على الرغم من اعتراف أغلب الأكاديميين والباحثين في الغرب بحقيقة أن عبد الرحمن بن خلدون هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع، إلا أنهم ما زالوا يتردوون في الاعتراف بإسهاماته في علم الاقتصاد الذي وضع ابن خلدون العديد من أسسه وقد بدا ذالك واضحا من خلال ما كتب عنه في كتابه “المقدمة”، بدأ الغربيون اهتمامهم بتراث ابن خلدون مع بدايات القرن الثامن عشر حيث تمت ترجمة العديد من أعماله إلى اللغة الفرنسية عن طريق مجموعة من الباحثين ضمنهم ناشته (1945)، العيساوي (1950)، سبينكلير (1964) وغيرهم وقد ساهمت هذه الترجمات في معرفة الكثير عن ثرات ابن خلدون واسهاماته في مجال الاقتصاد، ومما جعل ابن خلدون يكتسب كل هذا الاهتمام كأكثر العلماء اسهاما معرفيا في القرون الوسطى هو منهجيته التحليلية للظواهرالاجتماعية والاقتصادية التى عالجها ضمن كتبه، حيث أنه لم يكن يشبه علماء المسلمين الذين عاصروه بل كان يفوقهم قدرة على التحليل الذي يستند إلى المنطق والأدلة سنحاول في هذا المقال تتبع تراث ابن خلدون الاقتصادي.
نظريات ابن خلدون الاقتصادية
من الملاحظ أن نظريات ابن خلدون في علم الاقتصاد قد غابت أو غيبت تماما عن مناهج البحث الأكاديمي التاريخية، حيث يظهر التراث العلمي المترجم لابن خلدون سيطرة علم الاجتماع والتاريخ على هذه الترجمات في حين أن ابن خلدون قدم استقراء للعديد من الظواهر الاقتصادية التى طبعت عصره و قدم لها تحليلات عميقة تستند للمنطق، فمثلا يقول في ما يتعلق بزيادة الضرائب وتأثيراتها على الدولة والمجتمع : “إن زيادة الجبايات على الناس من طرف السلطان المتغلب بعصبيته يؤدي إلى فساد الرعية وانصرافها عن الصنائع وانتشار الفتور والوهن واليأس بين أفرادها فتكون الدولة مهددة بالانهيار مع أول عدوان عليها حيث أن الناس سيتغلبون بالعصبية الجديدة على السلطان الجائر”.
ولا تتوقف نظريات ابن خلدون على الضرائب فقط بل قدم كتابات كثيرة حول الفائض في المفهوم الاقتصادي، والسياسات التوجيهية للاقتصاد والتي ترتكز عليها الكثير من النظريات المعاصرة، كما كتب حول نقص الإنفاق الحكومي على الجيش وتوجيه هذه النفقات إلى التعليم والتنمية البشرية، وهذه النظرية تتبناها بعض الدول النامية اليوم حيث لجأت بعض هذه الدول إلى تقليص حجم الإنفاق العسكري وزيادة الإنفاق على الخدمات التعليمية والتكنولوجيا، وقد شهدت الدول النامية التى تبنت هذه النظرية صعودا ملفتا في الإنتاح وتطورا ملحوظا في انتعاش الاقتصاد.
في مجال التبادل التجاري يعارض ابن خلدون الضرائب والتعريفات الجمركية ويعتبرها تحد من فاعلية التبادل التجاري وتعتبر نظريته في مجال تحرير التجارة أحد مرتكزات منظمة التجارية العالمية، الكثير من نظريات ابن خلدون في الاقتصاد أصبحت اليوم وجهة للباحثين والأكادميين نتيجة لفاعليتها. ويعتبر ابن خلدون أول من استخدم التحليل الإقتصادي في التنبؤ بنهوض وسقوط الحضارات، والممالك والدول، فمن خلال منهجيته القائمة على التحليل في استخدام المنطق واستنطاق التجارب استطاع ابن خلدون تقديم منهجية علمية تحليلية في معرفة الجانب الإقتصادي في إنهيار وسقوط الدول.
