بنيت الشريعة على مقاصد رئيسة، صلبها خمسة، هي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال، وزخرت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بنصوص تدل عليها، حتى كادت تكون محل اتفاق بين العلماء قديما وحديثا، ومن هنا كانت صيانة النفوس والأموال والأعراض من أوجب الواجبات، فهي مصونة بصيانة الشرع، والاعتداء عليها كبيرة من الكبائر وجريمة من الجرائم، لا فرق في الاعتداء عليها بين حاكم ومحكوم.

التورط في الجرائم وعقوباتها

والتورط في قضايا القتل والتعذيب والنهب والسرقة وغيرها إما أن يكون بحكم قضائي، أو خارج الحكم القضائي:

العقوبات القضائية

فإذا كانت العقوبة الواقعة على الأشخاص صادرة عن حكم قضائي صحيح، فلا ذنب لمنفذ الحكم من أجهزة الدولة؛ ولو كان الحكم خطأ؛ لأن هذا حكم صادر عن قضاء، وحكم القضاء نافذ، خاصة إذا كان جهاز تنفيذ الأحكام لا يعلم خلفية الحكم، وليس عنده يقين بأنه حكم جائر.

أما إن كان حكما جائرا؛ أو كان تنفيذ العقوبة خارج القضاء، فالواجب تعطيل العقوبة، أو التخلي عن تنفيذها؛ لعموم الأدلة من القرآن والسنة في تحريم الظلم وأذية المسلمين بغير حق، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ ‌يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]

ومن السنة ما ورد في صحيح مسلم من قول النبي : “إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا”. وقوله عند مسلم أيضا: “كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”.

وفي مسلم أيضا قول النبي : “صنفان من أهل النار لم أرهما؛ قوم معهم سياط كأذناب البقر يضرب بها الناس”، فثبت بنصوص القرآن والسنة أنه يحرم تعذيب متهم بلا بينة وبلا حكم قضائي صحيح وفق أصول القضاء في الإسلام.

إسقاط العقوبة في حدود الشريعة

أما عن إسقاط العقوبة عن المجرمين من قبل المسؤولين فإنه يختلف باختلاف نوع العقوبة، وذلك على النحو التالي:

أولا: إسقاط العقوبة في الحدود الشرعية

وإسقاط العقوبة في الحدود الشرعية له حالتان:

الحالة الأولى: وصول الأمر إلى الحاكم

ذهب جمهور الفقهاء في المذاهب الأربعة إلى أن الحدود لا تسقط بعد رفعها إلى الإمام، ولا يجوز للحاكم إسقاطها، ولا الشفاعة فيها بعد رفعها للإمام، وذلك لعموم الآيات، منها، قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: 1]، وقوله سبحانه: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ [البقرة: 187].

ولما ورد في صحيح البخاري بسنده عن عائشة – رضي الله عنها- أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقال: ومن يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ، فكلمه أسامة. فقال رسول الله :” أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها. وفي سنن أبي داود: ” تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني فقد وجب”.

وفي مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله في خلقه.

ذهب الفقهاء إلى جواز إسقاط العقوبة إن كانت قصاصا وتنازل أصحابها عن حقهم؛ لأن القصاص حق من حقوق العباد

الحالة الثانية: قبل وصول الأمر إلى الحاكم

أما قبل وصول الأمر إلى الحاكم، فعند جمهور الفقهاء أنه تجوز الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه ، لأن وجوب الحد قبل ذلك لم يثبت . فالوجوب لا يثبت بمجرد الفعل .

وقال مالك : إن عرف بشر وفساد فلا أحب أن يشفع له أحد ، ولكن يترك ليقام عليه الحد.

