بدأت حياة الإنسان الأول على الأرض في حالة بدائية، حين هبط آدم عليه السلام إلى الأرض، لم يكن هناك بيتٌ يأوي، ولا سيارة لآلة النقل، لكن تطورت الأجيال تلو الأخرى، فأبدع الناس في توظيف ما سخر الله لهم، فانتقل العيش على وجه المعمورة من البدائية والتخلف إلى التحضر والإعمار. إن وجود الإنسان على الكرة الأرضية يعني مواجهة الإنسان للطبيعة واستعمار الأرض بجهد إنساني؛ مع مراعاة المعية الإلهية (عبادة). ولعلنا نلمح منذ سقوط الخلافة الإسلامية أن أمم الأرض-ظاهريا- قدمت وسائل مادية تسهّل الحياة على الإنسان أكثر من مساهمة الأمة الإسلامية، وهنا حاول علماء الأمة تفسير وضعية التخلف في الأمة وقلة إسهاماتها في مجال الحضارات المادية الجديدة، فكان من أهم نتائج ذلك ما يأتي:
قراءات في الفكر الإسلامي المعاصر
التيار التربوي: تربية الأمة لأبنائها على فهم دينها هي ما أحدث النبي عليه السلام بها تغييرا، وهي الحل والعلاج. يرى تقي الدين النبهاني وسعيد النورسي أن الحل هو حسن فهم الإسلام وتطبيقِه، وأن الفكر طريق إعادة البناء.
ولعل المدرسة السلفية من التيارات التربوية إلا أنها تهتم بالدين من حيث إنه إصلاح روحي، ولا توظفه في سبيل نهضة مادية أو محاربة التخلف.
التيار الإصلاحي: ويضع أصحاب هذا الفكر أمامه، وضمن أهدافه الإصلاح والنهضة، ويختار هذا التيار التربية وإصلاح التعليم وتنمية الوعي الثقافي بين الشعب الحل لتخلف الأمة، وروج “إصلاح التعليم” في إطار نظريات التعليم في الدول الصناعية المتقدمة. ويسيطر على قائمة المتحمسين لهذه الطريقة أمثال محمد عبده، ومالك بن نبي. حاول محمد عبده التوفيق بين الاستعمار والإصلاح، بينما سعى مالك بن نبي إلى تقبل الاستعمار وإظهار دور المسلم في الإصلاح بدون معاداة!
تيار أسلمة المعرفة: أكثر المنادين بها من خريجي الجامعات الغربية، على رأسهم محمد نقيب الأتاس وإسماعيل الفاروقي وعبد الحميد أبو سليمان ومحمد كمال حسن. يرون حاجة الأمة إلى الاستفادة من نتائج التقدم في مجال التعليم في الغرب، لكن يجب أن يتم هذا متزامنا مع عملية تهذيب وغربلة ليتوافق مع المبادئ الإسلامية والأعراف المحلية.
تيار الحركة الإسلامية: وهي حركة إصلاحية أخرى رأت إنهاء أزمة التخلف متوغل في إصلاح القيادة والحكومة. فأصبحت السياسة والوصول إلى الحكم من أسمى مهامها، وأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن والموعظة. وإن تطبيق الشريعة وإيجاد مجتمع إسلامي صالح يكفل بنجاح الأمة، فتنعم بحياة رغيدة في أمان وسلام وازدهار حضاري. ولا يخفى أن حسن البنا والمودودي وسيد قطب أبرز رواد هذه المدرسة.
التيار الوسطي: يرى القرضاوي ومحمد الغزالي ومحمد عمارة وغيرهم أن إشكالية الأمة تكمن في تشوه الرؤية وعدم التوازن في الفكر، فلا بد للأمة من الجمع بين العقل والوحي، والدنيا والآخرة، والمادة والروح، وغيرها من معالم الوسطية.
التيار العقلاني: يرى حسن الترابي ومحمد أركون وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري ومن قبلهم طــه حسين أن مبالغة المسلم في التمسك بحرفية أحداث التاريخ الإسلامي وعدم القدرة إلى إيجاد منهجية الخروج من أزمة التخلف هي المعضلة الحقيقية. وعليه فإن الدين حق لكن يحدده تطورات اجتماعية وسياسة راهنة، ويرشده العقل البشري المرن والمتحرك وليس النص الثابت والجامد.
