أثير عبر شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي قيام بعض الدعاة بنشر دعاية تجارية لبعض الشركات أو المؤسسات، يدعو فيها بعض الدعاة المشاهير الناس إلى شراء ” شاي”، أو ” قهوة”، أو بعض السلع الغذائية مثل:” الدجاج” وغيرها، مما أثار حفيظة بعض متابعي هؤلاء الدعاة، وأنه ما ينبغي لهم أن يقوموا بمثل هذا العمل.
والحق أن هذا الأمر يلفت الانتباه إلى دور الداعية في المجتمع، ورغم أنه قد يقال إن الداعية شخص مثله مثل غيره، فمن حقه شرعا أن يقوموا بمثل هذا العمل..
إلا أن النظر إلى الأمر بتمعن يثير تساؤلات: وهل لو كان هذا الشخص عاديا وليس داعية هل سيكون له مثل تأثيره غيره فحسب، أم أنه وظف شهرته الدعوية وجمهوره الدعوي الذي ينتظر منه التوجيه والإرشاد والدعوة إلى الله تعالى، وبيان كيفية حفظ الدين والشعائر في أمر دنيوي، فهو نوع من استغلال الدين في أمر الدنيا.
إن وظيفة الداعية إلى الله تعالى هو إرشاد الخلق إلى الحق، وتقريبهم إلى الله تعالى وحسن عبادته، وحثهم على التحلي بفضائل الأخلاق ومكارم الأحوال، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
قال ابن كثير– رحمه الله- في تفسير هذه الآية : أي وهو في نفسه مهتد بما يقول فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعدّ وليس هو من الّذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر، ويأتونه، بل يأتمر بالخير ويترك الشرّ ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى، وهذه عامّة في كلّ من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد، ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أولى النّاس بذلك. ا.هـ
وقد أبان القرآن الكريم عن وظيفة الداعية من الدعوة إلى الله تعالى فيما يخص أمور دينهم، فقال: (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [الشورى: 15]. وأرشد أن الدعوة إنما هي لحياة القلوب بطاعة الله والاستقامة على أمره ، كما قال: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
قال أحد السّلف في خطبته الّتي ذكرها ابن وضّاح في كتاب الحوادث والبدع له: «الحمد لله الّذي امتنّ على العباد بأن جعل في كلّ زمان فترة من الرّسل، بقايا من أهل العلم، يدعون من ضلّ إلى الهدى، ويصبرون على الأذى، ويبصّرون بكتاب الله أهل العمى، كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وضالّ قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد، فما أحسن أثرهم على النّاس، وما أقبح أثر النّاس عليهم، يغلبونهم في سالف الدّهر، وإلى يومنا هذا، فما نسيهم ربّك، وما كان ربّك نسيّا، جعل قصصهم هدى، وأخبر عن حسن مقالتهم فلا تقصر عنهم، فإنّهم في منزلة رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة ( التفسير القيم لابن القيم: 431) .
فهذه وظيفة الدعاة، وعلى هذا:
لا يجوز للداعية أن يعرض دعايات تجارية؛ لأنه هنا يكسب بدينه ويتاجر بدعوته، وذلك لما يلي:
أولا – أن قيام الداعية بنشر دعاية تجارية، يهون الدعوة والدعاة في عيون الناس، فيضعف دينهم، ويفقدون الثقة في الدعاة، مما يؤثر سلبا على دينهم.
ثانيا – أن قيام الداعية بنشر دعاية تجارية خيانة لأمانة الدعوة إلى الله تعالى، واستغلالا للدعوة في التربح الدنيوي الذي ينبغي للداعية أن يتنزه عنه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال من قرأ القرآن، فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله. (رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد)، فينبغي لصاحب الدعوة إلى الله أن يتنزه عما يفعله عوام الناس، وأن يصون دعوته.
وكما قال القرطبي: ينبغي لصاحب القرآن .. أن يصون نفسه عن الشبهات، ويتواضع للفقراء، ويتحلى بالحلم والوقار، والرفق والأدب، ويؤمن شره ويرجي خيره، ويتعلم أحكام القرآن. قال تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب) ولذا قال الضحاك: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها ص 18 جـ 1
ثالثا –أن الاتجار بالدعوة محرم شرعا، وهو مما يزل قدم الدعاة في مزالق ينبغي التنزه عنها.
رابعا – وأقل ما في الأمر أنها من الشبهات التي يتنزه عنها الدعاة إلى الله تعالى لما رواه النعمان بن بشير – رضي الله عنه – في الصحيحين قال: [سمعتُ رسول الله – ﷺ- يقول – وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيهِ – «إنّ الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وبينها أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعِرْضهِ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يَوشك أن يرتَعَ فيه، ألا ولكِّل ملك حمى، إلا وإنَّ حمى الله محارمُه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلَحتْ صلَحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وَهِي القلبُ» أخرجه البخاري ومسلم، وأخرجه الترمذي إلى قوله: «محارمه» وأخرجه أبو داود إلى قوله: «وقع في الحرام» .
ولأبي داود: أنَّ رسولَ الله – ﷺ- قال: «إن الحلالَ بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، وسأضرِبُ لكم في ذلك مثلاً: إن الله حَمَى حِمى، وإن حِمَى الله ما حرَّم، وإنه مَن يرْتَعْ حول الحِمَى، يُوشِك أن يخالطه، وإنَّه مَن يُخالط الرِّيبة يُوشكُ أن يَجسُرَ » وأخرج النسائي رواية أبي داود.