يعتبر علم التفسير من أقوى العلوم صلة بالقرآن الكريم، وقد أعطته هذه الصلة مكانة كبيرة وعناية عظيمة من طرف المشتغلين بالقرآن وعلومه عبر التاريخ، فحرصوا على تطويره ووضع ضوابط وأسس منهجية تعصم المهتمين به من الزلل والخروج على منهج السلف الصالح الذين أخذوا هذا العلم عن النبي ﷺ، فأصبحوا أقرب الناس جميعاً إلى فهم القرآن الكريم وتفسير وتوجيه معانيه . ولا شك أن المتتبع لحركة علم التفسير يلاحظ أن هناك كمية لا بأس بها من الكتب التي اعتنى أصحابها بتطوير هذا العلم، حيث أُلفت مصنفات عديدة حول أصول التفسير وقواعده ومناهجه وضوابطه ومجالات تجديده، ولعل من أحدث الكتب صدرواً في هذا المجال كتاب “صناعة التفكير في علم التفسير”، الذي يأتي ضمن سلسلة “صناعة التفكير الشرعي”، التي يصدرها مركز تمكين للدراسات والأبحاث، ويتناول كل عدد منها مجالاً معنياً من مجالات الشريعة.
وقد اخترنا في هذه المقالة أن نُقدِّم إضاءات حول كتاب “صناعة التفكير في علم التفسير”، الذي يناقش مجالات مهمة من علم التفسير، من خلال أربعة أبحاث كتبها متخصصون في الدراسات القرآنية، وهي: “صناعة الدليل في علم التفسير”، و”صناعة الصياغة في علم التفسير”، و”صناعة التوجيه في علم التفسير”، و”صناعة التجديد في علم التفسير”.
صناعة الدليل
في البحث الأول (صناعة الدليل)، يناقش الدكتور نايف بن سعيد الزهراني، أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن في جامعة الباحة، مفهوم الدليل وأهميته وأدلة المعاني وأنواعها وأصول ترتيبها، فيؤكد أن الدليل عند العرب يُعرّف بأنه المرشد والموصل إلى المطلوب، وأن التفسير لغة هو “الكشف والبيان”، أما تفسير القرآن فيعني بيان المعنى اللغوي المراد من الآية أولاً، ثم تحديد المعنى الدقيق ثانياً. ولتوضيح ذلك، دعونا ننظر -مثلاً- إلى قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا}، سنجد أن أوّل التفسير هو أن العاديات لغة تعني (الجاريات)، أما تحديد المراد فهو الكشف عن المقصود هنا هو الخيل أم الإبل؟ وهذا هو عمل المُفسر[1].
وللدليل أهمية عظيمة لا تخفى على ذي بصيرة، فهو أمر مطلوب لكل صاحب حجة، وتتأكد أهمية الدليل عندما يتعلق الأمر بالقرآن الكريم، فالمتكلم في كتاب الله بغير علم معرّض لوعيد شديد، وقد جاءت الإشارة إلى هذا الوعيد في قول الله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}، وفي الحديث الشريف: “من قال في القرآن بغير رأيه أو بما لا يعلم فليتبوّأ مقعده من النار”، وعند الصحابة، قال أبو بكر رضي الله عنه: “أي سماء تُظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم”.
ونظراً لخطورة غياب الدليل في علم التفسير ، قال العلماء بتحريم التفسير بالرأي في بعض السياقات، منها: التفسير بغير دليل أي بمجرد الظن أو الهوى، والتفسير بالدليل الباطل كتفاسير الفلاسفة والباطنية، والتفسير ببعض الأدلة وتجاهل الأدلة الأخرى، وقد عبّر القرطبي عن هذا الاتجاه بقوله: “من يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي.
ولعل مما يؤكد أهمية الاستدلال في علم التفسير أنه علم غير جديد في الحضارة الإسلامية، بل تعود نشأته وتشريعه إلى قول النبي ﷺ وفعله، ومن الإشارات التي تؤكد لنا هذا الادعاء حديث ابن مسعود رضي الله عنه: “لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقّ ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي ﷺ: ليس بذلك، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، إنما هو الشرك.
وبعد أن عرفنا ماهية الدليل وكشفنا عن أهميته ومخاطره، أصبح من الجائز أن نتساءل عن أدلة المعاني في علم التفسير وما ترتيبها؟ تنقسم أدلة المعاني باعتبار مصدرها إلى قسمين: نقلية وهي التي مصدرها النقل والخبر والسماع، ومنها: القرآن الكريم، والقراءات، والسنة النبوية ، وإجماع أهل التأويل، وأقوال أهل التفسير، ولغة العرب، وأحوال النزول، أما الأدلة العقلية فهي التي مصدرها العقل والنظر، ومنها: السياق، والنظائر، والدلالات العقلية، وقد أشار ابن تيمية إلى هذه الأدلة بقوله: “العلم إما نقلٌ مصدَّق، وإما استدلالٌ مُحقَّق”، وهناك مجموعة من الأصول التي ينبغي الاعتماد عليها في ترتيب أدلة المعاني، ومنها: ترتيب الأدلة حسب الاستحقاق، والتعارض والترجيح بين الأدلة.