التيار الجهادي: يوصف هذا التيار بالحماسة التي تخرجهم عن الاعتدال في طلب الإصلاح والتغيير إلى الاحتدام، وذلك من فرط غيرتهم على الدين والشعب، ورأووا الحل الأمثل للحالة الراهنة إعلان الجهاد، رغم أن أتباع هذا التيار في أصل فكرهم قد لا يخرجون عن إطار فكر التيارات المتقدمة، وينبهر بهذا الفكر فئة الشباب أكثر؛ وزادت حدة هذه الحركة إما من سوء التصرف، أو لانعدام احتواء قادة المسلمين لهم، أو لأطماع شخصية منهم، التي يقدمها بعض هذه الجبهات على مصلحة الأمة، ومنه قيل إن هذا التيار يؤمن بأن: “السيف أصدق أنباء من الكتب.
الحل التوحيدي
ونلاحظ أن بعض هذه التيارات المذكورة يجمعها مبدأ التوحيد، وأنه الحل لمعالجة التخلف، وأنه يجب على المسلمين أن ينطلقوا من الرؤية التوحيدية، ويربطونها بجميع أبعاد الحياة الأخرى.
يقول الألباني في رسالته التوحيد أولا يا دعاة الإسلام: “قد أمر النبي ﷺ أصحابه أن يبدؤوا بما بدأ به وهو الدعوة إلى التوحيد” ويقول أيضا: “نبدأ بما بدأ به نبينا ﷺ وهو إصلاح ما فسد من عقائد المسلمين أولا ، ومن عبادتهم ثانيًا ، ومن سلوكهم ثالثًا.
وكذا سيد قطب مع انتمائه للتيار الحركي يرى في كتابه “مقومات التصور الإسلامي، وخصائص التصور الإسلامي” معرفة التوحيد وحقيقة الكون والحياة والإنسان هي الشعلة التي ستحرك المسلم نحو الحركة الإسلامية، وأن المعرفة النظرية المجردة للتوحيد ليست كافية، بل لا بد أن تصاحبها حركة وثمرة إنتاج.
ويجد المتتبع لكتب القرضاوي (الوسطية) ما يؤكد هذه الحقيقة. يذكر القرضاوي في مقدمة كتابه “الإيمان والحياة” أن الإيمان والدين والتوحيد هو المفتاح الوحيد للشخصية الإسلامية عموما والعربية على وجه خاص، وهو سر نجاحه وتقدمه. “ومهما نحاول أن نذكي هذه الشخصية، وأن نفجر طاقاتها المكنونة بغير مفتاحها الأصيل -وهو الدين والإيمان – فإننا نحاول عبثاً، كمن يبني على الماء أو يكتب في الهواء”.
وألف الفاروقي كتابا عن العقيدة أسماه: “التوحيد ومضامينه على الفكر والحياة”، سعى فيه إلى تعريف الشباب المسلم برؤية الإسلام للوجود، على أمل التحرك بهم مسلحين بالوعي بتلك الرؤية على طريق الإصلاح الحقيقي للنفس، وتمكينهم من تحديث معطيات الرؤي الفكرية المبكرة التي قدمها رواد الحركة السلفية العظام من أمثال محمد بن عبد الوهاب ومحمد إدريس السنوسي، وحسن البنا، ونظرائهم، وإلى تسليط الضوء على العلاقة الوثقى ىبين الإسلام وكل مجالات الفكر والنشاط الإنسانيين.
يرى الباحث أن علاج التخلف يأتي من خلال احتواء الحركات الفكرية المذكورة، والتوفيق بين مقترحاتها المختلفة، مع التوازن بين مصالحها ومفاسدها، والتأكيد على دور الدين والتدين في نهضة الأمة، وإبراز معنى وحدة الأمة في علاج مشاكلها بين أصقاعها المتباعدة، ومحاولة توجيه الخطابات الدينية بما يدعم هذه الأمور. وإن التركيز على سلبيات هذه التيارات الإسلامية، والتغاضي عن إيجابياتها لن تجدي الأمة نفعا، بل يعمق جرحها وتزيد من نزيفها، وتتحرك في الحلقة المفرغة، وهذا ما يعيشه المسلمون اليوم، فلا أحد يريد أن يستوعب الآخر!