شرع المسلمون في فتح جزيرة صِقِلِّية بجنوب إيطاليا في عهد زيادة الله الأغلبي – والي إفريقية (تونس حاليًا) – بقيادة الأمير الفقيه أسد بن الفرات في سنة 212هـ (827م)، واستكملوا فتحها بالكامل سنة 289هـ (902م)، فظلت الجَزيرة تابعةً للأغالبة طوال حكمهم، ثم انتقلت إلى أيدي الفاطميين مع أواخر القرن الثالث الهجري، فانتشر المسلمون في الجزيرة، وانتشر معهم دين الإسلام وثقافة العرب، وبُنيت المساجد بكثرةٍ في معظم مدنها، وعندما سيطر الملك النورماندي روجر الأول على صِقِلِّية سنة 484هـ (1091م) لم يقضِ على مَنْ بها من المسلمين، وإنما قرَّبهم إليه، وعيَّن كثيرًا منهم في الوظائف الإدارية، واحتضن الثقافة الإسلامية، وأسبغ الهبات والعطايا على العلماء المسلمين. ثم استدعى الملك روجر الثاني الجغرافيَّ الكبير الشريف الإدريسيّ (ت 562هـ = 1165م)، وكلفه برسم خريطة للعالَم، ووضع كتاب لوصفها، فاستقر الإدريسي بصِقِلِّية ، ومن هنا لُقب بالصقليِّ، كما نال مكانة مرموقة في دولة ابنه الملك وليام الأول. وقد كان معظم هؤلاء الملوك النورمانديين يتقنون اللغة العربية أيما إتقانٍ؛ فكانوا يقرأون الكتب العلمية المختلفة بها. ولهذا، نعم المسلمون في كنفهم بالعطف والرعاية والحماية.
وقد زار أبو الحسن ابن جُبَير الأندلسي (ت 614هـ = 1217م) صِقِلِّية في شهر رمضان سنة 580هـ (ديسمبر 1184م)، فوجد صاحبها الملك غليوم الثاني (1166-1189م) يُحسن معاملة مسلميها، كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله والمهم من أشغاله، حتى إن ناظر مطبخه رجلٌ من المسلمين. ولولا استقبال هذا الملك للمركب الذي كان على متنه ابن جبير لاستُعبد جميع مَنْ عليه من المسلمين – بمَنْ فيهم ابن جبير نفسه على حد قوله -، وذكر ابن جبير أن حاشية الملك المذكور كلهم من المسلمين، وأن بمدن صقلية المساجد والأسواق المختصة بالمسلمين.
ثُمَّ آل حكم صِقِلِّية إلى أسرة هوهنشتاوفن الألمانية – أباطرة الدولة الرومانية المقدسة – في سنة 643هـ، فعانى الإمبراطور فردريك الثاني (1198-1250م) كثيرًا من جماعات المسلمين التي كانت تعتصم بمناطق صِقِلِّية الجبلية، وتهدد بغاراتها المتتابعة الأمن والسلام في الجزيرة، فسعى حتَّى نقل هذه الجماعات – وكان عددها يقرب من 160,000 مسلم – إلى شمال صِقِلِّية ، وخصص لإقامتهم مدينة لوجارة – لوتشرا الحالية (Lucera) بجنوب إيطاليا -، وجعلها مستوطنة عسكرية، فبنى بها الحصون والقلاع، واتخذ من جنود هؤلاء المسلمين مماليكَ وحرسًا خاصًّا به، طالما استعان بهم في حروبه الداخلية، وخاصّة ضد البابا، وعهد إلى غير الجنود بفلاحة الأرض وزراعتها، وقنع بأن فرض عليهم نوعين من الضرائب: ضريبة على الأرض نظير تمتعهم باستقلالها، وضريبة على الرؤوس، سمَّاها باسمها العربي (الجِزية)، نظير ممارستهم لشعائرهم الدينية، فاتخذت هذه الجالية الإسلامية لها قاضيًا خاصًّا بها، ورئيسًا منها هو قائد حاميتها، وفقهاء يُفقِّهون الأفراد في أمور دينهم، وبنت المساجد.
وكان ملوك صِقِلِّية على علاقةٍ طيبة بالأيوبيين في مصر، وبدأت العلاقات السياسية تتوثق بينهما منذ عهد الإمبراطور فردريك الثاني والسلطان الملك الكامل محمد؛ ففي سنة 624هـ ساءت العلاقات بين الملك المُعظَّم عيسى صاحب دمشق وبين أخويه الكامل محمد صاحب مصر والأشرف موسى صاحب جزيرة ابن عمر وبلاد الشرق، وراح كلُّ فريقٍ يسعى للاتفاق مع حليفٍ يؤيده في نضاله المرتقَب ضد الفريق الآخر؛ فاتصل المُعظَّم عيسى بالسلطان جلال الدين خُوَارِزْم شاه ووثَّق علاقته به، فلمَّا علم الكامل محمد بهذا، سعى من ناحيته لعقد صلات الودِّ بينه وبين فردريك الثاني، وطلب منه الحضور إلى بلاد الشام ليسلِّمه بيت المقدس. وقد وافقت هذه الدعوة رغبة فردريك؛ فقد كان على أُهبة الخروج بحملةٍ صليبية إلى الشرق (المعروفة بالحملة الصليبية السادسة سنة 626هـ = 1229م)؛ إجابةً لنداء البابا المتكرر؛ ولأن فردريك أصبح صاحب حقٍّ شرعي في بيت المقدس لمَّا تزوج من الملكة إيزابلا وريثة بيت المقدس في سنة 622هـ = 1225م.