صناعة الصياغة
تحت هذا العنوان يحدثنا الدكتور عبد الرحمن بن عادل عبد العال المشد، باحث في الدراسات القرآنية، عن مفهوم الصياغة وسماتها وأنوعها وضوابطها، فيقول إن المقصود بالصياغة هو “طريقة سبك معاني القرآن الكريم“، وهنا تبدو أهمية الصياغة في علم التفسير واضحة جداً، ونظراً لتلك الأهمية فقد “بذل المفسرون من لدن السلف رضي الله عنهم إلى عصرنا الحاضر جهوداً مضنية لتحسينها وضبطها، وكانت لهم فيها طرق متنوعة[2].
وإذا نظرنا إلى طُرُق الصياغة التفسيرية عند السلف الصالح، سنجد أنها تتلخص في طريقتين رئيسيتين، هما: بيان المعنى اللغوي (أي بيان اللفظة بما ورد في لغة العرب)، وبيان المعنى السياقي (أي بيان اللفظة حسب سياقها في الآية)، وقد أشار ابن القيم (ت: 751 هـ) إلى هذا الأمر فقال: “وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول: تفسير على اللفظ وهو الذي ينحو إليه المتأخرون، وتفسير على المعنى وهو الذي يذكره السلف، وتفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم”.
ومن هنا، فإن الصياغة التفسيرية لها سمات عديدة لخّصها المؤلف في قسمين: سمات ذاتية، وسمات عارِضة، فالسمات الذاتية تتمثل في أمور، منها: العناية بالمعنى الإجمالي دون الخوض في التفاصيل، والعناية بالمعنى السياقي للآية أكثر من العناية بالمعنى اللغوي، وجزالة اللفظ مع اتساع المعنى، أما السمات العارِضة فتتمثل في استخدام الأساليب المتعددة، مثل: أسلوب السؤال، وأسلوب التكرار، وأسلوب الخطاب، وأسلوب القسم، وأسلوب الأمر.
ويبدو أن الدكتور المشد قد تتبع طُرُقَ مدونات التفسير في أنواع الصياغة التفسيرية بداية من القرن الثالث الهجري، مروراً بالقرن الرابع عشر، وانتهاءً بالعصر الحاضر، فتوصل إلى أن أنواع الصياغة كثيرة، وكشف عن قسمين: الأول هو الصياغة العامة وتتمثل في حوالي 12 نوعاً، منها: الجمع بين التفاسير، والتفسير المَوْضِعي، والتفسير الموضُوعي، والاشتراك في التأليف، أما القسم الثاني فهو الصياغة وفق الاعتبارات المتعددة، ومنها: الصياغة باعتبار القدْر المفسَّر، والصياغة باعتبار الطول والقصر، والصياغة باعتبار طريقة السرد.
وبما أن التصدي لبيان كلام الله جل جلاله يُعدُّ مهمة عظيمة وشاقّة، كان لا بد للعلماء أن يقوموا بوضع ضوابط للصياغة في التفسير، ومن أهم تلك الضوابط: حسن البيان، ومراعاة التفسير للنص المفسّر، وترتيب الصياغة حسب ألفاظ الآية، ومراعاة حال المخاطَب.
صناعة التوجيه
أما في البحث الثالث (صناعة التوجيه)، فيقدم الدكتور خالد بن يوسف الواصل، مدير تحرير مجلة الإمام الشاطبي للدراسات القرآنية، إضاءات حول مفهوم التوجيه ونشأته وأهميته في بيان توجيه أقوال المفسرين ونقاش الأوجه المحتملة.وإذا أردنا استعراض نقاش الأفكار التي شغلت الباحث في هذا المحور، ينبغي أن نبدأ بالإجابة على سؤال: ما معنى التوجيه؟ التوجيه فن من فنون الكلام وأنواع العلوم، وقد عرّفه ولي الله الدهلوي (ت: 1176 هـ) بقوله: “وحقيقة التوجيه هي أنه إذا وقعت صعوبة في فهم كلام المؤلف -مثلاً- يقف الشارح عند ذلك، يُيسِّر هذه الصعوبة، ويحل كل غموض”.
وما دمنا قلنا إن التوجيه يوجد في أنواع العلوم، لا بد أن نضيف أن معناه يختلف من علم إلى آخر، ففي علم البلاغة -مثلاً- يعني التوجيه إيراد الكلام محتملاً لوجهين مختلفين، أما التوجيه في علم التفسير -الذي هو موضوع حديثنا- فقد عرّفه ولي الله الدهلوي في كتابه “الفوز الكبير في أصول التفسير” بقوله: “ويُراد بالتوجيه بيان وجه الكلام ومعناه”، والدهلوي يقصد كلام الله جل جلاله، ولعل من المهم هنا القول إن هناك نوعاً آخر من التوجيه لم يتوقف مع الدهلوي ولكن اعتنى به جهابذة المفسرين، وهو توجيه أقوال المفسرين والكشف عن الأسس التي بنيت عليها تلك الأقوال.