ثانيا: في حالة القصاص

ذهب الفقهاء إلى جواز إسقاط العقوبة إن كانت قصاصا وتنازل أصحابها عن حقهم؛ لأن القصاص حق من حقوق العباد، ولأنه متعلق بالمصلحة الخاصة والمنفعة الفردية، ولا يعرف في ذلك خلاف بين الفقهاء، والأدلة عليه كثيرة، منها: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 40]، وقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: 45] 

وفي صحيح ابن حبان من حديث أنس:” من اعتبط مؤمنا فهو قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول”، ولحديث البخاري:” من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يعفو، وإما أن يقاد”.

ثالثا: في التعزيرات

والتعزيرات إما أن تكون حقا لله، فليس فيها حد، كالرشوة والربا وتقبيل أجنبية ونحو ذلك، وفيها التوبة إلى الله ما بين العبد وربه.

وإما أن تكون حقا للعبد، فيجوز فيها العفو وإسقاط العقوبة، وهو ما عليه المذاهب الأربعة، واستدلوا بحديث أبي داود: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود”، ولقوله : “تجافوا عن عقوبة ذوي المروءة”، وقوله في الأنصار في صحيح مسلم : “اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم”.

رابعا: سقوط العقوبة بالشبهة

أجمع الفقهاء على أن الحدود تدرأ بالشبهات، لقوله : “ادرءوا الحدود بالشبهات”. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ” ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة “. رواه الترمذي في سننه.

إن كان تنفيذ العقوبة صادرا عن حكم قضائي، فلا ذنب لمنفذه، إن لم يظهر له الظلم في الحكم.

خامسا: إيقاف العقوبة

يجوز للحاكم إيقاف تنفيذ العقوبة في حالات، من أهمها:

  • حالة المرض الذي يرجى شفاؤه. لحديث علي  في الأمة الزانية وكانت حديث عهد بنفاس، فقال له النبي:” أحسنت، اتركها حتى تماثل”. رواه مسلم.
  • حال الحمل؛ لحديث الغامدية وحديث الجهينية.
  • حال النفاس، لحديث علي السابق.
  • حال الرضاع: وهو محل خلاف بين الفقهاء بين من يرى الرضاع سببا لإيقاف إقامة الحد، وهو رأي جمهور الشافعية، ورواية عن الحنابلة، مستدلين بما ورد في حديث الغامدية:” إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه”.

ومن الفقهاء من رأى إيقاف الحد على المرضع إن لم يجدوا للطفل مرضعا، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في روايات لهم.

  • أن يخشى عليه الهلاك في مثل حالات الحر  والبرد الشديدين وغيرهما.
  • اتفق الفقهاء على أن حد قطاع الطريق والردة يسقطان بالتوبة إذا تحققت توبة القاطع قبل القدرة عليه، وكذلك حد ترك الصلاة عند من اعتبره حدا، وذلك لقوله تعالى : ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ ‌تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 34]

  واختلفوا فيما ذلك على ثلاثة آراء:

الأول: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بقية الحدود لا تسقط بالتوبة بعد رفعها إلى الحاكم، ولا أثر للتوبة في ذلك من شيء.

الثاني: التوبة تسقط الحد إذا عرف من الجاني التوبة الصادقة، وهو مذهب الحنفية، وراية عند الشافعية والحنابلة.

الثالث: التوبة لا تسقط الحد مطلقا، لا قبل رفعها للإمام ولا بعد الرفع، وهو مذهب المالكية والأظهر عند الشافعية. وعللوا ذلك ألا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدود.

خلاصة القول

إن كان تنفيذ العقوبة صادرا عن حكم قضائي، فلا ذنب لمنفذه، إن لم يظهر له الظلم في الحكم.

أما إن كانت العقوبة خارج القانون؛ فإن كانت تتعلق بحد من حدود الله، كالسرقة والقتل ونحوهما؛ فلا يجوز إسقاطها بأي حال من أحوال، وإن كانت من القصاص؛ فيجوز إسقاطها بعد عفو صاحب القضية، وإن كانت من التعازير التي تتعلق بحق من حقوق العباد؛ فيجوز إسقاطها بالرضا.