ومن هنا وضع الكامل وفردريك اللبنات الأولى لعلاقات الودِّ والصداقة بين مصر وصِقِلِّية، وستظل هذه العلاقات قائمةً بعد موتهما، فيتوالى تبادل الرُّسل والهدايا بين الدولتين؛ فبعد موت الكامل سنة 635هـ (1238م)، خلفه على عرش مصر ابنه العادل الثاني، فحرص فردريك على أن تظل علاقات الودِّ قائمة بينهما كما كانت مع أبيه، وترددت الرُّسل بينهما. ولما قبض الملك الصالح نجم الدين أيوب على أخيه العادل وخلفه على عرش مصر سنة 637هـ (1240م)، توثقت أيضًا العلاقات بينه وبين فردريك، وأرسل إليه سفارة، على رأسها الشيخَ العَلَّامَة سِراج الدين الأُرْمَوِيّ (ت 682هـ)، فأقام عنده مكرمًا مدة، وصنَّف له كتابًا في المنطق.
ولما مات فردريك الثاني سنة 648هـ (1250م)، خلفه ابنه كونراد الرابع، غير أنَّه لم يلبثْ في الحكم إلا قليلًا، ومات سنة 652هـ (1254م)، فخلفه أخوه مانفريد. وقد حافظ الأَخوان على التقاليد التي وضعها أبوهما، فكانت العلاقات بينهما وبين حكام مصر علاقات ودٍّ وصداقةٍ.
ففي شهر رمضان سنة 659هـ (أغسطس 1260م) أرسل السلطان الملك الظاهر بيبرس المؤرخَ القاضي جمال الدين ابن وَاصِل الحمويّ (604-697هـ = 1208-1297م) في سفارةٍ إلى مَانْفَرِيد بن فردريك الثاني (652-663هـ = 1254- 1266م) صاحب صِقِلِّية؛ ليتخذ منه حليفًا ضد المغول، مصحوبًا بلفيفٍ من الهدايا النفيسة، علمًا بأن ابن واصل كان قد التقى بالإمبراطور فردريك الثاني في بلاد الشام، على حد قول المؤرخ الإيطالي ميكيلي أماري (Michele Amari).
وهنا يجدر بالتنويه أن من الشروط الواجب توافرها في أيِّ رسولٍ أن يكونَ من أهل الشرف والبيوتات، ذا همةٍ عالية؛ فالرسول هو الناطق باسم السلطان، والممثل لشخصه، فإنْ قصَّر في أداء مهمته، فهذا يعني أنه أساء إلى مَنْ أرسله. وقد عدَّد أبو الحسن الماورديّ أهم صفات الرسول، فمنها: أن يكونَ جميل المنظر، كامل المخبر، صحيح العقل، حاضر البديهة، ذكي الفطنة، فصيح اللهجة، جيِّد العبارة، ظاهر النصيحة، موثوقًا بدينه وأمانته، حسن الاستماع والتأدية، كتومًا للأسرار، عفيفًا عن الأطماع، غير منهمكٍ في الفواحش والسَّكَر والشرب؛ فـ”الرسول دالٌّ على المُرسِل” – كما قال عمرو بن العاص -، وهو ليس ممثلًا سياسيًّا لدولته فحسب، بل ممثلًا أيضًا للإسلام. وهذه الصفات تنطبق على ابن وَاصِل؛ فهو من بيتٍ حمويّ عريق، اشتغل أبوه بالقضاء في معرة النُّعمان وحماة، وكان هو من أذكياء العالم، اشتغل بالعلم الشرعي، وبرع في العلوم العقلية، كالمنطق والطب، وتولَّى التدريس في الجامع الأقمر بالقاهرة سنة 644هـ (1246م)، وقضاء الجيزة وإطفيح سنة 655هـ (1257م).