ولتوجيه أقوال المفسرين أهمية بالغة، فهو عملية تمرّ بمراحل عدة بهدف الوصول للمعنى السليم انطلاقاً من أقوال السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، لأن تفسير القرآن لا يُفهم على الوجه الصحيح مع الإعراض عن أقوال رجال السلف رضي الله عنهم، نظراً لدقة فهمهم وصحة علمهم، ومن هنا فإن غايات توجيه أقوال المفسرين عديدة، ومنها: محاولة الوصول إلى مقاصد المفسرين، ومعرفة العلل التي دفعت المفسّر إلى اختبار قول أو أسلوب معين، وتصحيح الأقوال وبيان وجاهتها في كثير من الأحيان[3].
ومن الواضح أن التوجيه في التفسير ليس أمراً جديداً على علم التفسير، فقد نشأ مع نزول القرآن الكريم، وكان الصحابة يستشكلون معنى بعض الآيات فيُبينه النبي لهم ويوجّهه، ومن أمثلة ذلك حديث ابن مسعود الذي سبق ذكره، أما توجيه أقوال المفسرين فهو عملية متأخرة عن نزول القرآن الكريم، ويمكن أن نجد لها إشارات عند بعض أتباع التابعين، ولكن يبدو أن أول من اعتنى بتوجيه أقوال المفسرين بصورة كاملة هو إمام المفسرين محمد بن جرير الطبري، ثم سار على نهجه من جاء بعده، وخاصة محمد ابن عطية الأندلسي (ت: 542 هـ).
ولتوجيه أقوال المفسرين أسس وضوابط وآداب، فمن أسسه: معرفة أساليب المفسرين وطرق تعبيرهم عن المعنى، والانطلاق في التوجيه من مستندات معتبرة، والنظر في الأحوال والملابسات والقرائن، أما الضوابط والآداب فمنها: الإلمام بالعلوم التي يُعتمد عليها في توجيه أقوال المفسرين، وتحرير موضع الإشكال وسببه، وعدم المسارعة إلى انتقاد أقوال المفسرين، هذا بالإضافة إلى بلوغ مرحلة الإتقان لفن التوجيه، والتجرد في توجيه أقوال المفسرين مع سلامة القصد[4].
صناعة التجديد
في البحث الرابع والأخير (صناعة التجديد)، نجد الباحث في الدراسات القرآنية محمد بن عبد الرحمن الطاسان يركّز على نقاش مفهوم التجديد في علم التفسير ومجالاته وضوابطه، وبمناسبة الحديث عن المفهوم يمكن القول إن التجديد يقوم على ثلاثة أمور، أولها أن مادة التجديد في المعاجم تدور حول العظمة والحظ والقطع، وثانيها أن التجديد لا يكون إلا عند حدوث الخَلَق والدروس والاندثار، وثالثها أن التجديد هو تفسير القرآن الكريم كما فسّره النبي ﷺ والصحابة والتابعين[5].
وما دام التجديد في التفسير لا يُصبح ضرورياً إلا عندما يقع دروس واندثار لشيء من أصوله أو فروعه، فإن أهمية التفسير تبدو جلية إلى حد بعيد، حيث يتم من خلالها معرفة مدى خطورة الآثار المترتبة على عدم التجديد عند اندثار شيء منه، ذلك أن اندثار شيء من علم التفسير يؤدي دائماً إلى الانحراف في الاعتقاد والفهم للقرآن الكريم والعبادات والسلوك، ولهذا نجد في مجموع فتاوى ابن تيمية إشارة إلى أن خروج الخوارج واستباحتهم لدماء المسلمين كان من أسبابه الرئيسية سوء فهمهم للقرآن الكريم مع أنهم قصدوا اتباعه[6].
ولكن ما مجالات التجديد وضوابطه؟ يجوز القول إن مجالات التجديد في علم التفسير متعددة ويصعب حصرها، ومع ذلك يمكن إجمالها في مجالين، هما: التجديد في أصول التفسير، والتجديد في تفسير معاني الآيات القرآنية، أما ضوابط التجديد في التفسير فيمكن تقسيمها إلى قسمين: ضوابط عامة وضوابط خاصة، فالضوابط العامة تتمثل في النية الصالحة في تبليغ الدين ونصرته وإيضاحه، ثم الالتزام بأصول التفسير وقواعده، مثل: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة.
أما الضوابط الخاصة، فقد أكد مؤلف كتاب ” صناعة التفكير في علم التفسير ” أنها تتعلق بالمعاني المحتملة في تفسير الآيات، ومنها: أن يكون المعنى المفسّر به صحيحاً في ذاته، وأن تحتمل الآية بسياقها هذا القول الحادث، وأن لا يبطل قول السلف الصالح، وأن لا يقصر معنى الآية على ما ظهر من الاحتمال أو التفسير الحادث.
[1] انظر، صناعة التفكير في علم التفسير، 19-20.
[2] المصدر نفسه، 111.
[3] انظر، المصدر نفسه، 181.
[4] انظر، المصدر نفسه، 208.
[5] صناعة التفكير في علوم التفسير، 232.
[6] انظر، المصدر نفسه، 235.