أوتي بعض الناس سعةً في العلم والأثر، وطولاً في العمر، مع جلد على الشغل، ووفرة في الطموح، وصلابة في الإرادة، متوجة برجاحة في العقل وحدة في الذاكرة، تؤهلهم ليكونوا مختلفين عن غيرهم، مخالفين للمألوف في دنيا الإنجاز، ومتفوقين على التوقعات في أعمالهم وآثارهم.
وليس مستنكراً أن يقف المرء من هذا اللون من الناس موقف التقدير لنبوغهم، والاعتراف بفرادتهم، دون أن يلزم من ذلك موافقتهم في توجهاتهم أو موالاتهم في مواقفهم، ولكنه الإنصاف الذي لا يمنع صاحبه من الإعجاب بمحامد الخصوم كما لا يحول بينه وبين الاستياء من مثالب الأصدقاء.
وبهذه الروح التي تتوخى الموضوعية، يحسن بنا أن نطالع سير المستشرقين، لنجد فيها عظة ومتعة معاً.
صاحبنا في هذه المقالة هو اجنتسيو جويدي، المستشرق الإيطالي الذي يعد آية من آيات عصره، في سعة المعرفة، وتنوع الاهتمامات على نحو لم يمنعه من التميز في كل واحد منها، وهو كذلك شخصية محورية بين أقرانه من رجال الاستشراق الإيطاليبن، الذين كانوا إليه يفيئون، ومن مائدته يأكلون، ومن معارفه يتزودون.
في منتصف العام ١٨٤٤، وفي روما، عاصمة الكاثوليكية، وحاضنة الفاتيكان، ولد اجنتسيو جويدي، لأسرة كاثوليكية متدينة، تعيش في سعة ورخاء من أمر دنياها، وتسكن في محلة عريقة وراقية من روما، ويعمل الكثير من أفرادها في مراكز جيدة، فمنهم التاجر، ومنهم القسيس، ومنهم الموظف الرفيع، وفي بيئة منزلية تغذي الموهبة وتحسن التهيئة للمستقبل عاش الطفل جويدي، يتلقى التربية السلوكية والمعرفية كما يليق بأسرة راقية، وأكسبه هذا انتماءً حقيقياً إلى الكنيسة الكاثوليكية، كما أكسبه افتخاراً بمدينته روما، جعله يقبل بشغف على تاريخها، يحاول أن يستوعبه ويعرفه، منذ كانت روما إلى أن كان هو!
كان جويدي ذا شخصية جادة، مولعة بالتعلم، وكان موهوباً إلى الغاية في تعلم اللغات، ذا نشاط اجتماعي محموم، ورغبة في الاطلاع والقراءة، فشمّر عن ساعديه، وأخذ يتناول اللغات كما يتناول الآكل الطعام، لغةً بعد لغة، يأخذ اللغات عن أبنائها الموجودين في روما، يستمع إليهم، ويحادثهم، ويطالع نصوصاً بتلك اللغة التي يتعلمها، ويكتب بها، ويحاول أن يبلغ مبلغاً حسناً من الإتقان لما أمكن من اللغات.
وجويدي لا يشرع في العمل ثم يتركه في منتصف المشوار، بل يمضي فيه إلى النهاية، وهذا يفسّر لنا كيف بلغ جويدي من العلم باللغات شأواً فوق المعتاد!
ولنأخذ وجهاً واحداً من أوجه جويدي، وهو وجه العالم اللغوي الكبير:
فجويدي عالمٌ بعدد غير من اللغات الشرقية، يتقن الحديث بها، ويحسن فقهها ويغوص في أعماقها، حتى إنه لقادر على أن يؤلف في نحو تلك اللغات وبلاغتها. درس اللغة العربية، فصيحةً وعاميةً، حتى لقد بلغ من إتفان العربية أن صار يتحدث بها بطلاقة كطلاقة أهلها، وصار يتقنها تحدثا وقراءة وكتابة، وكان من حسن حظه أن تعرف إلى طائفة من رجال الكنيسة القادمين من لبنان، فجعل يرافقهم ويجالسهم، ويتعلم على أيديهم العربية على مرور الوقت، وبكثير من الحرص والذكاء والجد بلغ مراده من اللغة العربية، وصار قادراً على تعاطي التراث العربي، مطالعةً وبحثاً وتنقيباً وتحقيقاً.
وجد جويدي أن ما فعله مع العربية يمكن أن يفلح مع غيرها من اللغات، فلم يقصّر في تكرار التجربة، وانصرف إلى ما توفر بين يديه من اللغات السامية، فتعلم العبرية حتى حذقها وصار واحداً من المراجع المعدودة في المعرفة بها، وأوغل في الزمن السحيق فأخذ يتعلم اللغات المنقرضة التي كانت سائدة في جنوب الجزيرة العربية، كالحميرية والمعينية، كما تعلم اللغة الحبشية، وغدا واحداً من المعدودين في فهمها والحذق بنحوها وبيانها.
ومن هنا يظهر الوجه الثاني لجويدي، وهو وجه المحقق والباحث: فقد جعل جويدي من ركام معرفته المنظمة سبيلاً إلى العمل البحثي الشاق والشائق في آن، إذ جعل ينتج في مختلف الفنون التي يعنى بها، وينجز إنجازات علمية معتبرةً، فقد قام بتحقيق كتاب “كليلة ودمنة”، وشارك في تحقيق ٧٦٠ صفحة من تاريخ الإمام ابن جرير الطبري، وحقق شرح ابن هشام لبردة كعب بن زهير “بانت سعاد“، وانصرفت همته لدراسة النحو العربي دراسة عميقة، والاطلاع على المخطوطات العربية اطلاعاً واسعاً، وفهرسة بعض أمات الكتب فهرسةً تقرّب للمطالعين أسماء الأعلام في عدد من كتب التراث العربي، كخزانة الأدب للبغدادي والأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وطائفة من المخطوطات بلغات عدة.
أما الوجه الثالث لجويدي، فهو وجه الأستاذ الجامعي، فقد اشتغل بالتدريس الجامعي مدة تزيد عن أربعين عاماً في جامعة روما، ولأن سمعته تجاوزت حدود بلده، فقد دعي ليكون أستاذاً زائراً في الجامعة المصرية عام ١٩٠٨ فلبى الدعوة، وألقى سلسلة من المحاضرات بلغة عربية فصيحةٍ بزّ بها كثيراً من أهلها، ولم لا وهو الكاتب والباحث والناظم والمحقق بأكثر من لغة؟!
والوجه الرابع الذي ستعرض له هذه المقالة، هو وجه رجل الكنيسة، فقد كانت لجويدي صلة قديمة جداً بالكنيسة الكاثوليكية، ابتدأت منذ طفولته المبكرة ونشأته في عائلة خرجت عدداً من رجال الدين، كما أنه اتخذ لنفسه أصدقاء ونعلمين من رجال الفلتيكان، وكانت وظيفته الأولى في مكتبة الفاتيكان، وقام بخدمة الكنيسة من خلال دراسة تاريخها والكتابة والتحقيق في أيامها القديمة، وقد حذق اللغة الحبشية (الأمهرية) ونشر عدداً من النصوص الحبشية ذات الصلة بالكنيسة ورجالها وترانيمها.
عاش جويدي تسعين عاماً، ملأى نشاطاً علمياً واجتماعياً، ولما حان أجله مرض مرضاً قصيراً لم يمهله أكثر من ليلتين، ثم غادر الحياة في روما عام ١٩٣٥ مخلفاً أولاداً مخلدين من الكتب، وولداً من لحم ودم ورثه في مسيرته الاستشراقية.