من نظريات ابن خلدون التى تستخدم بشكل كبير من قبل الاقتصاديين المعاصرين ما يعرف بـThe Division of Labor” “نظرية تقسيم العمل” وهي طريقة تنظيم الإنتاج حيث يتم تخصيص كل عامل لجزء مخصص من هذه العملية، ومن ميزات هذه النظرية أنها تمنح فرص للعاملين بكسب مهارات في الأجزاء التي يتم تكليفهم بها، وقد اعتمد الأب الروحي للاقتصاد الكلاسيكي آدم شميث في كتابه ثروة الأمم على نظرية ابن خلدون في تقسيم العمل و أكد ذلك شومبيتر في كتابه “تاريخ التحليل الاقتصادي” حيث اعتبر أن ابن خلدون “كان عميقا في التحليل أكثر بكثير من آدم سميث”. وارتكزت نظرية تقسيم العمل عند ابن خلدون على ثلاثة محاور : محور وحدة الإنتاج، محور المجتمع، محور الخارج.
علاقة الدولة بالاقتصاد عند ابن خلدون
يرى ابن خلدون أن دور الدولة في مجال الحياة الاقتصادية لا يقتصر على سن القوانين التنظيمية للأسواق والنشاطات الاقتصادية، فتطبيق حقوق الملكية وحماية طرق التجارة والأمن من الأدوار الهامة للدولة التى يحتاجها المجتمع من أجل تحقيق النهضة والتطور الاقتصادي. إن زيادة الفائض الاقتصادي هو نتيجة حتمية لخدمة الدولة ورعايتها تنظيميا للنشاطات الاقتصادية حسب نظرية ابن خلدون الاقتصادية.
ويوسع ابن خلدون حديثة عن دور الدولة حيث يؤكد أن الدولة إذا أرادت توسيع نطاق البيروقراطية والإفراط في الإنفاق العسكري عن طريق فرض الضرائب فسيؤدي ذلك بشكل مباشر إلى ضعف الإنتاج وتقييد التجارة والنشاطات الاقتصادية ونتيجة لذلك سيتقلص الفائض الاقتصادي، فالسلطة المطلقة للدولة عند ابن خلدون تتسب في تراجع الرخاء الاقتصادي وضعف الدولة المدنية، فالكثير من أصحاب المشاريع تثنيهم سياسات البيروقراطية عن الانخراط في النشاطات الاقتصادية.
بالنسبة لابن خلدون، يجب على الدولة أن تتحمل مسؤولية تحقيق الاستقرار من خلال تنفيذ الأشغال العامة وتوفير العمالة وخلق الثقة. وكجزء من سياسة تحقيق الاستقرار هذه، ينبغي للدولة أن تبني الطرق والمراكز التجارية وغيرها من الأنشطة التي تشجع الإنتاج والتجارة. أما “التدخل المباشر للدولة في النشاط الاقتصادي عن طريق الانخراط في التجارة” فسيؤدي إلى تراجع الدولة والأنشطة الاقتصادية، ونتيجة للتدخل الحكومي في الشؤون التجارية والاقتصادية، سيتم منع أصحاب المشاريع من التداول والاستثمار وتحقيق الأرباح في مشاريعهم.
قدم ابن خلدون الكثير من النظريات الاقتصادية التى بنيت على التحليل والنقد، واستخدمت الكثير من هذه النظريات من طرف الاقتصاديين والأكاديميين الغربيين وبنوا عليها نظريات جديدة ساهمت في تطور علم الاقتصاد لديهم، ولم يكن لدولنا المعاصرة من التراث العلمي الزاخر للعلامة ابن خلدون سوى نظرياته التى عدلها الغربيون وعلبوها لتكون جاهزة للتصدير إلى دولنا، فإلى متى نهمل موروثنا ونحن أحق به؟