شط بنا الحديث في صفات الرسول، ونعود إلى سفارة ابن واصل، فلما وصل إلى صِقِلِّية، أقام بها بمدينة برلت – بارليتا الحالية (Barletta) بجنوب إيطاليا -، وفيها اجتمع بالإمبراطور مَانْفَرِيد مرارًا، وكان هذا الإمبراطور صورةً من أبيه فردريك، من حيث عنايته بالعلوم واشتغاله بها؛ فقد وصفه ابن واصل بأنه كان متميزًا، محبًّا للعلوم العقلية، ويحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس في الهندسة، فلا غرو أن يرحب مانفريد برسولٍ مثقف على شاكلة ابن واصل في بلاطه، ويتحدث معه بالعربية، وفي أحد مجالسه أحضر له مانفريد الأرْغُل، وضرب به قُدَّامه، مبتغيًا اختباره، وهو رجل دين مسلم ورسول ملك عظيم، وليعرف مدى تأثير الموسيقى عليه، وأثرها في حركاته وأقواله، وكان ابن واصِل عالِمًا بالموسيقى؛ إذ كان قد درس أصولها النظرية على يد شيخه أبي عمر عثمان المصري المعروف بابن الحَاجِب (ت 646هـ = 1248م). وحريٌّ بالذكر أن ابن وَاصِل كان من سجيته أن يحتدُّ في البحث، ويحمارّ وجهه في أثناء المناقشات، وهذا يعني أن مزاجه عصبيٌّ، سريع التأثر؛ لذا كاد يستخفه هذا الطرب، لكنه لم ينسَ في هذا المجلس أنه فقيهٌ وأنه رسولٌ من قِبَل الظاهر بيبرس، لذلك اضطر أن يكبت شعوره، وأن يصطنع الوقار، فلم يتحرَّكْ ولم يهتز بل تثبَّت، وما أظهر لهم خِفَّةً لذلك ولا طربًا، غير أنه لمَّا قام من مجلسه هذا وجدوا تحته نقط دم؛ بسبب أنه ظل يحكّ كعبيه في الأرض إلى أن أدماهما، وهو ما يسميه تودوروف بقشعريرة اللذة، فعظم أمر ابن واصل عند مانفريد، فقال له: “يا قاضي! أنا عندي ما أسألك عنه: لا فقه ولا لغة”، ثم سأله ثلاثين سؤالًا في علم المناظر (البصريات)، فبات ابن واصل ليلته تلك، وصبَّح مانفريد بالجواب عنها على هيئة رسالة، ولم يكنْ معه في سفره هذا كُتب، وإنما ألَّفها عن ظهر قلبٍ، فلما رأى مانفريد هذه الرسالة – التي نسبت إليه، فعُرفت بالإنبروريَّة -، صلَّب على وجهه عَجَبًا، وقال: “هكذا يكون قسيس المسلمين!”.
وقد لفت انتباه ابن واصل أن أكثر أصحاب مانفريد الذين يتولون أموره الخاصّة مسلمون، بل يُعلَن في معسكره بالأذان والصلاة، فهو ليس العربي الوحيد بين الأعاجم، وهذا جعله يعرف من سرنرد – أحد المسلمين المقربين من الإمبراطور مانفريد – أن فردريك الثاني كان قد أرسله في السرِّ رسولًا في زيِّ تاجرٍ إلى الملك الصالح نجم الدين؛ ليُعرِّفه عزم لويس التاسع – ملك فرنسا – على قصد الديار المصرية بحملته المعروفة بالحملة الصليبية السابعة سنة 646هـ (1248م)، ويحذِّره منه، ويشير عليه بالاستعداد له، فاستعد له الملك الصالح. كما ذكر ابنُ واصل عدة أخبار تتعلق بنزاع البابا مع فردريك الثاني ومع ولديه كونراد الرابع ومانفريد، وانتصار البابوية عليهم في نهاية المطاف بعد أن قُتل مانفريد على يد شارل الأول الأنجوي، أخي لويس التاسع في سنة 1266م، وتقلص دور مسلمي صِقِلِّية، وصارت صِقِلِّية فردوسًا آخرَ مفقودًا.
فلله دَرُّ ابن حمديس الصِّقِلِّيّ (ت 527هـ = 1133م)؛ إذ قال:
ذكرتُ صِقِلِّية والأسى
يُهيِّج في النفسِ تذكارَها
ومنزلةً للتصابي خَلَتْ
وكان بنو الظَّرف عُمَّارَها
فإنْ كُنْتُ أُخْرِجتُ من جَنَّةٍ
فإني أُحَدِّث أخبارَها
ولولا ملوحةُ ماء البكاء
حسبتُ دموعيَ أنهارَها
ولم يكتفِ ابن واصل بأداء مهمته الدبلوماسية، بل ظل يتجول في مدن جزيرة صقلية زهاء العام، وزار مدينة لوجارة، فوجدها معسكر المسلمين في قلب صِقِلِّية؛ فأهلها كلُّهم مسلمون، وتُقام الجمعة فيها، ويُعلَن فيها بشعائر الإسلام، وذلك منذ عهد فردريك، ورأى أساس دار العلم التي كان مانفريد يزمع تأسيسها بها؛ ليشتغل فيها بجميع أنواع العلوم النظرية.
وعلى إثر نجاح ابن واصل في سفارته، ارتفعت مكانته لدى الملك الظاهر بيبرس، فقرَّبه إليه، ولازمه في إقامته وسفره؛ ففي شوال سنة 661هـ سافر الظاهر بيبرس إلى ثغر الإسكندرية؛ ليتفقد حال حصونه وأسواره؛ وليطلع على أوضاع أهله، فزار معه ابن واصل الشيخين الصوفيين: أبي القاسم القَّبَّارِيّ، وأبي عبدالله الشَّاطبي.