظم أنواع الجهاد والدعوةِ إلى الله تحتاج إلى المال.
فالأفكار والدعوات والحركات تنتشر وتنجح بقدر ما لأهلها من وسائل وأدوات، يتوقف تحصيلها وتشغيلها على المال.
ولذلك حبَّس الميسورون من المسلمين على مر التاريخ أموالهم العظيمة، فكانت رافدة ورافعة لكل الخدمات والإنجازات الحضارية، الدينية والدنيوية.
ويكفي المالَ فضلا أنه يمكِّن صاحبَه من العيش بكرامة وعفة: يُعطي ولا يَطلب، وينفق ولا يَسأل. وفي صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول. وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يُعِفَّه الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله).
وفي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن مسعود قال: قال النبي ﷺ: “لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها”.
فانظروا — رحمكم الله — كيف جمع هذا الحديثُ بين نعمة المال ونعمة العلم والحكمة، وكيف عظمهما وعظم استعمالهما في الحق والعدل ونفعه العباد.
وفي الحديث المتفق عليه أيضا عن أبي صالح، عن أبى هريرة: (أن فقراء المهاجرين أتَوْا رسولَ الله ﷺ فقالوا: ذهب أهل الدثور[1] بالدرجات العلى والنعيم المقيم. فقال «وما ذاك؟». قالوا: يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعتق. فقال رسول الله ﷺ: «أفلا أُعَلمكم شيئا تُدركون به مَن سبقكم وتسبقون به مَن بَعدكم ولا يكون أحد أفضلَ منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟». قالوا بلى يا رسول الله. قال: «تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة». قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله ﷺ فقالوا: سمع إخواننا أهلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله. فقال رسول الله ﷺ «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء».
نعم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، هو قول رسول الله ﷺ، وهو قبل ذلك قول الله تعالى{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21]. ولكن فضل الله هذا — وغيرَه من صنوف فضله — إنما يأتي بالكد والسعي: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّه} [المزمل: 20].
فبالسعي وكسب المال الحلال وحسن تدبيره وإنفاقه في الخير، يتفوق الأغنياء المتدينون على الفقراء المتدينين. وإذا كان الفقير المتدين أفضلَ من الغني غير المتدين، فإن الغني المتدين أفضل من الفقير المتدين. فالأفضل والأكمل من المؤمنين هو مَن دخل في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 201، 202].
ومن فضائل أهل المال، أن فضلهم وثوابهم يستمر حتى بعد موتهم، فينتفع ورثتهم بما ورَّثوه لهم، وينتفع أهل الوصايا والصدقات الجارية من وصاياهم وصدقاتهم المحبَّسة. وكل ذلك في صحائفهم، لأنه من آثارهم. قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12].
وفي الصحيح: (عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ يعودني عامَ حجةِ الوداع من وجع اشتد بي، فقلت إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثَيْ مالي؟ قال لا، فقلت بالشطر؟ فقال لا، ثم قال: الثلث والثلث كبير أو كثير، إنك أَنْ تَذَرَ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس. وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في فـي امرأتك…).
وتستفاد من الحديث جملة من مزايا المال وصاحبه:
– فهو يوصي بجزء من مال في حدود الثلث، وله في ذلك فضل وأجر.
– ويترك الباقي لورثته حتى لا يكونوا من بعده فقراء يتكففون الناس، وله في إغنائهم فضل وأجر.
– وهو لا ينفق في حياته نفقة إلا كان له بها فضل وأجر.
– وحتى اللقمة التي يضعها في فم زوجته يكون له بها فضل وأجر.
إحسان التدبير واجتناب التبذير
المال نعمة من نِعَم الله على عباده. ونِعَم الله كلها تستحق منا التقدير والاحترام والعناية والرعاية. وقد أجمع العلماء على أن “حفظ المال” هو أحد الضروريات الخمس الكبرى، التي عليها مدار الشريعة ومقاصدِها. وحفظ هذه الضروريات — كما قرره علماؤنا — يكون من جانب الوجود، ويكون من جانب العدم. قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: “والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما: ما يُقِيم أركانها ويُثَبِّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم”[2].
والذي يُقِيم أركان المال ويُثَبِّت قواعده، هو اتخاذ الأسباب لتنميته وحسن تدبيره. ومن أهم شروط ذلك ووسائلِه: الادخارُ والاستثمار، أو الاستثمار المنطوي على الادخار. فالادخار الرشيد للمال لا ينفك عن استثماره وتنميته. ولذلك فإن الادخار يجب أن يكون قرينَ الاستثمار وحليفَه. أما الادخار العقيم غير المنتج، فهو مجرد تجميد للمال وتعطيلٍ لوظائفه التنموية والاجتماعية، بل هو إضاعة له، لأن التجميد هو نوع من التضييع، وقد نهي النبي ﷺ عن إضاعة المال، كما في الصحيحين وغيرهما.
وأما حفظ المال من جانب العدم فمن أهم أحكامه في الشريعة الإسلامية: تحريمُ التبذير والإسرافِ في الاستهلاك. قال تعالى {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27]. وفي صحيح البخاري: أن النبي ﷺ قال: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مَـخِيلة. وقال ابن عباس: كلْ ما شئتَ والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سَرَفٌ أو مَـخِيلة. والمخيلة هي حب الظهور بمظاهر الغنى والتفوق والأفضلية، سواء في اللباس أو الطعام والشراب أو الأثاث، أو غيرها من المظاهر والمقتنيات الاستهلاكية. فهي تدفع إلى الإسراف والتباهي، ولو بشكل غير معلن.
فهذه الآفات هي أعداء الادخار والاستثمار والتنمية والتدبير الرشيد للمال، فضلا عما تجره من أضرار ومفاسد صحية ونفسية واجتماعية. فالاستهلاك بلا حدود، مفسدة بلا حدود، حتى إن كثيرا من الأعمال والمجالس الدعوية والتربوية أصبحت تتضرر وتئن تحت وطأة السَّرَف والمخيلة والسلوك الاستهلاكي المرهق لأكثر الناس.
إننا نعيش اليوم في مجتمع يوصف بالمجتمع الاستهلاكي، وتوصف حياتنا بـ”نمط الحياة الاستهلاكية”، أي أن الاستهلاك المفرط أصبح من سماتها البارزة. فالأقلية الرأسمالية تراكم منتوجاتها وأرباحها، على حساب الأغلبية العظمى، التي لا تراكم سوى العبودية للاستهلاك ودورتِه المتحكمة المستحكمة.
فلذلك لا يليق بالمسلم المهتدي بنور الشرع، ولا يجوز له، أن يكون أسيرا مستسلما للاستهلاك والسلبية، لا يفعل سوى أن يَستهلك حتى يُستهلك، وكأنما يتماهى مع مقولة عرب الجاهلية “ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر”.
لا بد من التحكم العقلاني في أبواب الاستهلاك، وإغلاقِ ما يجب إغلاقه منها. ولا بد — مقابل ذلك — من طَرْق أبواب الاستثمار والتنمية وسلوك طُرُقها واتخاذ أسبابها. وليس هذا خاصا بذوي المداخيل الكبيرة كما يُظن، بل هو في حق غيرهم — من ذوي المداخيل الصغيرة والمتوسطة — أولى وآكد وأنفع. وما لا يمكن تحقيقه بالانفراد، يمكن تحقيقه بالتعاون والاشتراك وضمِّ القليل إلى غيره. وقد قيل: “القليل من الكثير كثير”، بمعنى أن المبالغ القليلة من عدد كثير من الناس تعطي في مجموعها مبالغ كبيرة وقدرة كبيرة.